اتبعت
تركيا في العام 2022 سياسة متوازنة وأكثر استقلالية في علاقاتها مع
روسيا والغرب، وفي ذات الوقت اتجهت إلى التقارب مع دول وجهات كانت على عداء معها في منطقة الشرق الأوسط منذ سنوات.
ولعبت تركيا دورا دبلوماسيا تجاه الأزمات العالمية التي نجمت عن الحرب الروسية الأوكرانية، وسعت للوساطة بين
الغرب وروسيا لإنهاء الحرب، وأصبحت بوابة للدبلوماسية ما بين الجهات الفاعلة.
الموقف من الحرب الأوكرانية والعلاقة مع روسيا
وسجلت تركيا موقفا متوازنا تجاه الأزمة الأوكرانية، وفي الوقت الذي أدانت فيه روسيا بسبب الحرب، فإنها لم تنضم إلى العقوبات التي فرضها حلفاؤها الغربيون، ونجحت في دور الوساطة في ملفات عدة أبرزها "ممر الحبوب" عبر البحر الأسود، والجمع بين استخبارات موسكو والولايات المتحدة في أنقرة.
ورغم التعاون مع أوكرانيا في مجال الصناعة الدفاعية، فقد حافظت تركيا على علاقاتها مع روسيا لاسيما في المجالين الاقتصادي والسياسي إلى جانب الطاقة وعملية أستانا السورية.
وجراء الحرب، فقد سعت تركيا لإرساء الأمن في البحر الأسود، وهو أمر حيوي لأمن تركيا واقتصادها، وعقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لقاءات منفردة مع زعيمي روسيا وأوكرانيا، وكان "ممر الحبوب" الذي تحقق لمواجهة أزمة غذائية عالمية، شكل نجاحا دبلوماسيا لأنقرة.
ومع بداية الحرب، فإنه كان تنفيذ تركيا لـ"حالة الحرب" لاتفاقية مضيق مونترو تطورا لم تعترض عليه روسيا، حيث لم تتمكن العناصر البحرية لأعضاء الناتو غير الساحليين من دخول البحر الأسود.
وأسهمت الحرب الأوكرانية وأزمة الطاقة، لإطلاق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تصريحات، يؤكد فيها على أهمية تركيا أن تكون مركزا لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا.
العلاقة مع الولايات المتحدة
لم تشهد العلاقات التركية الأمريكية أي تحسن في العام 2022، وما زالت القضايا الشائكة بين البلدين تراوح مكانها، وسعت تركيا لشراء مقاتلات "أف16" لكن شروطا وضعت على عملية الصفقة تتعلق بعدم استخدام تلك المقاتلات "في الانتهاكات المستمرة للمجال الجوي اليوناني"، وعدم استخدامها ضد وحدات حماية الشعب الكردية، وأن توافق تركيا على انضمام السويد وفنلندا لحلف شمال الأطلسي (الناتو).. ورغم ذلك فقد ألغيت تلك الشروط عند الموافقة على ميزانية الدفاع الأمريكية.
وواصلت الولايات المتحدة دعم وحدات حماية الشعب الكردية التي تصنفها تركيا "كيانا إرهابيا"، ولم تستجب واشنطن للمطالب التركية بتسليمها قادة منظمة "غولن" المتهمة بمحاولة الانقلاب الفاشلة في 2016.
ورفضت الولايات المتحدة عملية عسكرية تركية ضد وحدات حماية الشعب الكردية في الشمال السوري، بعدما تبين أنها تقف خلف التفجير في شارع الاستقلال في إسطنبول في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
العلاقة مع الاتحاد الأوروبي
لم يحدث تغيير كبير في العلاقات التركية الفاترة مع الاتحاد الأوروبي. لكن أنقرة حافظت على مستوى منخفض من العلاقات المؤسسية مع الاتحاد الذي ترفض دول فيه ضمها إليه.
وانتقد الاتحاد الأوروبي في تقريره الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر، تركيا في مسألة حقوق الإنسان، لكنه في الوقت ذاته سلط الضوء على جهودها المبذولة بشأن طالبي اللجوء ودورها في الوساطة في الحرب الروسية-الأوكرانية.
ويعد التوتر التركي-اليوناني في منطقة شرق البحر المتوسط أحد الأسباب الرئيسية للتوتر في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي.
العلاقة مع اليونان
وكان العام 2022 امتدادا للتوتر بين تركيا واليونان رغم الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس إلى إسطنبول ولقائه أردوغان، لكن العلاقات اتخذت منحى توتريا بعد خطابه أمام الكونغرس ومطالبته بعدم منح واشنطن أنقرة طائرات "أف16" في أيار/ مايو الماضي.
واحتجت تركيا، على نشر أثينا مدرعات أمريكية المنشأ في جزيرتي "ميدللي" و"سيسام" المصنفتين منزوعتي السلاح، كما أجرت اليونان مناورات عسكرية في الجزر خلافا لمعاهدة لوزان، الأمر الذي دفع بالرئيس التركي إلى التهديد بأن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه التحركات اليونانية فيها.
تعزيز منظمة الدول التركية
عززت تركيا من علاقاتها مع دول العالم التركي التي تحولت إلى "منظمة الدول التركية" في نهاية العام 2021.
وفي قمة "سمرقند" المنعقدة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أكدت دول العالم التركي على تعميق وتوسيع التعاون في إطار القيم والتقاليد والثقافة واللغة والتاريخ المشترك للشعوب التركية، والإشادة بالتقدم الذي حققته الدول التركية منذ استقلالها على الصعيد السياسي والاقتصاد الاجتماعي.
وتوافقت الدول الأعضاء على تسهيل عمليات النقل والشحن بين الدول الأعضاء ودعم الاستثمارات ومشاريع البنية التحتية في هذا المجال، وخفض تكاليف الرحلات الجوية المدنية بينها، والاتفاق على مقترح الرئيس الأوزباكستاني شوكت ميرضيايف "إعلان 2023 عام ارتقاء الحضارة التركية".
العلاقات مع الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط
اتبع الرئيس التركي، استراتيجية "تصفير المشاكل" مع دول المنطقة، وبعد تطبيع العلاقات مع الإمارات فقد واصلت أنقرة جهود التطبيع مع السعودية ومصر وسوريا والاحتلال الإسرائيلي بعد سنوات طويلة من العلاقات المتأزمة.
العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي
وكانت زيارة رئيس دولة الاحتلال إسحاق هرتسوغ في آذار/ مارس الخطوة الأولى لتمهيد تطبيع العلاقات بين تل أبيب وأنقرة، والتي تلتها زيارات متبادلة بين وزراء الخارجية.
وتعززت العلاقات التركية الإسرائيلية مع تفكيك أنقرة لخلية إيرانية حاولت اغتيال إسرائيليين في إسطنبول، والتقى أردوغان برئيس وزراء الاحتلال السابق يائير لابيد في أيلول/ سبتمبر في نيويورك، وأجرى وزير الجيش بيني غانتس زيارة لأنقرة في تشرين الثاني/ نوفمبر، تلا ذلك تبادل السفراء بين الجانبين.
العلاقة مع الإمارات والسعودية
شهدت العلاقات التركية الإماراتية حركة تطبيع سريعة، وزار الرئيس التركي أبو ظبي في شباط/ فبراير الماضي، تلتها زيارة أخرى في أيار/ مايو.
واكتسبت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين زخما كبيرا، وخصصت الإمارات 10 مليارات دولار للاستثمار في تركيا.
وقطعت تركيا مسافة كبيرة في تطبيع العلاقات مع السعودية في العام 2022، ونقلت أنقرة قضية محاكمة المتهمين بجريمة مقتل الصحفي جمال خاشقجي إلى السعودية في نيسان/ أبريل الماضي.
وبعد إغلاق القضية التي كانت تشكل عقبة في العلاقات بين البلدين، فقد زار الرئيس التركي السعودية لمدة يومين في نيسان/ أبريل، تلتها زيارة مماثلة من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى أنقرة في حزيران/ يونيو.
وبينما رفعت السعودية الحظر الاقتصادي عن تركيا، فقد أعلنت الرياض أنها ستستثمر 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي.
العلاقة مع مصر
وواجهت عملية التطبيع بين أنقرة والقاهرة تعقيدات طوال العام 2022، وأعلن وزير الخارجية المصري سامح شكري في تشرين الأول/ أكتوبر عن تعليق العملية بسبب السياسة التركية تجاه ليبيا، ولكن في تشرين الثاني/ نوفمبر برز التطور في مصافحة أردوغان لرئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي خلال افتتاح كأس العالم في قطر، في أول لقاء بينهما.
وفي الوقت الذي اعتبر فيه الجانبان أنها خطوة في تطوير العلاقات بينهما، فإن مرحلة الانتقال إلى تبادل السفراء لم تتم.
تقييم السياسة الخارجية في 2022
الخبير التركي مته سوهتا أوغلو ذكر لـ"عربي21"، أن الاحتياجات البراغماتية لتركيا دفعت في إحداث تغييرات في السياسة الخارجية في العام 2022، لاسيما مع تزايد الصعوبات السياسية والاقتصادية التي تواجهها، ما دفع الحكومة لإجراء تقييمات جديدة.
وأضاف لـ"عربي21"، أن تركيا طبقت اتفاقية مونترو بسبب الحرب، وأعطت رسائل لردع سفن الأطراف الأخرى بشأن العبور عبر المضيق، ومنعت من تحويل البحر الأسود إلى ساحة صراع، وموسكو لم تبد انزعاجا من ذلك، وعند النظر إلى ذلك يتبين أنها تتصرف في منطقة حكم ذاتي منفصلة عن الغرب وبشكل أقوى.
ونوه إلى أن الحرب الأوكرانية وجهت الانتباه إلى تركيا من حيث الخدمات اللوجستية، لاسيما مع فقدان الطريق الشمالي عبر روسيا الذي يوفر وصول أوروبا إلى آسيا، وظائفه، ما زاد في أهمية الممر الأوسط الذي يمر عبر تركيا.
ولفت إلى أن الهجوم الروسي على أوكرانيا غير تماما السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي وتوقعاته الدفاعية والاقتصادية بشكل كامل، ورغم ذلك فلم يمنح تركيا عضويته التي سعت إليها مع مئوية الجمهورية، ولا ترى العديد من العواصم في الغرب تركيا كدولة مرشحة للاتحاد الأوروبي في ظل الظروف الحالية، ولكن باعتبارها "شريكا إلزاميا" يمكن التعاون معه في القضايا التي تتداخل فيها المصالح.
وأوضح أنه على الرغم من زيادة الحرب الأوكرانية لأهمية تركيا فإن تزعزع الثقة بين أردوغان والاتحاد الأوروبي منذ أكثر من عشر سنوات، تزيل إمكانية استغلال العديد من الفرص التي ظهرت في البيئة الجيوسياسية الحالية.
وأشار إلى أن العام 2022 شهد تحولا في بوصلة واشنطن نحو أثينا في مثلث العلاقات الأمريكية التركية اليونانية.
بدوره، صرح المختص التركي في العلاقات الدولية أوفوك نجاة تاشجي لـ"عربي21"، بأن تركيا لعبت دورا رئيسيا في الحرب الأوكرانية خلال العام 2022، ومنذ اليوم الأول عملت كجسر اتصال دبلوماسي رئيسي بين الغرب وروسيا.
وأوضح لـ"عربي21"، أنه في خضم الأزمات العالمية، فقد اتبعت تركيا سياسة استباقية في قضايا مثل الحرب الأوكرانية والخلاف بين أرمينيا وأذربيجان، واًصبحت دولة نشطة دبلوماسيا خلال العام 2022.
وأضاف، أنه في العام 2022 تمكنت تركيا من تطبيع علاقاتها مع دول المنطقة، وأعادت إحياء اتصالاتها الدبلوماسية مع مصر والإمارات والسعودية، وأخيرا مع النظام السوري والتي تكثفت مؤخرا.
ونوه إلى أن تركيا تركت وحيدة من قبل حلفائها الغربيين، ولاسيما الولايات المتحدة في مواجهة المشاكل الأمنية في سوريا منذ سنوات، ولاسيما مع وحدة حماية الشعب الكردية.
ماذا عن العام 2023؟
رأى نجاة تاشجي أن الجهود التي بذلتها تركيا في سوريا وأفغانستان وليبيا وأكرانيا، ولعبت فيها دورا رئيسيا فيها ستستمر بذات الزخم في العام 2023.
وتابع بأن الاستراتيجية التركية في 2023، ستعطي الأولوية للحلول النهائية، لاسيما مع اليونان و"المنظمات الإرهابية" في الشمال السوري، مع علاقة أكثر توازنا مع دول الخليج و"إسرائيل".
وبالنسبة لمصر، فأشار إلى أنه رغم الاتصالات المستمرة معها منذ فترة، ومساعي إزالة "الغيوم السوداء" في العلاقات، وإصرار أنقرة على إبقاء الحوار الدبلوماسي، فإن قضيتي ليبيا وشرق المتوسط ستكونان حاسمتين في مستقبل العلاقات خلال العام 2023.
وحول مستقبل العلاقة مع "إسرائيل"، توقع المحلل التركي أنه رغم وجود مشاكل مزمنة مع نتنياهو فإن عملية التطبيع ستستمر، ولكن ليس بذات الزخم الذي جرى في عهد لابيد، مشيرا إلى أن تل أبيب غير معنية بالتوتر مع تركيا في ظل حالة عدم اليقين مع إيران.
الخبير التركي سوهتا أوغلو، أشار إلى أن تركيا ستواصل التعاون مع الاتحاد الأوروبي، ولكن لأنها أصبحت منافسة له في مجالات الدفاع والأمن، فإن التوتر بين الجانبين سيزداد في المرحلة المقبلة.
وتابع بأن انفتاح الاتحاد الأوروبي في آسيا الوسطى، قد يسهم في جذب تركيا نحو الغرب، وعدم إنزلاقها أكثر في المدار الروسي.
وأشار إلى أن رفض تركيا لدعم العقوبات الغربية على روسيا، واتخاذها خطوات تعزز التعاون مع روسيا بشأن القضايا الاقتصادية والطاقة، يثير ردود فعل في العواصم الغربية. ومن المتوقع أن يزداد الضغط الدبلوماسي على أنقرة في الأسابيع المقبلة بشأن هذه القضية.
في غضون ذلك، قإنه في العام الجديد ستكون السويد واحدة من أهم المحاورين في علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي، موضحا أنها ستتولى الرئاسة الدورية في الاتحاد الأوروبي في بداية العام 2023، في الوقت الذي تعرقل فيه أنقرة عضوية كل من السويد وفنلندا في حلف شمال الأطلسي "الناتو" منذ أشهر.
ونوه إلى أن 2023 هو عام الانتخابات ليس فقط في تركيا، بل أيضا في اليونان وجمهورية قبرص الجنوبية، ما سيسهم في زيادة الخطاب القومي في الصراعات الحالية بين الأطراف الثلاثة.
وتوقع الخبير التركي تدفق موارد مالية ضخمة إلى تركيا في الفترة المقبلة، بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا.