الكتاب: الإبادة الثقافية
الكاتب: لورونس دافيدسون
ترجمة: منار إبراهيم الشهابي
الناشر: العبيكان للنشر، الرياض، المملكة السعودية 2016
عدد الصفحات: 168 صفحة
1 ـ بين يدي الكتاب
تصنّف بعض الأمراض بالقاتل الصامت، تسري في الجسد دون أن ينتبه صاحبه إلى علته حتى تفاجئه وتأخذ منه روحه على حين غفلة. قياسا على ذلك يمكن أن نعد الإبادة الثقافية قاتلا صامتا فهي تسري في أجساد الجماعات والشعوب حتى تستلبها وتنتزعها من هويتها. ولئن حاول المجتمع الدولي حماية المدنيين أثناء الحروب والحفاظ على حقوقهم المدنية وحماية ممتلكاتهم وسن القوانين المساعدة على ذلك، وعدّ الانتهاكات ضدّهم وجها من وجوه الإبادة الجماعية التي لا تسقط بالتقادم، فإنّ جريمة الإبادة الثقافية تظل ترتكب وتسرى نتائجها في جسد الاقليات العرقية أو الثقافية دون أن ينتبه إليها كفاية أو ينجح في الحدّ من تبعاتها.
وفي كتاب "الإبادة الثقافيية" يبحث الأمريكي لورنس دافيدسون، أستاذ التاريخ في جامعة ويست شيستر من ولاية بنسلفانيا ومؤلف كتاب "فلسطين أمريكا: التصورات الشعبية والرّسمية من وعد بلفور حتّى إنشاء دولة فلسطين"، في الآليات التي تعتمدها الإبادة الثقافية عارضا وجوها منها قديما وحديثا. فننتخب منها في عرضنا هذا ما يتعلّق بالحالة الفلسطينية.
2 ـ النزعة المحلية.. عملة ذات وجهين
يعرض الباحث أهمية البيئة المحلية للأفراد والجماعات. فيجدها ذات قيمة لبقاء الإنسان من مستويين: فالمعرفة العميقة بمحيطه، تساعده في استشراف المستقبل وفي صياغة توقعات ناجعة تعمل على مواجهة أخطاره. وطابعها الجماعي، باعتبار الثقافة نموذج ينبثق من العادات والتقاليد السائدة في هذا المحلي والإقليمي، يعمل بطريقة عفوية فيسهم في إدراك أتباعه لهوياتهم ويجذّرهم في الانتماء ويكسب حياتهم الجماعية معنى. وكلّما استوعبت الكيانات المحلية هويتها بشكل سليم أمكن لها أن تنخرط في كيانات إقليمية وقومية أكبر بشكل أكثر سلاسة. فـ"ـالنزعة الفطرية المحليّة وأساليبها التقليدية هي جزء مهم وضروري من الوجود الإنساني المستقر. والثقافة التي ينتجونها هي ما يجعل المجموعة ملتصقة بعضها ببعض" وفق الباحث.
ولكن إغراق هذه الجماعات في محليتها وعدم التّطلع إلى انتماء أشمل يساعد على التجذر في الإنسانية قاطبة، بها يرشح مخاطر ومزالق. وهذا ما يمثّل الوجه الآخر من هذه العملة. ومبدؤها الأقل ضررا هو عدم التعاطف مع معاناة من يكونون خارج المجموعة ومنتهاها التصادم بين المجموعات المنغلقة على نفسها وما يخلف من مشاعر الخوف والحقد.
إلى هذين العاملين يرد الكتاب إذن تاريخ الصراعات الطويل بين المجموعات التي تتجاوز شيطنة العدو المباشر إلى شيطنة الحضارات والثقافات بأسرها. والإبادة الثقافية إحدى نتائج التوتر بين الجماعات المتناحرة. وتعني وفق الباحث "أن يعمد مجتمع ما، قاصدا، إلى إضعاف وتدمير القيم والممارسات الثقافية العائدة لمجموعات لا تنتمي إليه. ويمكن أن يكون هدف الإبادة الثقافية هو إضعاف مجموعة العدوّ أو يكون إهلاكا حاسما لثقافة العدوّ بصفة ذلك جزءا من برنامج نسف المقاومة الفاعلة للاحتلال والسيطرة".
3 ـ إسرائيل من التطهير العرقي إلى التطهير الثقافي
تمثل السياسات الإسرائيلية النموذج الأمثل لهذه الإبادة. فقد كانت حكوماتها المختلفة تتلاعب بالحقائق الميدانية الخاصّة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفق الباحث. فتحشد لغايتها تلك جيش الإعلام والخبراء ضمن خطاب انفعالي محرّض ضد غير اليهود. وهذا ما يولّد لدى الإسرائيليين القناعة بكونهم جيبا غربيا معزولا وسط عالم لا غربي ويدفعهم إلى ان يفرضوا على أنفسهم عزلة ذاتية تغذّي مواقفهم العنصرية والعرقية الموروثة عن الإمبريالية الاستعمارية. ولا يؤثر هذا الخطاب في سلوك الإسرائيليين فقط، بل في سلوك مؤيديهم الصهيونيين حول العالم. فيضحي وجهة نظر مشوّهة للحقيقة. "وهذا النهج الآن ـ الذي لا يخلو من المفارقات ـ خلق أيضا لدى اليهود الإسرائيليين والصهيونيين عموما معتقدا جماعيا شريرا. وكانت النتيجة هي قيام دولة يهودية سعى إليها اليهود طويلا. وسعيا سعيا يهوديا مستمرا [كذا] لتطبيق سياسات الإبادة الثقافية ضد (الأغيار)".
ولفهم العقل الإسرائيلي اكثر يعود لورونس دافيدسون إلى أصل نشأة الحركة الصهيونية. فقد كانت ترمي إلى حل مشكلة معاداة السامية الأوروبية عبر إنشاء دولة يهودية اختيرت لها فلسطين من بين احتمالات عديدة منها الأرجنتين وأوغندا. وعندما وصلت الطليعة الاستعمارية إلى هناك أخذت تعيد كتابة تاريخ هجرة الأوروبيين إلى شمال أمريكا.
"وفي واقع الأمر، شبه الصهاينة الأمريكيون الفلسطينيين في مطلع العشرينات من القرن العشرين بالهنود الأمريكيين العدوانيين وشبهوا أنفسهم بالمستوطنين الأمريكيين الذين جلبوا الحضارة إلى الأماكن المقفرة.. ولذلك حتى في اثناء كرههم وفزعهم من هؤلاء الذين مارسوا التمييز ضدهم، كانوا يغرسون في صميم ثقافتهم إحساسا بالتّفوق العرقي والثقافي الذي أتاح لهم ممارسة التمييز ضد غير الأوروبيين. فوضعوا أنفسهم في موقف نفسي معقّد". وكما فعل الأوروبيون في الشمال الأمريكي شرع اليهود في فلسطين في عملية التطهير العرقي عبر التقتيل أو الترحيل إلى شرق نهر الأردن ثم إلى العراق وسوريا لما أصبح الأردن ضمن مخططاتهم الاستيطانية.
واستفحل الأمر بعد قرار بريطانيا التخلي عن الانتداب ومغادرة فلسطين. فكانت خطة بن غورين تعمل على قلب المعادلة الديمغرافية بأن يجعل عدد اليهود 80% من مجموع سكان فلسطين. وقد كان تعداد الفلسطينيين حينها يبلغ المليون ساكن فيما كان عدد اليهود لا يتجاوز 600 ألف. ومن هنا نفهم حصيلة النكبة المتمثلة في تدمير 419 قرية ومدينة فلسطينية وقتل سكانها أو تشريدهم حتى لم يبق من الفلسطينيين سوى 150 ألف نسمة. ولأن التاريخ والتراث يشهدان على الحقّ الفلسطيني المسلوب أطلق الإسرائيليون مشروع عبرنة الأرض وتهويد الثّقافة.
4 ـ الفلسطينيون والإبادة الثقافية
اعتمد التهويدُ والعبرنة وسائل وآليات لتنفيذ خططه. فقد بُعثت "لجنة التسمية" أولا وكانت مهمتها تهويد المناطق الفلسطينية الصغيرة التي ابتاعها الصندوق القومي اليهودي (JNF) ثم أصبحت بعد النكبة فرعا لهذا الصندوق. فوظّفت علماء الآثار والجغرافيا واستخدمت معارفهم لمحو التاريخ العربي من التقارير والخرائط والكتب الرسمية. وحتى لا يبقى غير الوجود اليهودي بداية من 1949 نوّعت إسرائيل من وجوه الإبادة الثقافية. فعملت على تدمير المواقع الأثرية الفلسطينية والمساجد القديمة والمنازل التاريخية. وهذا ما دفع المكتب العالمي للآثار التابع لليونسكو إلى وصف أعمالهم بكونها "جرائم ضد التراث الثقافي للبشرية" وما دفع راز كليتر كتابا حولها بعنوان: "تزييف التاريخ: صناعة علم الآثار الإسرائيلية ". ثم عمدت الحكومة في خمسينات القرن الماضي إلى نهب المواقع المقدسة المسيحي منها والإسلامي والمتاحف والسجلات وتدميرها. وكان من يرفض ذلك من الموظفين يجبر على الاستقالة. ثم ادعت أن العرب من فعل ذلك. وتشير تقارير كثيرة إلى التورط المباشر لكبار الساسة وقتها شأن ديفيد بن غورين وموشي ديان وغولدا مائير.
يحاول الباحث فهم الدوافع الكامنة وراء هذا الإرهاب الإسرائيلي. فيفسّره بما تعرضوا له من العدوانية في أوروبا المسيحية طيلة قرون من معاداة السامية خاصّة لمّا بلغت أوجها في الهولوكوست.
وتستمر العملية اليوم بصور مختلفة: ففي يوليو 2009م تمّ إلغاء العربية من إشارات المرور رغم أن 20 % من سكان فلسطين 48 يتكلمونها ورغم أنها اللغات الرسمية في البلاد. ولمّا اختارت اليونسكو القدس الشرقية عاصمة العرب الثقافية في العام نفسه، منع الإسرائيليون كل الاحتفالات ذات الصلة بهذا الحدث. ولا تزال مختلف الفعاليات الثقافية والرياضية ذات الصلة بالهوية الفلسطينية تُحظر. ويعيش سكان الضفة الغربية تحت أكثر من 1500 قانون عسكري يمنع أكثرها التعبير عن كيانهم ثقافيا ورياضيا. ويمتد هذا الفعل الإجرامي إلى الكتب المدرسية. فيتمّ "تطهير" من كل ما يشير إلى التراث الفلسطيني و"تشاع وجهة النّظر بأن اليهود قد تورطوا في حرب مسوّغة، بل إنها إنسانية ضد الطرف العربي الذي رفض القبول والاعتراف [كذا] بالوجود والحقوق اليهودية في إسرائيل" وفق البروفسور دانييل بار- تال من جامعة تل أبيب.
5 ـ لماذا يخوض اليهود معركة التطهير الثقافي هذه؟
يحاول الباحث فهم الدوافع الكامنة وراء هذا الإرهاب الإسرائيلي. فيفسّره بما تعرضوا له من العدوانية في أوروبا المسيحية طيلة قرون من معاداة السامية خاصّة لمّا بلغت أوجها في الهولوكوست. ويعد ذلك ضربا من متلازمة المضطهد: أن يعيد إنتاج صورته في من يستطيع الهيمنة عليه. ويجد أن قناعتهم الراسخة بأنهم ضحايا، وفق تفسير ناشط السلام الأمريكي الإسرائيلي جيفري هالبرن، تدفعهم إلى تفسير كل مقاومة لطموحاتهم الاستعمارية بكونها معاداة للسامية. فلا يرون في التطهير العرقي والإبادة الثقافية غير ضرب من الدفاع عن النفس ويصفه بالبعد الباثولوجي (المرضي للمعتقد الجماعي).
ورغم أنه بدا أحيانا أقرب إلى من يتفهم هذه الإبادة أكثر منه إلى من يعمل على فهمها، يحاول تفكيك هذا السلوك العدواني ومناقشته لينتهي إلى أنه " سواء كان هذا الوصف حقيقيا أم لا. فإنه لا يمكن إنكار المفارقة الكبيرة في سلوك الصهيونية. فباندفاعهم نحو الحفاظ على ميراثهم الثقافي الذي سعى الآخرون على تدميره بأسلوب الإبادة الجماعية، فإنهم يمارسون عملية الإبادة الثقافية ضد الفلسطينيين. وهذا ما ينذر بأقسى الاقدار لكلا الطرفين".
6 ـ أثر "الإبادة الثقافية" وبعد؟
درس الباحث نماذج كثيرة من الإبادة الثقافية، فضلا عن النموذج الفلسطيني. فعرض وجوها من التطهير الذي خضع له الهنود منذ وصول المستوطنين الأوروبيين إلى شواطئ ما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية وتأسيس شركة فيرجينيا مستوطنة جيمس تاون بداية القرن السابع عشر. فكان قدر الهنود دائما هو نفسه: إما الإبادة الجسدية أو الإبادة الثقافية أمام "زحف الحضارة والحتمية التي قدّرها الله". وأشار إلى محنة اليهود في روسيا في القرن التاسع عشر وما تمارسه الصين ضد التيبت ليعرض محنة البوذية التيبتية ومسألة الهوية الثقافية ليخلص إلى مجمل من النتائج:منها الإسهام الفاعل في تغذية نزعات إلغاء الآخر المختلف ثقافيا ودينيا وعرقيا لكل من:
ـ النزعة الفطرية المحلية تنتعش عند وجود بيئتين متناقضتين: فتكون الأولى قومية عدوانية وتكون الثانية ضعيفة تنغرس غالبا ضمن خلفيات دينية تبرر العدوان وتمنحه قداسة يصاحبها شعور بالتفوق على مجموعات متخلفة غير قادرة على صناعة الرقي والتقدم في الأراضي التي تحوزها.
ـ البيئات الإعلامية المغلقة التي تعمل على تهيئة الراي العام للقبول بمختلف التجاوزات في حق الآخر واعتبارها مشروعة نتيجة لتلاعب المعلومات أو العقول.
ـ المعتقد الجماعي [نتيجة للتجارب السابقة والتعرض للاضطهاد مما يدفع الجماعات إلى إعادة إنتاجه مع قبل أدواره فتكون هي المعتدية بعد ان كانت تمثل دور الضحية.
ولعل الوضع القانوني المبهم للإبادة الثقافية يساعد على ذلك.
ولكن على عمق هذه الاستنتاجات التي حاول اختبارها في ظل الوقائع التاريخية في النماذج المدروسة فإنها لا تخلو من حسن نية. فقد كانت تغفل دور العامل الحضاري. فإسرائيل على سبيل المثال، ليست غير خنجر غربي مسيحي يغرس في خاصرة الشرق المسلم ويمثل تجسيدا مخاتلا للحروب الصليبية في نهاية الألفية الثانية بعد الحروب الصليبية المباشرة في نهاية الألفية الأولى. وفي الآن نفسه تهمل هذه الاستنتاجات العامل الاقتصادي الذي يشرّع للدول القوية نهب ثروات الشعوب الضعيفة، وقد بات اليوم يتمّ على نحو ناعم في ظل العولمة. فيُحشد الإعلام والفنون والثقافة لتدمير كل مظاهر التنوع الثقافي ليسود النموذج الحضاري الغربي، الأمريكي أساسا وليختزل الآخر في كونه سوقا لمنتجاته لا أكثر.
لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟ بحث في المفاهيم والدلالات
ما بعد الحداثة.. "البنيوية" منهج لمواجهة الإسلام السياسي
تاريخ إخوان غزة في كتاب.. البدايات والخطاب والتوجهات