يعترف القانون الدولي لكل دولة بالحق في مناطق بحرية تشمل المياه الإقليمية التي تمتد لمسافة 12 ميل بحري من شواطئها وتمارس عليها الدولة سيادتها الكاملة، كما تشمل المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري تحتها والتي تمتد لمسافة 200 ميل بحري وتمارس عليها الدولة حقوقا سيادية فيما يتعلق باستثمار الموارد الطبيعية الحية وغير الحية كصيد الأسماك واستخراج النفط والغاز.
عندما تكون المسافة بين شواطئ دولتين متقابلتين أكثر من 400 ميل بحري فإن كل دولة تتمتع بمناطقها البحرية دون نزاع. بالمقابل، إذا كانت المسافة بين الدول المتشاطئة أقل من 400 ميل بحري فإنه يمكن أن ينشأ نزاع على ترسيم الحدود البحرية كما هو الحال في شرق المتوسط، بدأ هذا النزاع بالتصاعد خاصة مع تطور الأساليب التقنية لاستخراج النفط والغاز من قاع البحر وأيضا مع اشتداد الطلب على الطاقة في السنوات الأخيرة.
اﻟﻘﺎﻧون اﻟدوﻟﻲ ﻟﻠﺑﺣﺎر يشمل قواعد قانونية عرفية تم تدوينها في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لسنة 1982، تنص الاتفاقية على أن ترسيم الحدود البحرية للدول المتشاطئة يكون بالاتفاق فيما بينها وإذا تعذر ذلك فباللجوء للقضاء أو التحكيم الدولي. السوابق القضائية لمحكمة العدل الدولية والمحكمة الدولية لقانون البحار تشير لقيام القضاء الدولي بثلاث خطوات لترسيم الحدود البحرية: أولا، رسم خط في منتصف المسافة بين الدولتين (equidistance) . ثانيا، النظر في وجود ظروف يمكن أن تغير مكان ذلك الخط لصالح إحدى الدولتين كطول شواطئها واتجاهها بالمقارنة بالدولة المقابلة أو شكل الجرف القاري تحت سطح البحر وتضاريسه. ثالثا، إعادة النظر في ذلك الخط بعد تعديله والتأكد مما إذا كان يحقق العدالة أم لا.
يتعلق الأمر في النزاع الليبي التركي من جهة واليوناني، ومن جهة أخرى بالجرف القاري للجزر اليونانية في بحر إيجة وصولا إلى جزيرة كريت جنوبا. فيما يتعلق بالجرف القاري لجزيرة كريت مع ليبيا ومصر، تطالب اليونان بتطبيق مبدأ المسافة المتساوية دون اعتبار للعوامل الأخرى كطول الشواطئ واتجاهها وتضاريس الجرف القاري، وقد قامت اليونان فعلا بعقد اتفاقية لترسيم الحدود مع مصر وفقا لمبدأ المسافة المتساوية.
ترفض ليبيا الاقتصار على هذا المبدأ وتطالب بأخذ العوامل الأخرى بعين الاعتبار، ويمكن هنا التذكير بحكم محكمة العدل الدولية لترسيم الجرف القاري بين ليبيا ومالطا سنة 1985 والذي رفضت فيه المحكمة طلب مالطا بالاقتصار على مبدأ المسافة المتساوية واستجابت لطلبات ليبيا بأخذ طول الشواطئ واتجاهها وتضاريس الجرف القاري بعين الاعتبار. كما أنه في قضايا أخرى رفضت محكمة العدل الدولية الاقتصار على مبدأ المسافة المتساوية كحكمها في سنة 1969 لترسيم الجرف القاري لبحر الشمال بين ألمانيا والدانمارك وهولندا، حيث طالبت كل من الدانمارك وهولندا بتطبيق ذلك المبدأ ورفضت ألمانيا تطبيقه مطالبة بأخذ عوامل أخرى بعين الاعتبار كطول وشكل سواحلها وحكمت المحكمة بعدم الاقتصار على مبدأ المسافة المتساوية وأخذت العوامل المذكورة بعين الاعتبار في حكمها.
غالبا لن تنتهي أزمة النزاع على الحدود البحرية في شرق المتوسط لا بالاتفاق اليوناني المصري ولا بالاتفاق التركي الليبي. مثل هذه المسائل الحيوية لا تنتهي إلا بمفاوضات تجمع جميع الأطراف وتفضي لاتفاق شامل أو باللجوء للقضاء الدولي
وقامت ليبيا بأمر مشابه في اتفاقها مع تركيا بالمطالبة بالحد الأقصى لجرفها القاري.، وباستقراء السوابق القضائية الدولية فإنه لو عُرِضت مسألة ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا ومصر من جهة واليونان من جهة أخرى فإن هناك احتمالا كبيرا بأن تحكم بخط حدودي شمال خط الترسيم الذي تم الاتفاق عليه بين اليونان ومصر، أي أن لليبيا ومصر حظوظا في أن يكون الحكم لصالحهما.
في نفس الوقت، قد لا يكون الحكم متوافقا مع الاتفاق الليبي التركي، وقد يتم رسم خط الحدود جنوب الخط المتفق عليه بين ليبيا وتركيا. ولكن تلك المسألة لن تحسم على وجه الدقة إلا بحكم قضائي ومن مصلحة كل الدول المتنازعة التمسك بمطالبها حتى ذلك الحين.
فيما يتعلق بالنزاع بين تركيا واليونان فإن المسألة بالغة التعقيد. تطورت قواعد قانون البحار العرفية والتي تم تدوينها في اتفاقية 1982 لتحكم الأوضاع الطبيعية التي تكون فيها الجزر القريبة من شواطئ كل دولة تابعة لها، لكن الوضع فيما يتعلق بالجزر في بحر إيجة مختلف حيث تم انتزاعها بشكل تعسفي من الدولة العثمانية في فترة احتضارها وضمها لليونان بما في ذلك الجزر المحاذية للساحل التركي، وهذا الوضع غير الطبيعي أدى إلى أنه لو طالبت اليونان بمياه إقليمية لجزرها المحاذية لتركيا بمسافة 12 ميل بحري بموجب القانون الدولي لتم فصل تلك الأراضي التركية عن المياه الدولية ولما تمكنت السفن التركية من الوصول إلى المياه الدولية من تلك المناطق إلا بالمرور عبر المياه الإقليمية اليونانية.
لذلك أعلنت تركيا أنها ستعتبر قيام اليونان بإعلان مياه إقليمية لتلك الجزر بمسافة 12 ميل بمثابة إعلان حرب. ولذلك أيضا قامت اليونان بإعلان مياه إقليمية بمسافة 6 أميال بحرية فقط لتلك الجزر.
نظرا للوضع الخاص للجزر اليونانية في بحر إيجة رفضت تركيا الانضمام لاتفاقية قانون البحار لسنة 1982 ومارست الاعتراض على بعض القواعد العرفية الدولية التي تشكل قانون البحار.
القانون الدولي، عكس القانون الوطني، ليس قانونا موحدا بالنسبة للمخاطبين به، فالقانون الدولي الاتفاقي بالنسبة لكل دولة يشمل الاتفاقيات التي صادقت عليها فقط. والقانون الدولي العرفي وإن كان ملزما لكل الدول فإن نظرية "المعترض الملحّ" تسمح للدولة بالاعتراض على قاعدة عرفية في طور التشكل لكيلا تكون ملزمة بها في المستقبل، وهو ما قامت به تركيا فيما يخص العديد من القواعد العرفية الخاصة بقانون البحار.
ومن هنا يأتي وصف الاتحاد الأوروبي للاتفاق الليبي التركي بغير القانوني لأنه حسب القواعد القانونية الدولية، التي لا تعترف بها تركيا، وحسب السوابق القضائية الدولية فإن احتمال امتداد الجرف القاري التركي جنوب جزيرة كريت يكون أمرا غير مرجح. فالاعتراض هنا هو بالدرجة الأولى على المطالب التركية وليس الليبية، وتوجهت اليونان بطلب لمحكمة العدل الدولية لترسيم الجرف القاري في بحر إيجة في سنة 1976، ولكن تركيا رفضت عرض النزاع على المحكمة التي حكمت في سنة 1978 بعدم الاختصاص لعدم اتفاق الطرفين على طرح النزاع عليها.
تركيا تريد حل النزاع عن طريق المفاوضات لأنها ترى أن اللجوء للقضاء الدولي لا يخدم مصالحها بينما تريد اليونان اللجوء للقضاء الدولي لأنها ترى أنه سيحقق لها من المصالح ما لم تحققه المفاوضات. الموقف اليوناني من ليبيا مختلف حيث تحاول تجاهل المطالب الليبية وفرض الأمر الواقع باتفاقها مع مصر.
في ظل تحالف يوناني إسرائيلي مصري قبرصي فيما يتعلق بالنزاع على ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط في تجاهل لمطالب باقي الدول المتشاطئة قامت تركيا بالاتفاق مع ليبيا. بالنسبة لليبيا جاء الاتفاق في وقت حاسم إذ أنه يمكنها من الاعتراض على الأمر الواقع الذي تحاول اليونان فرضه بالتعاون مع مصر. وليس لدى ليبيا في ظل الوضع السياسي والأمني المنهار أي وسائل للحفاظ على ما تعتبره حقوقا سيادية في وقت يتم فيه تجاهل هذه الحقوق من قبل الجميع بما في ذلك الاتحاد الأوروبي إلا الاتفاق مع تركيا.
عدم المطالبة بالحقوق يمكن أن يفسر كتنازل ضمني وهو ما كان سيحدث لو لم تتحرك ليبيا قانونيا لرفض الأمر الواقع الذي تحاول اليونان فرضه. كما أن مذكرة التفاهم التي تفتح الباب للتنقيب عن النفط والغاز في الجرف القاري الليبي حسب الاتفاقية مع تركيا سيمنع اليونان من التنقيب في تلك المنطقة كما أنه سيفرض ليبيا كطرف في أي تسوية قادمة. بالإضافة إلى ذلك فإنه من الصعب على دول شرق المتوسط تجاهل تركيا فيما يخص تصدير الغاز لأوروبا في ظل رفض تركيا لمرور أي خطوط نقل من مناطق جرفها القاري دون الاتفاق معها. كما أن موقع تركيا ودورها الاستراتيجي وقوتها العسكرية تمنع الدول الغربية من التحرك ضدها بعنف بخصوص ما تعتبره مسألة سيادية كحدودها البحرية.
غالبا لن تنتهي أزمة النزاع على الحدود البحرية في شرق المتوسط لا بالاتفاق اليوناني المصري ولا بالاتفاق التركي الليبي. مثل هذه المسائل الحيوية لا تنتهي إلا بمفاوضات تجمع جميع الأطراف وتفضي لاتفاق شامل أو باللجوء للقضاء الدولي وصدور حكم يُنهي النزاع. في المدى القصير والمتوسط تتفق مصالح ليبيا مع تركيا في توقيع الاتفاق المشترك ومذكرة التفاهم التي ستسمح لمؤسسة النفط الليبية بمنح امتيازات للشركات التركية للتنقيب في الجرف القاري الليبي مما سيمنع اليونان من فرض أي أمر واقع قبل نضوج المفاوضات أو اللجوء للقضاء الدولي.
لكن على المدى الطويل يمكن أن تختلف مصالح الدولتين. إذ أنه ليس من مصلحة تركيا اللجوء للقضاء الدولي وستستمر على الأغلب في محاولة حل النزاع عن طريق المفاوضات اعتمادا على قوتها السياسية والعسكرية. في حين أنه من مصلحة ليبيا اللجوء للقضاء الدولي حيث إن السوابق القضائية في القضايا المشابهة تدعم موقفها وليس لدى ليبيا القوة السياسية ولا العسكرية للمطالبة بحقوقها في وقت تسعى فيه بعض الأطراف الليبية للتماهي مع المطالب اليونانية مقابل تسجيل بعض النقاط في صراعها الداخلي على السلطة.
أشار رئيس حكومة الوحدة الوطنية في معرض تعليقه على مذكرة التفاهم التي وقعها مع تركيا مطلع أكتوبر الجاري لاستعداد حكومته للتوجه للقضاء الدولي في حال قبلت اليونان ذلك. لكن السؤال يظل مفتوحا عن مصير التحالف الليبي التركي إذا ما أقدمت حكومة الوحدة الوطنية أو أي حكومة قادمة على خطوة في هذا الاتجاه.