نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية
تقريرًا نقلت فيه مقابلة مع المؤرخ الفرنسي مارتن موت الذي أشار إلى أن الجغرافيا
السياسية العالمية الجديدة تنعكس قبل كل شيء في الصراع البحري الإستراتيجي بين
الولايات المتحدة والصين، التي تضاعف أسطولها ثلاث مرات منذ بداية القرن الحادي
والعشرين.
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته
"عربي21"، إنه من أجل اللحاق بالقوة الأمريكية ثم تجاوزها، تدرك بكين أن
المخاطر تقع في أعالي البحار وبالقرب من الساحل.
وفي سؤال الصحيفة عن مدى أهمية الجانب البحري
للحرب في أوكرانيا، أشار الباحث إلى أن الوصول إلى البحر الأسود هو أحد الأهداف
الرئيسية للروس مؤكدًا أن الرغبة في السيطرة على الفضاء الذي يربط البحر الأبيض
بالبحر الأسود هي بالفعل خط قوة في تاريخهم، والسبب الجيوسياسي لهذا هو أن هذا
الفضاء المذهل في خط العرض يوفر مجموعة متنوعة من الموارد، من أسماك الرنجة في
البحر الأبيض إلى كروم القرم وأراضي القمح الأوكرانية الغنية. بالتالي، فإن من يسيطر على المنطقة يمكنه بعد ذلك تصدير
إنتاجه إلى البحر الأبيض المتوسط عبر البحر الأسود.
ووفقًا له؛ كانت اللحظة الحاسمة في هذا الصدد
سنة 1774، عندما انتزع الروس سواحل أوكرانيا والقرم من الإمبراطورية العثمانية
وحلفائها التتار، وأسسوا هناك أوديسا ونيكولاييف وخيرسون وسيفاستوبول وماريوبول،
من بين مدن أخرى. هذا هو السبب في أن العديد من الروس، بدءًا من فلاديمير بوتين،
مقتنعون بأن لديهم حقوقا تاريخية على هذا الخط الساحلي، لكن بموجب القانون الدولي،
فهي تنتمي إلى أوكرانيا، التي تحررت من الحكم الروسي في سنة 1991 وتحتاج إلى منفذ
إلى البحر الأسود.
في الخلفية؛ هناك بالطبع التنافس بين روسيا
والغرب، فقبل كل شيء، تخشى موسكو أن يصبح البحر الأسود بحيرة تابعة للناتو؛ حيث
انضمت تركيا إلى الناتو في سنة 1952، ورومانيا وبلغاريا في سنة 2004؛ وفي سنة 2008
كان هناك حديث عن قبول أوكرانيا وجورجيا، وفي هذه الحالة كان التحالف سيسيطر على
أكثر من 90 بالمئة من ساحل البحر الأسود، وقد فشل هذا الاحتمال لأن ألمانيا وفرنسا
لم ترغبا في استفزاز روسيا، لكن فلاديمير بوتين هاجم جورجيا وهزمها بعد أربعة
أشهر.
وبشأن التحديات المحددة التي تغطيها أوديسا
وشبه جزيرة القرم وبحر آزوف على الساحل الأوكراني؛ أشار الباحث إلى أنه بالنسبة
للروس، فإن الأهم هو شبه جزيرة القرم؛ حيث تأتي القيمة الإستراتيجية لشبه الجزيرة
من حقيقة أنها تتقدم مسافة 200 كيلومتر نحو مركز البحر الأسود وبالتالي تسهل
السيطرة عليه؛ ولقد كانت أيضًا القاعدة الخلفية للتدخل الروسي في سوريا منذ سنة
2015.
وهناك أيضا مشكلة تتعلق بالهوية: فقد تم السيطرة
على شبه جزيرة القرم من التتار المسلمين والدفاع عنها ثلاث مرات ضد جيوش من أوروبا
غير الأرثوذكسية، الفرنسيون البريطانيون في الفترة المتراوحة بين سنتي 1854-1856،
الفرنسيون في 1918-1920 والألمان 1941-1942؛ لذلك فهي نوع من الأراضي المقدسة في
نظر القوميين الروس، ولكن للوصول إلى شبه جزيرة القرم يتعين على الروس المرور عبر بحر
آزوف.
وعلى حد تعبير مارتن؛ كان بحر آزوف بمثابة نقطة
انطلاق لهم لغزو شبه الجزيرة في نهاية القرن الثامن عشر، ثم كقاعدة خلفية للدفاع
عنها كلما تعرضت للهجوم؛ حيث يتمتع بحر آزوف أيضًا بأهمية اقتصادية كبيرة،
فموانئه، وخاصة ماريوبول، تسمح بتصدير الحبوب من شرق أوكرانيا وإنتاج الحديد
والصلب من نهر دونباس، وهذا هو السبب في أن هذا البحر أصبح الهدف الأول للروس بعد
فشل هجومهم الأوَّلي على كييف.
أما بالنسبة لأوديسا، فهي أول ميناء لأوكرانيا،
وبالتالي فهي أصل أساسي لاقتصادها، ومن هنا جاءت جهود الروس للاستيلاء عليها، ولقد
أعلنوا مرارا وتكرارا أن هدفهم هو احتلال الساحل الأوكراني بأكمله، بما في ذلك
أوديسا، وبالتالي حرمان أوكرانيا من الوصول إلى البحر. وعلى العكس من ذلك، يقول
الأوكرانيون إنهم يريدون استعادة جميع المناطق التي فقدوها منذ شباط/فبراير، حتى
شبه جزيرة القرم، في هذه الحالة، فإن الروس هم من سيفقدون معظم نقاط وصولهم إلى
البحر، وبالتالي لا نرى كيف يمكن أن تتوقف الحرب.
وفيما يتعلق بجزيرة الثعبان؛ أشار المؤرخ إلى
أن الروس احتلوا هذه المنطقة في وقت مبكر من شباط/فبراير، لأن موقعها سهل حصار
أوديسا، لكنها تكبدت خسائر فادحة هناك من الصواريخ والطائرات دون طيار والبنادق
بعيدة المدى الأوكرانية. وهذا هو سبب إجلاء الروس في حزيران/يونيو. لكن إعادة
احتلال الأوكرانيين للمنطقة لها أمر رمزي: إذا عادوا بالفعل، فسيكونون عرضة لإطلاق
النار من السفن الروسية.
في ظل هذه الظروف، تساءلت الصحيفة: هل ما زالت
صيغة "التحكم في البحر تعني التحكم في العالم" منطقية. وردًّا على ذلك،
بين المؤرخ أن ذلك يلخص اعتقاد بعض البحارة أن المياه تغطي 71 بالمئة من الكرة
الأرضية وتسمح بنقل كميات ضخمة من البضائع بأسعار منخفضة التكلفة، رجال ومعدات.
وهذه حجج لا جدال فيها في حد ذاتها، لكن الطيارين يردون بأن الهواء يغطي 100
بالمئة من الكرة الأرضية وأن الطائرات أسرع بكثير من السفن...
باختصار؛ كل شخص يقوم بعمله الخاص، متناسين
التفاصيل الصغيرة وهي أن البيئة الطبيعية للإنسان هي الأرض. لذلك، فإن الرهان
النهائي في أي نزاع هو الاستيلاء على الأرض أو الدفاع عنها أو توفيرها. في
الممارسة العملية، يتوج النصر عمومًا العمل الموحد للدوائر الثلاث؛ ويعتمد التأثير
النسبي لكل منها على جغرافية كل مسرح عمليات.
وفي سؤال الصحيفة عن هل تعيش الأداة البحرية
ثورة تكنولوجية وإستراتيجية، أكد مارتن أن
هناك بالفعل ثورة تكنولوجية جارية على قدم وساق: فهناك وسائل جديدة لمنع الوصول،
وخاصة الصواريخ ذات الكفاءة المتزايدة؛ حيث يستنتج البعض أن العمليات من البحر إلى
الأرض ستصبح مستحيلة، لأنه سيكون من الأسهل دائمًا نشر مثل هذه الصواريخ على الأرض
بدلًا من البحر، ويبدو أن تدمير موسكفا يثبت صحتها. لكن ما فعلته التكنولوجيا،
يمكن للتكنولوجيا التراجع عنه.
وأضاف المؤرخ أنه منذ سبعينيات القرن التاسع
عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، أكد تيار فكري أن الدفاعات الساحلية الجديدة -
البنادق والألغام وقوارب الطوربيد والغواصات ثم الطائرات - ستجعل السواحل معرضة
للخطر، وهذا ما حدث في معركة الدردنيل سنة 1915، لكن تم تطوير معدات جديدة عكس
الاتجاه، وعادت العمليات البرمائية لتكون قوية خلال الحرب العالمية الثانية.
بالإضافة إلى ذلك، على حد قوله، هناك ثورة
تكنولوجية أخرى في طور التكوين، وهي ثورة المدفعية الكهرومغناطيسية وأسلحة الطاقة
الموجهة، لكن من السابق لأوانه القول ما إذا كانت ستفي بوعودها.
من ناحية أخرى؛ نحن ندخل ثورة استراتيجية كبرى
تحت بند العودة إلى الشدة العالية؛ فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتي لم يعد لدى القوات
البحرية الغربية أعداء قادرون على التنازع معهم في أعالي البحار ومن ثم إعادة
التركيز على مهام الأزمات أكثر من الحرب. ونتيجة لذلك؛ قمنا ببناء سفن ذات تسليح
ضعيف للغاية وشددنا على احترام القانون الدولي، الذي يتطلب عدم إطلاق النار أولاً من
بين أمور أخرى.
وكان لهذا الأمر عواقب قليلة طالما أن خصومنا
كانوا مسلحين تسليحًا سيئاً ولكنه خطير للغاية في مواجهة الروس والصينيين أو القوى
غير المتوقعة مثل تركيا التي أظهرت مؤخرًا سلوكًا استفزازيًا تجاه السفن الغربية.
لذلك حان الوقت لاستعادة السفن الأكثر قوة وقبل كل شيء ثورة ثقافية تضع القتال مرة
أخرى في قلب المهمات البحرية.
وفي سؤال الصحيفة عن إستراتيجيات أوروبا وفرنسا
في مواجهة التحديات البحرية، أفاد الباحث أن الاستقلال الإستراتيجي الأوروبي
يواجه العديد من الصعوبات، فلا يكاد
يتوافق مع العلاقات القوية عبر الأطلسي. ومع ذلك، تم إحياء هذه العلاقات من خلال
الحرب في أوكرانيا.
في الأساس؛ يوجد نوعان من القوات البحرية ذات
القدرات العالمية في أوروبا وهما البحرية الفرنسية والبحرية الملكية البريطانية
حيث يحظيان بقيمة كبيرة لكن صغر حجمهما يمثل مشكلة حقيقية، فلا يستطيع الطرفان غير
لعب دور هامشي في الصراع بين الصين والولايات المتحدة على وجه الخصوص. وذلك على الرغم من أن فرنسا تلعب دورًا مهمًّا
في منطقة المحيطين الهندي والهادئ نظرًا للقيمة الإستراتيجية لمنطقة كاليدونيا
الجديدة.
ويوسع الصينيون اليوم نفوذهم في جنوب المحيط
الهادئ مبدين اهتمامهم بجزيرة وادي القنال. لذلك من المفهوم السبب الذي جعل
الأستراليين والنيوزيلنديين يتبعون الاستفتاءات حول مستقبل كاليدونيا الجديدة
باهتمام أكبر بكثير من اهتمام الفرنسيين في فرنسا، فلقد كانوا يخشون انتصار
الانفصاليين، الأمر الذي كان من شأنه أن يحول هذه الأرض بحكم الواقع إلى محمية
صينية.
وفيما يتعلق بمدى احتواء مستقبل الإستراتيجية
البحرية على حاملات الطائرات أو الطائرات بدون طيار أو غيرها من الوسائل العسكرية،
أشار الباحث إلى أن الكفاءة العسكرية بشكل عام ليست نتيجة لآلة بل هي نتيجة مزيج
من الآلات. واستحضر قول الخبير الاستراتيجي الصيني صن بين في القرن الرابع قبل
الميلاد الذي قال: "تحمي الأسلحة بعيدة المدى الأسلحة قصيرة المدى والأسلحة
قصيرة المدى تحمي الأسلحة بعيدة المدى".
ومع ذلك، فإن منتقدي حاملة الطائرات يتهمونها
بأنها تمثل الكثير من رأس المال المالي والرمزي فيما يتعلق بضعفها، لأن صاروخًا
واحدا يمكن أن يرسلها إلى القاع. إن مثل هذه الخسارة ستكون كارثة وطنية لفرنسا،
التي لديها حاملة طائرات واحدة فقط، ولكن حتى بالنسبة للولايات المتحدة، التي
لديها 11 حاملة طائرات، فإنها سوف تمثل انتكاسة كبيرة جدًا.
وعند سؤاله حول المنافسة البحرية بين الولايات
المتحدة والصين على وجه التحديد، أجاب الباحث أن أسطول البحرية الصينية تضاعف أكثر من ثلاثة أضعاف منذ بداية هذا
القرن. لقد تفوقت البحرية الصينية على نظيرتها الأمريكية في عدد الوحدات لكنها لا
تزال أقل شأنًا من حيث الحمولة وعدد البحارة لأنها تضم العديد من الوحدات الصغيرة. كما أنها ليست متقدمة تقنيا مثل
البحرية الأمريكية ولكن لديها كل النية لأن تصبح ندًّا لها وتجاوزها في هذا
المجال.
ولعل هذا الأمر يعتبر أحد أسباب رغبة
الصينيين في الحصول على حاملات طائرات تعمل بالطاقة النووية. لكن العائق
الرئيسي أمام الصينين بلا شك هو أنهم ليس
لديهم عمليًّا أي خبرة في القتال البحري عالي الكثافة، في حين أن الأمريكيين لديهم
تقاليد غنية في هذا الصدد. حتى لو حققت الصين التكافؤ في الحمولة والتكنولوجيا
معهم، فمن الصعب الحصول على ثقافة قتالية حقيقية.
إن الزيادة المذهلة في الأسطول الصيني ليست أقل
إثارة للقلق وليس فقط للولايات المتحدة. لقد حدث بالفعل في السنوات الأخيرة أن عدد
السفن الحربية الصينية في البحر المتوسط يفوق عدد السفن الحربية الفرنسية؛ حيث
ثبتت الصين نفسها تجاريا في ميناء بيرايوس ولديها روابط مع تركيا ومحاذاة الجزائر
والمغرب.
ولتأمين وصولها إلى أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط؛ افتتحت سنة 2017 قاعدة بحرية مهيبة في جيبوتي، ولقد دفعت جنودها في جرينلاند وأيسلندا لتكون قادرة على الإسقاط يوما ما باتجاه أوروبا عبر المحيط المتجمد الشمالي.
أعضاء بالكونغرس الأمريكي يقترحون تشريعا للضغط على الرياض
"AXIOS": بايدن يحضر للتصعيد ضد السعودية بعد قرار "أوبك+"
NYT: أمريكا تسعى لتحويل تايوان إلى مخزن ضخم للأسلحة