أثارت المدونة الوظيفية التي أقرها الحوثيون بشأن سلوك موظفي الدولة في المناطق التي يسيطرون عليها، جدلا وانتقادات واسعة، وسط تساؤلات عن دوافع الجماعة من هذا التوجه وتبعاتها المترتبة على الموظفين اليمنيين في مناطق سيطرة الجماعة.
وأقرت جماعة الحوثي "مدونة السلوك الوظيفي"، لتنفيذها على موظفي الدولة في مناطق سيطرتهم، ومن أبرز ما ورد فيها "الولاء لزعيم الجماعة، وخطاباته ومحاضراته وعهد علي بن أبي طالب لمالك الأشتر"، كمرجعيات يستند عليها الموظفون لهويتهم الإيمانية.
ولاقت المدونة الوظيفية التي أقرها الحوثيون في الأسبوعين الماضيين، معارضة وانتقادات في أوساط سياسية متحالفة مع الجماعة، حيث اعتبروا أنها تكريس للولاء والطاعة لفصيل معين لا يتجاوز تعداده الـ5% من السكان، وتأكيدا على الالتزام بمبادئ أساسية ذات صبغة مذهبية واضحة، في تجاوز غير مقبول للدستور والقوانين والأعراف اليمنية بما فيها العرف القبلي.
واعتبر يمنيون أن هذه المدونة حلقة من حلقات النهج العنصري التي بدأتها الحركة الحوثية بالوثيقة الفكرية عام 2012، وتوجه لصهر الاتجاهات السياسية المتعددة لموظفي الدولة في خط سياسي واحد تتبناه الحركة.
ورأى محللون سياسيون أن الأخطر في المدونة هو "تحويلها إلى وثيقة سياسية وتعميمها كسلوك اجتماعي تشمل كل فئات المجتمع".
"صهر قيم واتجاهات المجتمع"
وفي السياق، رأى الخبير اليمني في علم الاجتماع السياسي، عبدالكريم غانم، أن أبرز النواحي المثيرة للجدل استناد المدونة إلى عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر، وخطابات ومحاضرات عبد الملك بدر الدين الحوثي، والهوية الإيمانية، وإلزام الموظفين بحضور الدورات الثقافية التي يتم عقدها أسبوعيا، للاستماع إلى دروس ومحاضرات تحث على الجهاد، وتستند إلى ملازم حسين بدر الدين الحوثي، وخطب عبد الملك الحوثي، التي تشكل فكر الحركة الحوثية.
وقال غانم في حديث خاص لـ"عربي21": "وهذا الأمر الذي يراه البعض شأنا خاصا بالشيعة دون غيرهم".
وتابع: "مع العلم أن غالبية المجتمع اليمني هم من السُنة، على المذهب الشافعي، وتاريخيًا تعايشت السُنة إلى جانب أقلية كبيرة من الزيود (الحوثيين) وأقلية صغيرة من الإسماعيليين (المكارمة)".
وأشار الخبير اليمني في علم الاجتماع السياسي إلى أن "إلزام الموظف بحضور هذه الدورات الثقافية من شأنه جعل المعتقدات الدينية التي تتبناها الأقلية الكبيرة عقيدة كل أطياف المجتمع، بالإضافة إلى صَهر الاتجاهات السياسية المتعددة للموظفين في اتجاه سياسي واحد".
وقال: "إنه من خلال إلزام الموظف بتبني مواقف واضحة من أعداء البلد والأمة والاشتراك بفاعلية في أنشطة التعبئة العامة، سيجعل طاعة الموظفين للأوامر الحوثية إلزامية وغير قابلة للنقاش، ويفرض على الموظف حمل الروح الثورية، والمشاركة في إحياء المناسبات الدينية والوطنية كما تنص المدونة، وهنا يصبح الانضمام لحشود ميدان السبعين التي تنظمها الحركة الحوثية واجبا، وعدم الالتزام به خرقًا للمدونة".
وأكد الخبير اليمني أن مشاهدة القنوات الفضائية التي تعارض سلطات صنعاء، وإبداء الرأي المعارض لها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يُعد خروجا عن مدونة السلوك يستوجب العقاب الذي قد يصل إلى الفصل من الوظيفة، مضيفا أنه من ضمن المسؤوليات التي توجبها المدونة "التضحية والبذل والعطاء"، وتتجلى من خلال "الجهاد بالنفس والمال".
ورغم إلتزام اليمنيين بهذه القيم، بحسب المتحدث ذاته، فإن المدونة تشدد على "العفة والحشمة"، إلا أن البعض يرى في تضمينها بالمدونة نوعا من التماهي مع توجهات النظام الإيراني الذي يركز على ترسيخ القيم الأخلاقية.
وتحدد المدونة معيار اختيار المسؤول في "التحلي بالأخلاق"، في إشارة إلى الالتزام بالقيم التي حددتها المدونة، بحسب الخبير اليمني.
اقرأ أيضا: قتلى لـ"الانتقالي الجنوبي" ومدنيين بنيران "الحوثي" في لحج
"مسألة تعبدية"
ولفت الخبير في علم الاجتماع السياسي إلى أن مدونة السلوك، تتناول الوظيفة الحكومية باعتبارها "مسألة تعبدية"، أي جزءًا من العبادات، شأنها شأن الصلاة والصيام والجهاد.. ينال صاحبها الثواب والأجر من الله في اليوم الآخر.
وخلص إلى أن المدونة تُعد امتدادًا لسلسلة لامتناهية من الواجبات التي يتم فرضها على المواطنين في مناطق سيطرة الحوثي، دون أن يقابلها الحصول على الحقوق، ومنها الحق في استلام الرواتب المتوقفة منذ سبع سنوات.
"تبعات سياسية واجتماعية"
وحول التبعات المترتبة على إقرار هذه المدونة على الموظفين في المؤسسات التي يديرها الحوثيون، قال غانم إن فرضها سيضيف إلى مهام مؤسسات الدولة وظيفة جديدة تتمثل في تلقين الموظفين التعاليم الدينية التي يلقيها قائد الحركة الحوثية، ومراقبة مدى الالتزام بتنفيذ أوامره، وهو ما سيترتب عليه فصل المجتمع ثقافيًا إلى موظفين معظمهم مجبرون على إظهار الإيمان بالتعاليم التي تضمنتها المدونة، تجنبا لنتائج مواجهة غير متكافئة، مؤكدا أن الأغلبية من خارج دائرة الموظفين تقاوم هذه الأفكار ولا تقر بها.
وأوضح خبير علم الاجتماع السياسي اليمني أن هناك تبعات إجتماعية وسياسية مترتبة على إقرار هذه المدونة من قبل الحوثيين منها، "أنها وثيقة سياسية، في طريقها للتعميم كمدونة سلوك اجتماعي، لمختلف الفئات الاجتماعية، وقد سبقها نماذج مشابهة، ومنها على سبيل المثال وثيقة الشرف القبلي في 2019".
وقال: "فكلما أحرز الحوثيون تقدما عسكريا أو مكسبا سياسيا بادروا لإظهار بعض ملامح مشروعهم السياسي، ومدونة السلوك الوظيفي ستصبح وثيقة عامة يوقع عليها كل مواطن بالغ، لتغدو بمثابة عقد اجتماعي ينظم العلاقة بين المواطنين أو (الرعية) والقادة السياسيين".
ومضى بالقول إن مبررات فرضها تكمن "في السعي لإذابة الهوية الوطنية التي تكونت خلال العقود الماضية وارتبطت بالنظام الجمهوري وفكرة حكم الشعب نفسه بنفسه وغيرها من الحقوق السياسية، التي صارت في الواقع جزءا من الماضي، وبات هناك فراغ في التثقيف السياسي يسعى الحوثيون لملئه من خلال هذه المدونات والوثائق التي تسعى لإحلال الهوية الإيمانية محل الهوية الوطنية".
وبين الخبير اليمني أن "الحوثيين يسعون لجعل فكرة الولاية المرتبطة بوصية دينية بديلًا للنظام الجمهوري المرتبط بإرادة الشعب، والديمقراطية، ومنظومة الحقوق والحريات".
وأكمل: "فهذه المفاهيم التي ترسخت لدى الكثير من اليمنيين في مجملها تدعم الحق في الحياة والرفاهية، الأمر الذي يرى الحوثيون أن من شأنه إعاقة المشروع الجهادي الذي يتطلب ترسيخ الهوية الإيمانية التي تمجد الاستشهاد (الموت في سبيل الله)، وتنظر للحياة أنها دار فناء".
ووفقًا لهذه المدونة، فقد أشار خبير علم الاجتماع السياسي إلى أن "فكرة الولاية لزعيم الحركة عبدالملك الحوثي تصبح عودة إلى الله وتصحيحا لمسار الإيمان.. ويصبح رفض التجنيد والانخراط في المعارك نفاقا وخروجا عن الدين وخرقا لمدونة السلوك يقتضي العقاب".
وختم حديثه قائلا: "وإزاء الإصرار على فرض هذه المعتقدات وتعميمها فستضطر غالبية المجتمع لممارسة ما يشبه التُقيا"، ويمكن أن يعيش جزء من المجتمع بهوية مزدوجة بعضها إيمانية مرتبطة بمدونة السلوك، تجنبُا للعقاب والأخرى وطنية نابعة من الخصوصية الثقافية ومبادئ النظام الجمهوري.
"للارتقاء بالموظف"
وردا على الانتقادات الواسعة التي أعقبت اقتراح هذه المدونة، قال القيادي في جماعة الحوثي، حسين العزي، الذي يشغل منصب نائب وزير الخارجية في سلطة الجماعة غير المعترف بها، إن "المدونة جاءت للارتقاء بالموظف العام وتعزيز سلوكه القانوني في تأدية الأعمال المنوطة به".
وأضاف العزي عبر تغريدة على موقع تويتر: "لا نريد أي موظف يرى نفسه فوق الناس.. نريد موظفا يدرك أنه في موقع الخدمة المقدسة لأقدس شعب على قلب القيادة".
وتابع: "لقد حان الوقت لأن يرى المواطن موظفين يغمرونه بالاحترام ويتفانون في خدمته بكل إخلاص ونزاهة".
وكتب في تغريدات أخرى: "عانت بلادنا من بيئة وظيفية موبوءة وعقيمة أفضت ببلادنا إلى هذا الحال وهذا العناء"، كما أكد على أن "تلك البيئة لم تنجب دولة بقدر ما أنجبت خرابة (حروبا وفقرا ومرضا وفسادا وكائنات ارتزاقيه رخوة إلا من رحم الله)".
"استعباد وإذلال"
ومن جانبه، قال الكاتب اليمني ورئيس مركز نشوان الحميري للدراسات، عادل الأحمدي إن دوافع إقرار المدونة ليست بمعزل عن كل ما تقوم به المليشيات الحوثية من حرب شاملة على اليمنيين بكافة فئاتهم، في محاولة لاستعبادهم والإمعان في سياسة الإذلال التي تُمارس ضد المواطن عموماً، والموظف الحكومي بصفة خاصة.
وتابع الأحمدي حديثه لـ"عربي21" بالقول: "صار المطلوب اعتناق الحوثية كفكرة إمامية سلالية عنصرية معادية للأغلبية شرطا للاستمرار في الوظيفة والحصول عليها، على أنها الوظيفة التي حُرم الموظفون من أدنى حقوقهم فيها منذ سنوات".
وأكد الكاتب اليمني أن هذه المدونة ومثلها، الكثير من الإجراءات، "حرب على مصادر معيشة الناس وعلى كرامتهم وما تبقى من فرص للحياة في المحافظات المحتلة من الحوثي".
وقال: "إنها ليست بمعزل عن محاولات الإلغاء الكامل والشامل لكل معالم الدولة بمنظورها المعني بخدمة المواطن، لتصبح سلطة العصابة".
وأوضح رئيس مركز نشوان للدراسات: "لقد استغرق اليمنيون عقودا طويلة لصياغة تشريعات ولوائح ومدوّنات تعبّر عن هويتهم وأحلامهم".
وأضاف: "كلما سعت السلالة، أي جماعة الحوثي، لفرض تشريعات ولوائح ومدوّنات مغايرة، أظهرت، ومن دون أن تشعر، حجم البون الشاسع بينها وبين هوية المجتمع اليمني وأحلامه".
وبحسب الأحمدي، فإن "الجماعة تفضح نفسها لا أكثر، وتفصح عن رغبة مجنونة لأدلجة كل شيء أملا في أن يتحول المواطن إلى نصف عبد".
ومضى بالقول إن مدوناتها ليست سوى "مصل يحفز جهاز المناعة في الجسد اليمني"... وإنها فقط "تبصم على وثائق إدانتها بأصابعها العشر".
"تبعات ومعاناة"
أما عن التبعات، فيوضح الكاتب والباحث اليمني أن هذه المدونة من المؤكد أنها تفاقم المعاناة وتأتي على ما تبقى من حقوق.
لكن المهم في المقابل، أنه يجب على كل يمني حر أن يجعل من هذه المدونة الفضيحة "مناسبة لاستعادة الحقوق والتركيز على أولوية تحرير كافة المناطق اليمنية، دون تأخير، باعتبار أنها ترفض التعايش وتواصل حربها على المواطن أينما كان"، بحسب الأحمدي.
وقال: "ستظل الحوثية تشغلنا كل يومين بمدونات وتغييرات لا تنتهي، وسيتحول دورنا أثناء مكافحتنا الجزئية اليومية لتلك التغييرات أشبه بدور معارضة سياسية وفكرية، وخلال ذلك فإننا نقوم بدون شعور، بتكريس وجودها كسلطة رغم كونها انقلابا على الدولة والمجتمع".
وختم بالقول: "لن تتوقف هذه الجماعة عن سرقة يمننا كل يوم بالتقسيط، وينبغي إنهاء مشروعها بشكل كليّ وحاسم قبل أن نصحو على لا شيء".
مخاوف في تونس من تصاعد منع نواب وسياسيين من السفر
ما وراء اهتمام واشنطن بمحافظة حضرموت اليمنية؟
قتلى من "الحوثي".. وتحذير من خطر هجوم الجماعة على الموانئ