إن ما يميز الأمم والشعوب المتخلّفة وما يضمن بقاءها داخل نطاق
التخلف إنما يتمثل في أحزمة الأكاذيب والأساطير التي يبنيها الاستبداد من حولها
ليمنعها من مغادرة أسوار الحظيرة التي رُسمت لها حدودا ووظيفةً. ومن بين أرقى
الأساطير المؤسسة لحضائر الاستبداد
العربي إنما تتمثل في أسطورة
الوطنية الكاذبة
والتي هي واحدة من أرفع الأحزمة التي تشد وسط الاستبداد وتمدّ وعيه بكل أسباب
الحياة.
الوطنية في المجال العربي امتداد طبيعي لطور الاستعمار المؤسِّس
للحالة العربية الراهنة وهو طور سايكس بيكو أو مبدأ التقسيم الذي تقاسم الكعكة بين
المشرق والمغرب وفق لاتفاقيات النفوذ التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بين فرنسا
وبريطانيا من جهة والولايات المتحدة من جهة ثانية. الحالة التونسية أو المصرية أو
الجزائرية أو العراقية أو السورية أو اللبنانية ... هي حالات الاستعمار الجديد وهي
الوجه الجديد للاحتلال القائم داخل الدول العربية.
الوطنية اعتراف بالتقسيم
قد لا يختلف عاقلان اليوم حول وقوع ما يسمى دولا عربية اليوم تحت
حالة من الاحتلال الداخلي الذي يشكل الجيل الأخير من طرق تكبيل الشعوب واستعبادها.
لم تعد الجيوش المجيشة ولا البوارج الحربية أدوات الفعل الحضاري إلا في حالات
معينة ووضعيات دقيقة بل صار المحتل أكثر بخلا في تحريك جيوشه وحاملات طائراته. صار
الوكيل الداخلي أو الحاكم بالنيابة أشد شراسة وقدرة على استنزاف ثروات شعبه من كل
الجيوش المجيشة فضلا عن كونه يوفر للمحتل من وراء البحار صك البراءة من دماء
الشعوب ومن زنازين التعذيب ونهب الثروات.
لا يشك عاقلان اليوم في أن ما حققته الأنظمة العربية التي تسلمت
السلطة بعد "أكذوبة الاستقلال" ووهم " الدولة الوطنية "
يتجاوز أضعافا مضاعفة ما يقدر المحتل نفسه على تحقيقه. بل لقد حقق الوكيل لسيده
الخارجي أخطر المهمات وأشدها حساسية وهي القدرة على تكميم الأفواه وتكبيل القدرات
وتهجير الكفاءات واستنزاف الخيرات وتحويل الأوطان إلى جحيم طارد للبشر عبر قوارب
الموت نحو أرض المحتل القديم طمعا في العدل والرحمة وقطعة الخبز.
لا نختلف كذلك في أن الاستبداد العربي في شكله الوراثي أو الجمهوري
العسكري امتداد طبيعي لمشروع المستعمر القديم إن لم يكن أرقى أطواره وتجلياته.
لكنّ ما تحقق مؤخرا خلال الثورات العربية هو انكشاف الوظيفة الحقيقية للهياكل
الاستبدادية بعد أن اهتزت اهتزازا لم يحدث لها طوال تاريخها الممتد على أكثر من
نصف قرن.
الفقراء الوطنيون هم وقود الحروب وهم جنود الطاغية وحزامه الذي يشد وسطه لكن يوم تندلع الحروب حينها يهرب أبناء الأغنياء عبر الموانئ والمطارات مسلحين بجنسياتهم المزدوجة والأموال التي كنزوها خارج حدود الوطن.
فوجئ المستعمِر القديم بالثورات كما فوجئت بها أنظمة الوكالة المحلية
وهو ما يلغي موضوعيا كل أطروحات المؤامرة التي تنسبها التنظيمات القومية للثورات
العربية بعد أن ظهرت هذه التنظيمات حارسا شرسا للأنظمة الدموية خاصة في مصر وسوريا
وليبيا. لكن حين أدركت القوى العالمية أن النظام الإقليمي الذي زرعته مهدد بالسقوط
اتخذت قرار تحريك الوكلاء خاصة في الخليج لتنسيق مشروع سحق الثورات وتحويلها إلى
بركة من الدماء وهو ما حدث في مصر والبحرين واليمن وسوريا وليبيا.
ظهرت الأنظمة الاقليمية أو الوطنية أشد بشاعة وإجراما من كل الجيوش
المستعمرة فما كانت الجيوش الغربية باستثناء الجيش الروسي قادرة على ارتكاب
الجرائم المتوحشة التي ارتكبت في حق الشعب سوريا مثلا. وما كانت جيوش المنظومات
الديمقراطية قادرة على حرق المتظاهرين في الشوارع كما فعل نظام الوكالة العسكرية
في مصر.
من جهة ثانية لا تستطيع أنظمة الوكالة في بلادنا أن تظهر هذه الوشائج
القوية مع محتل الأمس لأن ذلك سيفقدها واحدة من أهم مظاهر الشرعية عند العوام
خاصة. فالقذافي مثلا كان أشد المعادين-لفظا- للإمبريالية والصهيونية والمؤامرة
الكونية لكنه حين صار قريبا من قبضة الثوار لم يتردد في طلب المساعد من النظام
الصهيوني كما كشفت ذلك تسريبات كثيرة. لم يتوقف بشار الأسد ومن قبله عبد الناصر
وكل جماعة المقاومة والممانعة عن الفتوحات الكلامية التي ينسفون فيها العدو الغاشم
نسفا لكنهم لم يترددوا في تأسيس أبشع النظم القمعية المكمّلة للمشروع الاستعماري.
ولم يتوقفوا يوما عن مواصلة مشروع الاحتلال في تصفية النخب الوطنية الحقيقية وصولا
إلى إسقاط آلاف البراميل المتفجرة على رؤوس أطفال سوريا في الحرب على الدواعش
الذين صنعهم النظام الإقليمي نفسه بأوامر خارجية.
الوطن والوطنية
كان لابد على أبواق النظام الرسمي أن تنفخ في ريح الوطنية حتى يُخلَق
للمواطن العربي انتماءٌ بديل عن الانتماء الحقيقي فهذا جزائري وهذا مصري وهذا سوري
وهذا مغربي ... في حين أنهم شعب واحد إن لم نقل أنهم عائلة واحدة بكل تنوعاتها
ولهجاتها. النفخ في روح الوطنية الكاذبة هو حبل نجاة الاستبداد وهو الوظيفة التي
صُنع من أجلها النظام الرسمي العربي من أجل تمزيق ما تبقى من أواصر الأمة ومن أجل
منع كل وحدة قد تهدد مصالح الكفيل من وراء البحار.
ثم كان لابد من خلق حالة من التضاد أو الصراع الدائم بين قطع الوطنية
العربية وهو ما نراه قد أثمر اليوم في حالة التمزق المرعبة التي تعاني منها
الكيانات العربية. لم يكن غزو العراق للكويت أو حصار السعودية والإمارات لقطر أو
حرب مصر على اليمن أو تآمر الجزائر على المغرب أو حرب السعودية على اليمن أو حرب
الإمارات ومصر على ليبيا ... إلا أحد الأوجه البارزة لحالة الصراع بين الكيانات
الممزقة.
لضمان حالة الانقسام الحادة كان لابد من خلق حالة داخلية من الاعتزاز
الكاذب بالانتماء إلى المزارع المقسمة وصنع منوالات ثقافية وإعلامية فردية أو
جماعية يحس عبرها الفرد أنه ينتمي حقا إلى المجال المسيّج. فرق كرة القدم مثلا
نموذج متقدم على نجاح حالة الصراع القائم بين القطع المقسّمة وليست واقعة
"أمّ الدرمان" بين فريق الجزائر وفريق مصر إلا خير دليلا على ذلك.
"الوطن للأغنياء والوطنية للفقراء" مقولة لا تخلو من الوجاهة والعمق فالوطنية علف الفقراء وأفيون المسحوقين أما الوطن وثرواته وموارده فللأغنياء من أبناء حيتان المال والأعمال.
من جهة ثانية يحرص الاستبداد العربي على رفع حالة الوطنية إلى مرتبة
القداسة التي تحولت في مرحلة متقدمة إلى المعيار الذي يصنف به الرعايا إلى وطنيين
شرفاء من جهة وغير وطنيين أو خونة عملاء من جهة ثانية. أي أن الانتماء والاعتزاز
بحدود "سايكس بيكو" وما يتضمنه من إنكار لروابط اللغة و الدين والتاريخ
والجغرافيا والمصير التي تربط شعوب الأمة من المحيط إلى الخليج هو أساس الوطنية
ومعيارها كما ترسمها سرديات الاستبداد.
أضافت ثقافة الشمولية العربية طبقة جديدة لشدّ روابط الأكذوبة الوطنية
حين ربطت بين النظام السياسي الحاكم من جهة والدولة أو البلاد من جهة ثانية فالحزب
هو الدولة والحاكم هو رمز الدولة وهو أب الشعب ... وغيرها من الأكاذيب الستالينية.
بناء عليه يكون الولاء للحزب الحاكم والمجموعات المتحكمة في ثورات البلاد وجها من
وجوه الوطنية وتعبيرة من تعبيرات حب الوطن.
"الوطنية للفقراء والوطن للأغنياء"
مقولة لا تخلو من الوجاهة والعمق فالوطنية علف الفقراء وأفيون المسحوقين أما الوطن
وثرواته وموارده فللأغنياء من أبناء حيتان المال والأعمال. الفقراء الوطنيون هم
وقود الحروب وهم جنود الطاغية وحزامه الذي يشد وسطه لكن يوم تندلع الحروب حينها
يهرب أبناء الأغنياء عبر الموانئ والمطارات مسلحين بجنسياتهم المزدوجة والأموال
التي كنزوها خارج حدود الوطن.
نحتاج اليوم وأكثر من أي وقت سبق أن نرفع عن هاته الشعوب مجموع
الأكاذيب التي تكبّل وعيها ونحتاج أيضا إلى إعادة بناء منظومات الانتماء على أسس
صادقة مهما كانت أبعاد دوائر هذا الانتماء. الوطن اليوم هو قبل كل شيء كرامة
الإنسان وحريته فلا وطن دون كرامة ولا كرامة دون حرية ولا حرية دون عدل يضمن
الحرية والكرامة في آن ويقطع ذراع الفساد والفاسدين. إن انخرام هذه القاعدة هو
الذي يفسر سبب هروب الشباب من أوطانهم بالآلاف بحثا عن أوطان بديلة تكون ضامنة
للحرية والكرامة والعدل ولو كانت خارج حدود الوطن.