أعلنت وزارة الدفاع
الجزائرية بيانا بثته عبر التلفزيون الرسمي، تنفي فيه إجراء أي
مناورات عسكرية مشتركة مع موسكو على الحدود مع المغرب، كانت مقررة هذا الشهر، وتعزو نشر هذه الأخبار إلى وسائل إعلام دولية.
بيان أثار كثيرا من التساؤلات حول مضمونه، وطريقة صياغته، والدلالات التي يحملها. وفتح الأبواب على تفسيرات كثيرة، وربما توترات قوية تشوب العلاقات الجزائرية مع الدول الغربية، من المهم الإشارة إلى أن هذه المناورات العسكرية المشتركة مع
روسيا، حسب نص بلاغ النفي، كانت مقررة هذا الشهر، وكان الإطار الذي اندرجت فيه، أو بالأحرى الذي يبررها، حسب الرواية الجزائرية والروسية، هو مكافحة الإرهاب.
البلاغ، حسب صيغته، لا ينفي وجود اتفاق بين موسكو والجزائر لإجراء هذه المناورات العسكرية، ولكنه يكتفي بنفي إجرائها في الزمن المتفق عليه، بما يعني أن المقصود بالنفي هو عدم حصول ما كان متفقا عليه في السابق، ليترك الباب مفتوحا أمام مصير هذه المناورات وما إذا كانت ألغيت بالكامل أم أجلت.
المعطى الثاني في لغة البيان، والذي يعمق هذا الغموض، وفي الآن ذاته يوفر إمكانية مهمة لتفسير دلالات القرار هو الإشارة إلى وسائل الإعلام الدولية التي نشرت الخبر.
والحال أن الإشارة في متن البيان إلى وسائل الإعلام الدولية بلغة الجمع، مع نفي ما نشرته، قد يفهم منه أن رسالة البيان الأساسية هو نفي إجراء المناورات العسكرية، لا نفي حصول اتفاق سابق حولها، في حين، ثمة معطيان، يشوشان على هذه الرسالة، أولها أن وسائل الإعلام الدولية سلطت الضوء على ترتيبات إجراء المناورات العسكرية ولم تركز على حدث إجراء هذه المناورات، إذ لا يتصور حصولها في الواقع دون ردود فعل دولية ناجزة، أو على الأقل رد فعل من قبل المغرب الذي يوجد على الحدود، وتبدو الرسالة موجهة إليه بشكل خاص بهذه المناورات، وأما المعطى الثاني، فيتعلق بالموقف الروسي نفسه، فقد سبق أن أعلنت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاكاروفا أن المناورات المشتركة مع الجزائر والمقررة هذا الشهر لا تستهدف بلدا ثالثا تعني بذلك المغرب، وهو ما يعني أن الاتفاق كان حاصلا من قبل، وأن القرار الذي تضمنه بيان النفي، حاول أن يجمع بين قضيتين مختلفتين لخلق حالة من الإيهام والغموض، إذ ثمة فارق كبير في تقرير مناورة عسكرية ثم إصدار قرار بتأجليها أو إلغائها، وبين نفي عدم إجرائها، وفي الوقت ذاته، الحديث عن «أن كل التمارين العسكرية مع الجانب الروسي أو مع شريك آخر يتم الإعلان عنها من قبل وزارة الدفاع الجزائرية»، فهذه الفقرة، تعمق الغموض أكثر، وتجعل المتلقي لبيان النفي، يفهم أن وزارة الدفاع الجزائرية، بحكم أنه لم يسبق لها أن أعلنت بشكل رسمي عن هذه المناورات العسكرية، وإنما تم الإعلان عنها من الجانب الروسي، فإن الاتفاق بشأنها لم يحصل أصلا، فضلا عن الحديث عن إجرائها من عدمه.
واقع هذا الارتباك أو الغموض الذي تكشف لغة البيان، يؤكد بأن ثمة مسافة بين الاتفاق وبين تنفيذ الاتفاق، وأن الجوهري في البيان هو نفي تنفيذ المناورات لا نفي حصول الاتفاق من أصله، وأن إضافة الفقرة التي تربط حصول الاتفاق أو إجراء المناورات ببيان رسمي من قبل وزارة الدفاع، يفهم منها نقد الطريقة التي تصرف بها الشريك الروسي في الإعلان عن تاريخ إجراء المناورات المشتركة وهدفها ومكانها، بسبب ما تعرضت له الجزائر من ضغوط يوضحها حجم التغطية الإعلامية التي سلطت على هذا الحدث من قبل الإعلام الدولي.
الملاحظ على هذا البيان، خلوه من الحديث عن المغرب، في الوقت الذي اعتادت القيادة الجزائرية، كما القيادة العسكرية، توجيه اتهامات للرباط، ونسبة الحملات والمناورات التي تستهدف الجزائر إليها، وهو معطى جوهري لا بد من أخذه بعين الاعتبار في تحليل لغة البيان، إذ حرصت القيادة العسكرية الجزائرية على عدم تسييس هذا الملف، لأنه لا يخدمها، ولأنه يسقطها في لعبة الإقرار الضمني بخضوعها لضغوط شديدة، أملت عليها تغيير موقفها.
لا نريد أن نخرج من لغة البيان أكثر مما تضمنته عباراته، فأقصى ما يمكن أن يفهم من رسالته أن الجزائر سبق لها أن أبرمت اتفاقا حول إجراء هذه المناورات، وأنها اضطرت لتغيير موقفها، واضطرت إلى أن تستبق أي حملة ضدها، وأكدت عدم إجراء هذه المناورات خلافا لما تزعم وسائل إعلام دولية، ليبقى السؤال الكبير، هو حيثيات الإلغاء أو التأجيل، ومسبباته، والرسالة التي تريد الجزائر توجيهها من خلال هذا البيان للمجتمع الدولي، وهل هذا تأجيل قرار جزائري تفهمته موسكو، أم قرار روسي تم دفع الجزائر للتغطية عليه بهذا البيان، أم أن الإلغاء حصل بالاتفاق بين الطرفين.
حتى الآن لم يصدر عن موسكو أي موقف رسمي بخصوص قرار تأجيل أو إلغاء هذه المناورات العسكرية المشتركة، والظاهر أن الفقرة التي حملها البيان حول اختصاص وزارة الدفاع عن الإعلان عن المناورة في حال إجرائها، يرجح أن قرار الإلغاء كان جزائريا، ولم تكن موسكو شريكة فيه، إذ غالبا ما تكون الخارجية الروسية مبادرة للإعلان، بحكم أن هذا المؤشر يقول الكثير عن قدرتها على الانفلات من الضغط الغربي، وأن العالم لم يعد محكوما بقوة وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، وأن دولا ذات سيادة قريبة من موسكو أصبحت تتصرف بتحرر من ضغط التحالف الغربي.
العودة إلى وسائل الإعلام الغربية، وبالتحديد المضمون الذي كانت تبثه طيلة هذا الشهر عن هذه المناورات يقدم معطيات جد مهمة حول الحيثيات المفترضة لإلغاء المناورات، إذ لم يكن الحديث منصبا بدرجة أولى عن المناورات، بقدر ما كان يدور حول قيمة صفقة الأسلحة الضخمة التي ستبرمها الجزائر مع روسيا، وتوسع حجم الإنفاق العسكري في ميزانية الجزائر لهذا العام.
المعطيات الرسمية الجزائرية تشير إلى الإنفاق العسكري في موازنة هذه السنة بلغ22 مليار دولار، وهي أضخم ميزانية يحصل عليها الجيش الجزائري منذ استقلال البلاد، بما يعادل20 في المائة من مجموع الميزانية العامة للدولة، والتي بلغت 98 مليار دولار.
وما رشح من معطيات تخص العلاقات العسكرية الجزائرية مع روسيا، تتحدث عن أضخم صفقة تسلح جزائرية ستبرمها مع موسكو بقيمة 17 مليار دولار.
منذ مدة ليست بالقصيرة، والولايات المتحدة الأمريكية، ودول أوروبا، ترسل إلى الجزائر رسائل غير مشفرة حول دورها في التمكين للنفوذ الروسي في المنطقة، وبشكل خاص في مالي والساحل جنوب الصحراء وشمال إفريقيا، وكانت في الواقع، تحذرها من مخاطر أن يصل التعاون العسكري الجزائري الروسي إلى المستوى الذي تصبح فيه الجزائر بمعنى من المعاني ممولا للحرب على أوكرانيا، أو الحرب على الغرب على الأقل كما هو التعريف الغربي.
الاختلاف الأوروبي مع الجزائر، ظهرت بعض مؤشراته الكبرى في مجال التعاون العسكري، فقد انعقد الاجتماع الرابع عشر لرؤساء أركان الجيوش المسلحة في بلدان مبادرة 5+5 بالرباط بمشاركة 8 من رؤساء أركان القوات المسلحة للبلدان الأعضاء المبادرة أي فرنسا وإيطاليا وليبيا ومالطا وموريتانيا والمغرب والبرتغال وإسبانيا، في حين تغيبت كل من الجزائر وتونس لأسباب غير مفهومة رجح البعض أن تكون بسبب مكان الانعقاد (الرباط)، وما يثيره الحضور من كسر قرار قطع العلاقات الدبلوماسية، لكن الظاهر، أن الأمر هو أكبر من ذلك، فالجزائر لا تريد أن تحضر في لقاء تعاون عسكري مع رؤساء أركان قوات مسلحة دول تصنف سلوكها العسكري ضمن جهود دعم موسكو وتمويل الحرب على أوكرانيا والغرب.
التقدير أن الجزائر، وتحت وقع من ضغوط أو رسائل مباشرة من قيادات غربية، قررت إلغاء المناورة العسكرية، وقررت في الآن ذاته توجيه رسائل إلى قادة دوله، حول عدم تصديق أي خبر يتم تداوله حول علاقاتها العسكرية مع موسكو، إذ لم يكن المقصود فقط نفي خبر إجراء المناورات، بل المقصود الأول، هو نفي عام، لأي أخبار تتداول عن علاقة الجزائر العسكرية مع روسيا، وهو ما يعني أن قصدها الأساسي هو نفي حصول تلك الصفقة الضخمة التي تزعج الدول الغربية، وتعتبرها خطا أحمر، سيترتب عن تجاوزه تداعيات كبرى تخص العلاقات الجزائرية مع كل من الولايات المتحدة ألأمريكية وأوروبا.
(
القدس العربي)