يتكرر مشهد
الاحتجاجات في جنوب الأردن بسبب الأوضاع الاقتصادية وارتفاع أسعار النفط والغذاء، في واحدة من أكثر المناطق حرمانا في البلاد. من السهل للحكومة أن تلقي اللائمة هذه المرة على آثار الحرب الروسية الأوكرانية، كما كانت تلقيها في كل مرة على عوامل عدة، لم يكن من بينها يوما ضعف التخطيط الاقتصادي. لكن حقيقة الأمر، التي لم تعد خافية على أحد، أن الأزمة الحالية ليست وليدة اللحظة، وأن الحرب الروسية الأوكرانية عمقت الأزمة ولم تخلقها. نحتاج أولا أن نقر بأن الأوضاع الاقتصادية الحالية هي نتيجة تراكمية حتمية لنهج اقتصادي وسياسي، اعتمد الريعية والمساعدات الخارجية إلى حد كبير في إدارة البلاد، وأغفل بناء نظام اقتصادي قوامه الكفاءة والإنتاجية والموارد الذاتية، وتم الإصرار على هذا النهج الاقتصادي تحت ذريعة يجري تكرارها مرارا؛ بأن التوقيت غير مناسب وأن طبيعة الأردن وقلة موارده تحتم الاعتماد على الموارد الخارجية لحين قدوم الفرصة الملائمة. وحتى عندما قامت جهود وطنية عدة لوضع خطط واقعية تظهر إمكانية الانتقال من النظام الحالي إلى نظام أكثر إنتاجية واعتمادا على الموارد الداخلية، وضعت كل هذه الخطط جانبا؛ لأن مثل هذا الانتقال يفقد النظام الريعي أحد أهم أدواته وهو بناء قواعد مجتمعية معتمدة على قدرة أذرع النظام على منح هذه القواعد وظائف وامتيازات، بناء على نظام مترسخ من الواسطة والمحسوبية.
نعم، كان بإمكاننا تجنب مثل هذه الأزمات أو تخفيف آثارها إن توفرت الإرادة لاتباع نهج جديد يؤسس لنظم إنتاجية، تعالج مشكلة البطالة بشكل مؤسسي وتؤمن للناس احتياجاتها الرئيسية، وتساهم في ترشيق الجهاز الإداري الحكومي، وترفع من مستوى الإنتاجية، ومن ثم من معدلات النمو الذي يطال الجميع. ولكن الحكومات الأردنية المتعاقبة لم تفعل ذلك، بل اختلقت كل الأعذار لإقناع الناس أن الاعتماد على الذات غير ممكن، وذلك في محاولة للحفاظ على امتيازات سياسية واقتصادية لا تطال الناس كافة. حتى الضريبة المقنعة المفروضة على أسعار النفط، لا يتم احتسابها بشكل مقنع أو شرحها بشفافية للناس. حان الوقت للاعتراف أن على الحكومات المتعاقبة مسؤولية كبيرة فيما وصلنا لما نحن عليه من أزمة اليوم.
هناك سياسة أخرى للدولة الأردنية ما عادت كافية لإبقاء السلم الأهلي. لقد استخدمت حجة الأمن والأمان اللذين نعم بهما الأردن لفترة طويلة للتغطية على الإخفاقات الاقتصادية والسياسية على حد سواء. من الواضح أن الأمن والأمان عنصران ضروريان للاستقرار والازدهار، ولكنهما لا يكفيان دون سياسة اقتصادية تؤمن للناس احتياجاتهم الدنيا بشكل مستدام. كما أن سياسة إلقاء اللوم على من يعترض أو يعارض بالتكفير والتخريب سياسة لن تحل المشكلة. لا من شك أن هناك بعض التكفيريين بين المحتجين في الأزمة الحالية، وقد قتلوا الشهيد عبد الرزاق الدلابيح ورفاقه من شهداء الأمن العام البواسل، الذين قضوا في أثناء أداء الواجب. نترحم على جميع شهداء الوطن الأبرار الذين يمثلون الحصن المنيع لحماية الوطن من كل شر، ويدفعون بأرواحهم ثمن الاضطرابات التي نمر بها، والتي لا ينبغي أن تذهب هدرا. وفي الوقت ذاته، لا بد من الحذر من خلق الانطباع أن كل من يعلو صوته احتجاجا على الأوضاع الحالية هو من هؤلاء التكفيريين. فعلاوة على أن هذا الأمر غير صحيح، فإن المعالجة الأمنية في حدودها الضيقة دون الالتفات للب الأزمة لن تحل المشكلة أيضا، بل تؤدي إلى المزيد من الاحتقان وغضب الشارع.
أخلص إلى نتيجة ذكرتها مرارا في السنوات الماضية وأكررها اليوم؛ إن الأدوات الماضية التي استخدمتها الدولة الأردنية، أي القبضة الأمنية والأنظمة الريعية المعتمدة على المساعدات الخارجية كما المحسوبية، ما عادت كافية لاستدامة السلم الأهلي. كما أن الانتقال إلى نظام اقتصادي مقرون بمؤسسات سياسية تحقق سيادة القانون على الجميع ليس ترفا، بل ضرورة لاستمرار السلم الأهلي، وأن الأزمات المتلاحقة التي نعاني منها تشير وبكل وضوح، إلى أننا لا نستطيع التشبث بسياسة ترحيل المشاكل للمستقبل. علينا الاعتماد على أدوات جديدة بعدما استنفدت الأدوات الماضية كافة.
لقد حان الوقت للتخلي عن سياسة تشكيل اللجان ووضع الخطط ثم وضعها على الرف. ما نحتاج إليه هو ما أسماه المغفور له الملك الحسين، رحمه الله، ثورة بيضاء تشمل كل الأطر الحالية، مصحوبة بإرادة سياسية حقيقية، تضمن تطبيق أنظمة اقتصادية وتربوية جديدة، تشجع الابتكار والإبداع والإنتاجية فعلا لا قولا، تحت مظلة إصلاحات سياسية تضمن الشفافية وحرية التعبير وتعددية الآراء وسيادة القانون على الجميع، كما تساهم في التغلب على العقبات التي تعترض طريق التنفيذ. حان الوقت للإدراك أن العقلية الأمنية المسيطرة على عملية صنع القرار، لن تكفل وحدها الانتقال إلى الاستقرار والازدهار المنشودين.
بغير ذلك، ستستمر الأزمات الاقتصادية والسياسية واحدة تلو الأخرى، ونستمر معها في خلق الأعذار والتدابير الآنية، إلا أنها لن تجدي نفعا في الخروج من هذه الأزمات. لم يعد لدينا أي مبرر أن ندعي أننا نفاجأ بأي أزمات مستقبلية، أو أنها نتيجة مؤامرات خارجية، فنحن شركاء في المسؤولية. الحل بيدنا، كما أن المستقبل المظلم، لا سمح الله، سيكون نتيجة إصرارنا على الوضع القائم.
القدس العربي اللندنية