منذ أن بدأ منتخب
المغرب يقدم أداء متميزا في
كأس العالم، انطلقت حالة من التراشق والجدل حول "نَسَب" هذا التميز. ترك بعض الجماهير مدرجاتهم وتوقفوا عن الهتاف لأبطالهم واشتبكوا حول الحق بالفرح بإنجاز هؤلاء اللاعبين!
ازداد التراشق عبر وسائل التواصل الاجتماعي خصوصا بعد التأهل لدور 16 ودور الثمانية، لأن الإنجاز المغربي أصبح أكثر روعة، وبات بذلك يستحق عناء إشعال "الصراع الهوياتي" عند من يعشقون صناعة التناقضات التي لا أساس لها.
شاركت الجماهير العربية بقوة بالوقوف خلف المنتخب المغربي. دخل العلم الأحمر قلب كل عربي، ودخلت أسماء "أسود الأطلس" كل بيت عربي من المحيط إلى الخليج. صار
حكيمي وزياش وبوفال وسايس والنصيري واليامق ورفاقهم جزءا من العائلات العربية التي لم تسأل عن هويتهم عربية كانت أم أمازيغية، وبات كل طفل عربي خبيرا بالرياضة المغربية وبتاريخ اللاعبين الذين حققوا هذه الإنجازات.
شعرت الشعوب العربية بالفخر وكأن انتصار المغرب هو انتصار شخصي لكل مواطن عربي، وحمل اللاعبون المغاربة علم فلسطين، هذا الشعار الذي يمثل القضية الأولى للعرب والمسلمين وأحرار العالم، فازداد افتخار العرب بمنتخبهم المغربي الذي مسهم في قلبهم النابض: فلسطين.
لم تنف الشعوب العربية في خضم احتفالها بالمنتخب المغربي أمازيغيته أو أفريقيته أو إسلامه، ولكنها احتفلت بعروبتها التي تربطها بهذا المنتخب دون نفي روابطه الأخرى، وهذه هي طبيعة الأشياء، حيث يحتفي الإنسان أولا بمشتركاته مع الآخرين دون أن ينفي عنهم اختلافاتهم عنه.
شعرت الشعوب العربية بالفخر وكأن انتصار المغرب هو انتصار شخصي لكل مواطن عربي، وحمل اللاعبون المغاربة علم فلسطين، هذا الشعار الذي يمثل القضية الأولى للعرب والمسلمين وأحرار العالم، فازداد افتخار العرب بمنتخبهم المغربي الذي مسهم في قلبهم النابض: فلسطين.
لم يقتصر الاحتفاء بالمغرب على الشعوب العربية، بل احتفى به الأمازيغ، فهو منتخب يجمع بين العرب وإخوانهم الأمازيغ ضمن دولتهم الوطنية، وضمن تاريخ مشترك لأبناء المنطقة منذ مئات السنين. شجع الأفارقة أيضا منتخب المغرب وفرحوا له، واعتبروا إنجازه انتصارا لهم، فهو مصدر اعتزاز لهذه القارة بحكم انتمائه الجغرافي، وبحكم مشاركته بكأس العالم ممثلا لها.
في مبنى مجلس النواب التركي، شاهد بعض أعضاء المجلس مباراة المغرب ضد البرتغال، ووقفوا انتشاء وفرحا عندما أعلنت صفارة الحكم انتقال المغرب للدور نصف النهائي. نقلت الفيديوهات المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي تفاعل معلقين أتراك ومن دول إسلامية أخرى مع فوز المغرب. اجتمع آلاف الإندونيسيين في مشهد عظيم يغنون المدائح النبوية أثناء الاحتفال بفوز المغرب على البرتغال. وامتلأت مدرجات ملاعب قطر بعشرات الآلاف من المشجعين العرب والأفارقة والمسلمين للهتاف للاعبي المنتخب المغربي. هو احتفال عربي إسلامي أمازيغي أفريقي، إذن.
لم يطرح معظم المشجعين والمتعاطفين والمنبهرين بإنجاز المغرب سؤال الهوية، لأن كل واحد منهم يرى أن جزءا من هوية المغرب تشترك معه، بل طرحه في الغالب متعصبون يرون في هويتهم الأولى أو الفرعية تناقضا مع هويات فرعية أو جامعة أخرى.
لا شك أن تاريخ المنطقة السياسي والخلفيات الأيدولوجية دفعت هذا النقاش للواجهة. يعتقد بعض الأمازيغ أن "القومية العربية" إبان صعودها ساهمت في تهميش شعوب المنطقة الأخرى مثل الأمازيغ والكرد، ولهذا فإنهم يظهرون حساسية بالغة تجاه العرب، مع أن معظمهم يقدر العربية باعتبارها لغة القرآن. ولكن هؤلاء يتجاهلون أن غالبية العرب لا يؤمنون بالقومية كأيديولوجية إقصائية، وإنما كرابطة تجمع كافة المتكلمين بالعربية حتى لو كانوا من هويات مختلفة، انطلاقا من إيمانهم بمعنى الحديث المعروف "إنما العربية اللسان"، رغم تشكيك بعض المحدثين بصحته.
لم يطرح معظم المشجعين والمتعاطفين والمنبهرين بإنجاز المغرب سؤال الهوية، لأن كل واحد منهم يرى أن جزءا من هوية المغرب تشترك معه، بل طرحه في الغالب متعصبون يرون في هويتهم الأولى أو الفرعية تناقضا مع هويات فرعية أو جامعة أخرى.
ويظهر في هذا الجدل الخلط بين سياسات بعض الحكومات التي سعت لتشكيل "عصبة" بالمفهوم الخلدوني، فاستخدمت بعض عناصر دولها ضد عناصر أخرى، وبين تحميل رابطة العروبة أو حتى القومية العربية مسؤولية حكومات فشلت في صناعة دولة-أمة حديثة، فاستخدمت القوميات والتناقضات الهوياتية لتعزيز سيطرتها وسطوتها على البلاد والعباد، أحيانا باسم القومية العربية.
وبالمقابل، فإن بعض العرب -خصوصا في المشرق العربي ـ لا يدركون حجم التنوع في دول شمال أفريقيا، وهذا يؤدي إلى عدم أخذ هذا التنوع في الاعتبار عند التعبير عن الاحتفاء برابطة العروبة مع الدول العربية في شمال أفريقيا، وربما من الجيد أن هذا الجدل ـ المليء بالسلبيات ـ قد يحمل في طياته بعدا إيجابيا، وهو أنه قد يدفع العرب المشرقيين للتعرف أكثر على تنوع المجتمعات في شمال أفريقيا وتوسيع مداركهم لفهمه، كما أنه قد يساعد الأمازيغ لإدراك أن تغييب الهوية الأمازيغية في الخطاب العربي في المشرق هو ناتج عن نقص المعرفة وليس عن رغبة في الإقصاء، وهو ما يتطلب جهدا أكبر منهم في إظهار هذا التنوع بصورة بعيدة عن التشنج وسوء الفهم.
تأثر الجدل الذي أثاره الإنجاز المغربي أيضا بالصراع/ الاشتباك الطويل بين الإسلاميين والقوميين، وهو صراع خفت حدته منذ تسعينيات القرن الماضي حتى بداية الثورات العربية الشعبية عام 2011، حيث اشتعل من جديد وازداد ضراوة. وبرغم الخلاف الكبير بين الطرفين حاليا بسبب الانقسام تجاه الثورات و"الثورات المضادة"، إلا أن تجربة التصالح التي استمرت لعقدين بينهما أنتجت خطابا عقلانيا، لا يجعل الرابطة الإسلامية مناقضة للعروبة، بل إنهما يكملان بعضهما البعض. فتاريخ المنطقة هو تاريخ الإسلام والعروبة معا. والإسلام هو الذي جمع بين العرب والأمازيغ والتركمان والكرد في المنطقة، والعروبة تمثل انتماء الأغلبية ولغتها هي لغة القرآن. لا تناقض بين هاتين الرابطتين العظيمتين لأنهما يملكان تاريخا مشتركا، ورموزا مشتركة، وبدون شك، مستقبلا مشتركا.
ربما يحتاج هذا الموضوع نقاشا أكثر عمقا وأدوات بحث أكثر علمية، ولكن الاحتفاء الشامل بإنجاز المغرب يمثل ردا عمليا على من يؤمنون بالتناقض على حساب المشتركات. لقد كان حضور المغرب في كأس العالم قصة حب عابرة للهويات. فالعربي يرى فيه عروبته، والأمازيغي يعيش تجربته الخاصة بالانتماء المتجذر لهذا البلد، والمسلم يتحسس -وهو يشجع المغرب- عظم الرابطة الإسلامية رغم اختلاف القوميات والهويات، ومواطنو الدول الأقل حظا في العالم يرون في انتصاره هزيمة للمركزية الأوربية واحتفاء بفقراء العالم الذين يمكن أن يحلموا وأن يحققوا أحلامهم.
إنه وقت الاحتفال برجال المغرب، ووقت الفرح العفوي بقصة حب عربية أمازيغية إسلامية أفريقية.