الإنسانوية مصطلح يصعب وضع تعريف جامع مانع له، فهي بحسب باحثين تتجاوز الحديث عن الجانب الإنساني المحض، لتتبنى رؤية خاصة بها للعالم، تتركز حول إعلاء قيمة الإنسان، بوصفه مركز هذا الكون، وتحريره بالتالي من أية قيود تحد من حريته، بما فيها التعاليم والتشريعات الدينية، وهو ما يثير عليها اعتراضات كثيرة وشديدة.
كما يغلب على الإنسانويين أن يكونوا إما ملحدين أو غير أدريين، مع عدم إيمانهم بحياة أخرى بعد هذه الحياة، فلا جنة ولا نار، ولا نعيم ولا عقاب أخروي، ولا يستندون في تقرير الأخلاق وإشاعتها إلى أية معتقدات أو تشريعات دينية، لأنها مستمدة في منظومتهم الفكرية والفلسفية من الفكر الإنساني بكافة تياراته واتجاهاته، ومستندة إلى الخبرة البشرية على اختلاف البشر وتنوع ثقافاتهم.
وعادة ما يجري الاعتراض على الأحكام الشرعية ومهاجمتها، انطلاقا من تلك الأفكار الإنسانوية، وفي هذا الإطار يقول الكاتب والمدون السوري، المهندس زكريا أوزون: "في نصوص واضحة من القرآن، لا تحتمل التأويل، المرأة لا تتساوى مع الرجل الذي له القوامة عليها، ويفوقها درجة، ويعدد النكاح (أربع أزواج ـ مفتوح اليمين)، وشهادتها نصف شهادته، وكذلك ميراثها، هذه المعايير انتهت صلاحيتها اليوم في ظل الإنسانية، ومن يؤيدها عليه الالتحاق بإمارة طالبان فورا".
وهو ما دفع أحد المعلقين على تغريدته آنفة الذكر للتساؤل "في ظل أي إنسانية تقصد؟ إنسانية الغرب التي تصدر مليارات الدولارات أسلحة لأوكرانيا وأما المجاعات في أفريقيا والتي بسبب نهبهم لها صارت مجاعات فتصدر الفتات.. مسكين أنت جعلت نفسك أعدل من رب الناس؟ إن تريد عدل الله انظر لنفسك حيث جعلك تتنفس وتتنعم بنعيمه، وأنت تشكك في عدله سبحانه العدل".
الإنسانية أو "الإنسانوية" كمذهب فكري وفلسفي عادة ما تُقابل بتحفظات شديدة في أوساط دينية إسلامية، ويتم التحذير منها على نطاق واسع، الفقيه السعودي الراحل بكر أبو زيد حذر منها تحذيرا شديدا، وعدها من الألفاظ الشائعة والمتداولة وهي في حقيقتها وجوهرها ضد الدين وحرب عليه.
قال أبو زيد في كتابه "معجم المناهي اللفظية" متحدثا عن الإنسانية: "اتسع انتشار هذه اللفظة البراقة بين المسلمين، عامتهم وخاصتهم، ويَستَملح الواحد نفسه حين يقول: هذا عمل "إنساني".. وهكذا في صفوف المتعلمين، والمثقفين، وما يدري المسكين أنها على معنى "ماسونية"، وأنها كلمة يلوكها بلسانه فهي دعوة إلى أن نواجه المعاني السامية في الحياة بالإنسانية لا بالدين".
وأضاف أبو زيد: "إنها في المعنى شقيقة قول المنافقين (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)"، وخلص إلى القول: "والخلاصة: إنها محاربة المسلمين باسم الإنسانية، لتبقى اليهودية، ويُمحى رسم الإسلام"، ممتدحا ومشيدا بما كتبه وقرره المفكر المصري، محمد قطب في كتابه (مذاهب فكرية معاصرة) بشأن الإنسانية، وداعيا إلى هجر هذا اللفظ وعدم استخدامه.
وبين الكاتب والباحث السعودي، الدكتور إبراهيم بن عبد الله الرماح وجه التحذير من استخدام مصطلح (الإنسانوية) بقوله: "وليس المقصود بهجر مصطلح (الإنسانية) إلغاءه بالكلية، ولكن لما كان بعض من يطلق هذه الكلمة يقصد مدلول مصطلح (الإنسانوية) ذات المعالم المفارقة للدين – كما شرح ذلك في كتابه (الإنسانوية المستحيلة..)، كان الأولى استعمال الألفاظ الشرعية التي هي أكمل في المعنى وأدل في المقصود من لفظ الإنسانية، كألفاظ البر والإحسان والمخالقة".
من جهته قال أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي بجامعة عبد الملك السعدي في المغرب، الدكتور أحمد بوعود: "ذهب بعض المفكرين والعلماء إلى القول بأننا نواجه دينا جديدا اسمه الإنسانوية، إنها ليست طريقة تفكير فقط للفلاسفة والمتخصصين، ولكنها أيضا عقيدة للرجال والنساء العاديين الذين يسعون إلى عيش حياة سعيدة ومفيدة".
وأضاف: "وسبب ذلك يرجع إلى كون هذه الإنسانوية مذهب يقوم على معتقدات تخالف التصور الإسلامي، كما ذكر أبرز فلاسفة الإنسانية كورليس لامونت في كتابه الإنسانوية: إنها تعتمد بشكل خاص على قوانين وحقائق العلم، وأننا كبشر نتاج تطوري للطبيعة التي نحن جزء منها".
وتابع في حديثه لـ"عربي21": "ولها إيمانها النهائي بالبشرية، تؤمن بأن البشر يمتلكون القوة أو القدرة على حل مشاكلهم الخاصة، من خلال الاعتماد في المقام الأول على العقل والطريقة العلمية المطبقة على الشجاعة والرؤية، كما تؤمن بالأخلاق أو الأخلاق التي تؤسس جميع القيم الإنسانية في هذه التجارب والعلاقات الأرضية، والتي تحمل كهدف أسمى السعادة والحرية الاقتصادية والثقافية والأخلاقية للبشرية جمعاء، بغض النظر في ذلك عن الأمة أو العرق أو الدين.. إلى غير ذلك من المبادئ التي تناقض الوحي".
أحمد بوعود. أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي بجامعة عبد الملك السعدي في المغرب
ولفت بوعود إلى أن "كثيرا من الناس يتداولون اليوم مجموعة من المفاهيم المرتبطة بالإنسانوية، كالإنسانية والمشترك الإنساني، وغير ذلك، وهنا يجب الحذر في إطلاق مثل هذه المفاهيم، كما يجب تمحيص طرق تبنينا لها".
وأردف: "وهنا أشير إلى أن القرآن الكريم اهتم بالإنسان، مطلق الإنسان، بغض النظر عن دينه وجنسه، وهذا من أجل إثبات كرامته وآدميته، بكونه مفضلا على كثير من المخلوقات، فالإسلام لم يكن يوما مصادما للإنسان ولا للقيم الإنسانية".
وذكر بوعود أن "القرآن الكريم يحفل بمعان ودلالات لا يمكن إغفالها عند الحديث عن أي بعد إنساني في المشاريع الفكرية الإسلامية، وكذلك السنة الشريفة باعتبارها الترجمة العملية للقرآن الكريم، فالرسول عليه الصلاة والسلام كما تصفه أمنا عائشة "كان خلقه القرآن.. وكذلك فإن الصحابة كانوا مخالطين لمختلف الشرائح الإنسانية، مع اطلاعهم الواسع على مختلف الثقافات الإنسانية حينما وجدت، بحثا عن كل مشترك مناسب" وفق عبارته.
بدوره رأى الكاتب الفلسطيني، المقيم في تركيا، أيمن خالد أن "مسألة الإنسانوية اختلف توصيفها خلال القرون الماضية، لكنها بدأت بأخذ شكلها العلماني، وتعمقت الصورة بشكل أوضح ما بعد الحروب الكونية الأخيرة، إذ إنها كغيرها من الأفكار والقيم أحدثت تعقيدات الحروب فيها أشكالا ثقافية أو معرفية جديدة".
وأضاف: "ما يراه الإسلاميون في صورة الإنسانوية مبني على فكرة مسبقة لديهم مستمدة من العقيدة الإسلامية، ومبنية على التشريعات الدينية، وهو توصيف ديني خاص برؤية الإسلاميين للأمور انطلاقا من رؤاهم الدينية والعقائدية".
وردا على سؤال "عربي21" بشأن مقاربة الإنسانوية وفق منظريها والمؤمنين بها، قال خالد: "التوصيف الحقيقي لها يجب أن ينطلق من رؤية مختلفة، فهي نتاج بيئة غربية، لذا فإنه يتوجب الاستدلال على المسألة بمفاهيم الغرب الذي استبعد الدين منذ قرون، وأنشأ منظومة مدنية تطورت تباعا ولا تزال، لها ما لها وعليها ما عليها بالنسبة لهم".
وأشار إلى أن "المجتمعات العلمانية في الغرب صهرت ثقافات أوروبية عديدة، وأنتجت تشكيلا جديدا يأخذ شكل القانوني المدني، للتخلص من هيمنة الكنيسة وجبروت رجال الدين، وهذا يعد بالنسبة للمجتمعات الغربية نوعا من التطور الذي يلائم حاجات المجتمع هناك في إطار سيرورته التاريخية".
ونبه على أن "تجليات الفكر الإنساني في أوروبا وأمريكا وعموم الدول الغربية، تظهر بوضوح في تعاملهم مع سائر البشر بمنطق الإنسانية، فتراهم يرحبون باللاجئين السياسيين والإنسانيين في بلادهم، ويوفرون لهم سبل الحياة الكريمة، بغض النظر عن أعراقهم وأفكارهم وأديانهم".
وختم حديثه بالتأكيد على أن عموم الإسلاميين يرون أن الإنسانوية بحمولتها الفكرية والفلسفية "لا تتوافق مع الإسلام" لافتا إلى أن "عموم الثقافة البشرية تحمل مشتركات ومتناقضات، ولا يمكن اجتماع البشرية على ثقافة واحدة، ولكل ثقافة ومجتمعات معاييرها الخاصة بها، ولا يمكن بحال فرضها على الآخرين، أو إجبارهم على قبولها".
التسامح وشرائط الإنجاز.. نقاش حول دعائم حوار الثقافات (1من2)
كيف أسهمت قضايا الصحة الإنجابية بتسليع المرأة؟