يبشّر بعض الكتاب والمثقّفين، استخلاصاً من أنماط
المقاومة المتجدّدة في ساحة الضفّة الغربية، بانتهاء عصر التنظيمات الفلسطينية
التقليدية، والدخول في زمن "لا نهائي" من المقاومة التي تعتمد العنصر
الفردي بلا إطار تنظيميّ. لا تستند هذه الخلاصات التبشيرية إلى شكل الظواهر
الجديدة فحسب، وإنما إلى موقف من التنظيمات القائمة، موقف سياسي أو أيديولوجي، أو
موقف نفسي يسِمُ المثقفين عادة، الذين يعتقدون دائماً أنه يمكن لهم النظر للحقيقة
من أعلى دون انغماس في واقعها، وهو أمر يرتدّ بقدر كبير من الشعور بالقصور إلى
النفس المنحازة عن الواقع فتتغطى بانتقاص الفاعلين، أو التبشير بانتهاء زمنهم!
ليست القضية في تفسير الظواهر القائمة، ودقة وصفها هل
هي متجاوزة بالفعل للنمط التنظيمي أم لا، ولكن القضية فيما يخفيه التبشير المستعجل
من موقف نفسي من قضية الحضور التنظيمي، واختزال هذا الحضور بالتنظيمات التقليدية، ثمّ
الدعوة لتجاوزها بافتراض فشلها أو تآكلها سياسيّاً أو أخلاقيّاً، أو أن ينعكس
الموقف من التنظيمات التقليدية على التنظيرات إزاء الصراع مع الاحتلال، بما لا
يخدم أحداً في النهاية إلا الاحتلال.
حين النظر إلى الحالة القائمة في الضفّة الغربية،
فإنّه ومن حيث موقعها من الظاهرة التنظيمية التقليدية، يمكن الحديث عنها من
حيثيتين اثنتين، الأولى أنّها غير منعزلة عن دور التنظيمات التقليدية، والثانية أنّها
من جهة سماتها الخاصّة غير التقليدية، تكشف عن النزوع الكفاحي المتصاعد للجماهير
في الضفّة الغربية، والساعي لتعويض القصور التنظيمي، لا لتجاوزه مطلقاً من حيث هو.
حين النظر إلى الحالة القائمة في الضفّة الغربية، فإنّه ومن حيث موقعها من الظاهرة التنظيمية التقليدية، يمكن الحديث عنها من حيثيتين اثنتين، الأولى أنّها غير منعزلة عن دور التنظيمات التقليدية، والثانية أنّها من جهة سماتها الخاصّة غير التقليدية، تكشف عن النزوع الكفاحي المتصاعد للجماهير في الضفّة الغربية، والساعي لتعويض القصور التنظيمي
فيما يتعلق بالحيثية الأولى، فإنّ الفعل الجماهيري على
نحو ما قد يسبق في بعض المحطات التأطير التنظيمي، بمعنى يجد التنظيم مسؤوليته في
تأطير الفعل الجماهيري، لتطويره ومدّه والحفاظ عليه أطول فترة ممكنة. وهذا الذي
حصل في الانتفاضة الأولى، التي تحوّلت سريعاً من هبّة، كان يمكن أن تكون عابرة، إلى
ملحمة شعبية استمرّت لسنوات، كانت التنظيمات من أهم سماتها وصورها. وهنا يصبح
التنظيم جزءاً من الفعل الشعبي، بينما في الانتفاضة الثانية اختلط الأمر من أوّله،
فالاندفاعات الشعبية على الحواجز كانت بدعوات وترتيبات تنظيمية، ثمّ تحوّل الأمر
إلى ملحمة مسلحة،
فصائلية بامتياز.
أخذت الانتفاضة الأولى سمتها تلك من انعدام وجود سلطة
فلسطينية محلية، وأخذت الثانية سمتها من وجود سلطة امتلكت لحظتها إرادة بفسح متنفس
للمواجهة، وهو الأمر المنعدم تماماً الآن في الضفّة الغربية، التي تتأسس وقائعها
الأمنية الاستعمارية على إجراءات الاحتلال في انتفاضة الأقصى، التي استهلكت فيها
التنظيمات خيرة أبنائها، وتتأسس وقائعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية
على ما يعرف بـ"الانقسام الفلسطيني"، وهو ما أفضى إلى تجريف الحالة
الوطنية، وتفكيك كل مفاصل النضال المنظّم، ومن ثمّ وحين الإشارة إلى قصور
التنظيمات، ودون التغافل عن مسؤوليتها الذاتية في ضرورة تطوير خيالها وأدواتها
للتحايل على تلك الوقائع كلّها، فإنّ هذه الإشارة إلى ذلك القصور جاهلة بذلك
الواقع ومساراته المفضية إليه، ومتورّطة في عيب أخلاقي.
وهي لا تذكر السبب الأساس في هذا الواقع، ولا سيما مع
الميل المشين لعديد المثقفين في التسوية بين فرقاء الساحة الفلسطينية وفاعليها،
وهو ميل معيب في ذاته بغض النظر عن هويّة هؤلاء الفرقاء، إذ من حيث الأصل لا يستوي
الخصوم في أصل الخصومة، مهما اشتركوا في اقتراف الأخطاء، فكيف والأمر، في فلسطين،
أكثر وضوحاً في مساراته وحقائقه الراهنة؟!
قيامة الجماهير للنهوض بمسؤوليتها التاريخية، لم تكن موقفاً من التنظيمات، وإنما تعويضاً لقصور التنظيمات الناجم عن حملات التفكيك والاستنزاف التي لم تتوقف في الضفّة الغربية، لكن المهم أنّ التنظيمات، وحصراً تنظيمات المقاومة في غزّة، هي التي وفّرت بملحمتي العام 2014 و2021 الدافعية الكافية لتلك الجماهير
وأما بالنسبة للحيثية الثانية، فإنّ قيامة الجماهير
للنهوض بمسؤوليتها التاريخية، لم تكن موقفاً من التنظيمات، وإنما تعويضاً لقصور
التنظيمات الناجم عن حملات التفكيك والاستنزاف التي لم تتوقف في الضفّة الغربية،
لكن المهم أنّ التنظيمات، وحصراً تنظيمات المقاومة في غزّة، هي التي وفّرت بملحمتي
العام 2014 و2021 الدافعية الكافية لتلك الجماهير، التي ظلت تتلمّس طريقها منذ
"هبّة القدس" 2015 وإلى الآن، بأنماط من الاشتباك الشعبي، والعمليات
التي سمّيت "فردية"، وصولاً إلى أنماط جديدة من العمل التنظيمي، هي في
ذاتها تنظيم، ومن حيث موقعها من التنظيمات التقليدية ليست منعزلة عنها، لا من جهة
الاستلهام والتأثّر كما في حضور اسم "محمد الضيف" مثلاً، في هتافات
الجماهير وكلمات المقاومين الجدد، فحسب، بل وفي أشكال من انسيابية التداخل ما بين
الانتماء التنظيمي التقليدي والانصهار في التشكيلات الجديدة، وما يتصل بذلك من دعم
وتعزيز.
لا يقلّ عن ذلك أهمية أن الحضور التنظيمي التقليدي، لم
يكن غائباً عن تسلسل الأحداث في الضفة، سواء بالعمليات التي نفّذتها مجموعات
مرتبطة عضويّاً بالتنظيمات، أم بتلك التي نفّذها أفراد ينتمون لهذه التنظيمات.
ولأنّ ذاكرة غير المنغمسين في الحدث قصيرة، يعتقدون أنّ التاريخ الجاري بدأ مع هذه
العملية الفردية أو تلك، بيد أنّ الغفلة الأسوأ، والحالة هذه، في تصوّر انفكاك صور
العمل المقاوم عن بعضها، أي الغفلة عمّا يحصل من توليد وتأثير وإلهام ودفع معنوي
ورفع تعبوي بكلّ عمل يحصل. وما يجري في الضفّة ليس إلا نتاج ذلك كله من المراكمة
والتوليد، والذي كان فيه للتنظيمات وأبنائها دور مهم، بما يحتّم القول إنه ليس
ثمّة استغناء عن أي جهد أو دور في هذه المرحلة، وأنه لا يمكن التخلي عن هذه
الضرورة نتيجة عُقَد نفسية تجاه التنظيمات، أو تجاه بعضها.
بعض الأدوار مفيدة في حدودها وسياقها، فالعمل الفردي مفيد للتعويض عن قصور العمل الجماعي الحاصل، ومفيد في ذاته لقدرته على التملّص من رقابة أجهزة الاحتلال، لكنّه على مستوى المشروع التحرري لا يغني عن العمل المنظم. وهذه بدهية تكفي بمجرّدها عن التذكير بها، لكن العجب فيمن يُنَظّر لنقيضها
ما ينبغي قوله جوهريّاً، إنّ بعض الأدوار مفيدة في
حدودها وسياقها، فالعمل الفردي مفيد للتعويض عن قصور العمل الجماعي الحاصل، ومفيد
في ذاته لقدرته على التملّص من رقابة أجهزة الاحتلال، لكنّه على مستوى المشروع
التحرري لا يغني عن العمل المنظم. وهذه بدهية تكفي بمجرّدها عن التذكير بها، لكن
العجب فيمن يُنَظّر لنقيضها.
وكذا الظاهرة الاستعراضية في العمل المقاوم، مفيدة مؤقّتاً
في إحياء ثقافة المقاومة لدى الأجيال الجديدة، وفي تكريس واقع معاند للوقائع
السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية القائمة، لكنها لا يمكن أن تمضي
إلى الأمام في مواجهة عدوّ مدجج بالجيش المنظّم والاستخبارات المحترفة.
والمجموعات الصغيرة القائمة اليوم، والتي تمثل نزوعاً
لتطوير الحالة الفردية إلى نمط تنظيمي ما، تواجه تحدّيات هائلة لتفكيكها، سواء على
المستوى الأمني، أم على المستوى الداخلي، وسواء بالأدوات الخشنة أم أدوات الاحتواء
الناعم، وهو ما يعني حتماً أنها لن تكون النموذج المقاوم المطلوب في إطار مشروع
تحرري أكبر وأكثر طموحاً، وإنما محاولة ضرورية في وقتها وسياقها.
twitter.com/sariorabi