منها انطلقت شرارة الربيع العربي في نهاية 2010 التي توسعت بسرعة كالنار في الهشيم لتصل بشكل مباشر أو غير مباشر لكل بلدان المنطقة دون استثناء. بين ثورة الياسمين في تونس شتاء 2010، والحراك المليوني التاريخي في الجزائر 2019، كانت ثورة فبراير في ليبيا 2011 وحراك فبراير في المغرب2011، والتحركات الشعبية في موريتانيا، وكان مسرح كل هذه الأحداث المنطقة المغاربية من ليبيا شرقا حتى موريتانيا غربا.
بقدر أهميتها الاستراتيجية، قوة جغرافية قارية بحوالي 6 ملايين كلم مربع، وإجمالي إنتاج محلي بقيمة 400 مليار دولار كمعدل دخل عام، وقوة ديمغرافية تزيد على 110 ملايين نسمة، وبوابة حيوية للقارة الافريقية، وتجاور مع مصر (100 مليون نسمة)، تواجه المنطقة المغاربية، الممتدة بين ليبيا وموريتانيا، تحديات خطيرة.
تحديات يمكن تلخصيها في عاملين أساسيين وهما، حالة من الهشاشة السياسية بمعناها العام تطبع المشهد في دول المنطقة الخمس، ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، والعامل الثاني، الذي يمثل نتيجة وسببا للعامل الأول وهو الرخاوة الاستراتيجية، أو الانكشاف الاستراتيجي، بسبب الصراع المزدوج في المنطقة وعليها.
في الهشاشة السياسية
لا شك بأن التفاوت والاختلاف في الأوضاع الداخلية للدول المغاربية بيّن وواضح. ولا يمكن اعتبار الوضع السياسي لدول المنطقة نسخا مكررة. بيد أن المشهد العام يبدو موحدا ومتشابها. ولعل السمة الأبرز لهذا المشهد في الدول المغاربية هو الهشاشة السياسية. فنظرة عامة على الحالة في ليبيا، يبدو فيها الوضع، يدار بالحد الأدنى من الاستقرار الهش، في ظل انقسام سياسي حاد، يعبّر عن نفسه من خلال تعدد الشرعيات، وتوازي المؤسسات، ليس فقط الحكومية، بل حتى الأمنية والعسكرية. ويتعامل المجتمع الدولي بما في ذلك الأمم المتحدة مع هذا الانقسام، بل يلعب فيه دورا أساسيا. ورغم ما تزخر به ليبيا من ثروات، وما تحصل عليه من عائدات نفطية، إلا أن الليبيين لا يلمسون تحسنا معتبرا في أوضاعهم الاجتماعية. فالانقسام وتعدد الشرعيات، بدّد موارد البلاد، في غياب أي حكومة أو قدرة عليها، بل باتت إدارة الانقسام ومعه تقاسم الموارد بين الفرقاء والشرعيات المتوازية، عملية واعية ومقصودة، في إطار وضع سائب تماما، ضابطه الوحيد عدم العودة للاقتتال المسلح. رغم ذلك لا يكاد يمر أسبوع دون وقوع أحداث مسلحة ذات طبيعة أمنية، على خلفية الصراع على السلطة.
وقد ولّد هذا الوضع الهش لدى الليبيين قناعة بأن بلادهم لا تزال بعيدة عن الاستقرار، والجميع يشعر بغياب أفق واضح، عمّقه غياب التوافق على دستور للبلاد، وعلى قوانين مرجعية، واضطراب وضعف الخدمات الأساسية. وفي المجمل بات الفاعلون في المشهد الليبي، المحليون والإقليميون والدوليون يديرون أزمة البلاد بدل حلها. وعلى الجوار الغربي من ليبيا، حيث تونس، مهد الثورات العربية، تعيش امتحانا صعبا، إذ تكاد مكاسب مسار الانتقال الديمقراطي الذي انطلق في 2011، وكان يترسّخ تدريجيا، تضعه انتكاسة 25 يوليو 2021 بين قوسين، إذ بعد ديناميكية للتغيير والتحول والتعدد، استمرت لعقد، تواجه تونس اليوم صعوبات اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، فاقمها وضع سياسي شديد الغموض والتعقيد والانقسام.
ويمكن القول إن تونس اليوم وصلت هشاشة الوضع فيها حدا، باتت فيه سلطة الأمر الواقع التي فرضت نفسها بعد انقلاب 25 يوليو، محل تشكيك في شرعيتها من قبل العديد من المعارضين، بل يطالب آخرون بحكومة خلاص أو إنقاذ وطني، وحتى الوسائط المجتمعية، من مجتمع مدني ومنظمات وطنية، كصلة وصل بين السلطة والمجتمع انحسرت وتراجع دورها بشكل غير مسبوق، ما ينذر بتفجر عنف اجتماعي وسياسي غير متحكم فيه، قد يواجه بقمع عنيف من السلطة القائمة. ولم يكن غريبا أن تتحول تونس فجأة إلى مصدر قلق إقليمي ودولي، بسبب الهشاشة السياسية التي تواجهها في ظل غياب لمجلس نواب الشعب، في سابقة لم تعرفها تونس منذ الاستقلال.
قد تبدو الجزائر، الجارة الغربية لتونس، قد استوعبت الحراك الشعبي التاريخي الذي شهدته البلاد في فبراير 2019 واستمر لأكثر من عام، من خلال تنحي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ثم تنظيم انتخابات رئاسية ثم تشريعية. غير أن ما حصل في الجزائر في حقيقته لا يعدو كونه احتواء للحراك الشعبي العارم، عبر تغييرات بدت في ظاهرها عميقة ونوعية، إلا أنها في جوهرها تبين أنها شكلية، جرت من داخل منظومة الحكم نفسها، وأعاد من خلالها النظام ترتيب نفسه، بل عاد أكثر قوة. بيد أن السلطة أدركت أن ما حصل قد لا يكون كافيا لاحتواء مطالب الشارع بالإصلاح السياسي، فأطلق الرئيس الجزائري مبادرة للحوار الوطني، ظلت غير مفعلة، وأدرك الجزائريون سريعا أن ما حصل هو استعادة النظام القديم للسلطة الكاملة، بعد أن كان بوتفليقة في بداية حكمه قد استحوذ على القدر الأكبر منها، مهمشا من جاؤوا به للرئاسة.
لا شك بأن الهشاشة السياسية التي باتت السمة المشتركة بين الدول المغاربية، تنعطف أوضاع بلدانها على بعضها بعضا، فتعمّق هذه الهشاشة وتزيد من حدتها..
وبقدر ما نجحت منظومة الحكم النافذة في تبديد زخم الحراك الشعبي المليوني، واحتوائه، بقدر ما مثل ذلك خيبة أمل للجزائريين المتطلعين للتغيير والإصلاح في حقيقة الواقع الماثل أمامهم. واقع يلهي نظام الحكم عنه من خلال الدفع بأزمة العلاقات مع المغرب بشأن الصحراء إلى أقصاها، وتحويلها إلى أم المعارك (التلويح بالحرب)، التي يمنع التشويش عليها بأي مطالب إصلاح داخلي أو استحقاقات وطنية، كانت عنوانا للحراك الشعبي، لذلك لم تنجح منظومة الحكم في القفز على الاستحقاقات الوطنية، وتحدثت صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية على أن الجزائريين باتوا يحلمون بالهجرة ومغادرة البلاد، بعد خيبة الأمل الكبيرة في مآلات حراك شعبي مليوني، لم ينعكس مطلقا على أرض الواقع. أما المغرب الجارة الغربية للجزائر، المتحولة لجار لدود، في سياق الخلاف المستحكم والمزمن بشأن قضية الصحراء الغربية، بقدر ما تفاعل مع موجة الربيع العربي، واندرج فيها إصلاحا دستوريا، وتغييرا حكوميا، دفع بالإسلاميين للحكم، إلا أن النظام المغربي، لم يفوّت ارتباكات وخيبات الربيع العربي، ومع أول محطة انتخابية في سبتمبر 2021، بادر لدوس فرامل المسار الديمقراطي، في انتخابات أفرزت صناديقها نتائج استعصت على التفسير والتبرير، إلا بعامل الانسياق والاندراج في الزمن السياسي للمنطقة، الطارد للتغيير، النافر من التحول الديمقراطي.
أغلقت نتائج انتخابات سبتمبر 2021 قوس الانفتاح الديمقراطي في المغرب، على حد تعبير سعد الدين العثماني، الذي أطاحت به تلك الانتخابات، ونتائجها غير المفهومة، كما وصفها. واختارت المؤسسة الصلبة للحكم في المغرب، التطبيع مع إسرائيل، مدخلا لمكاسب بشأن الصحراء، تغني داخليا عن شرعية المسار الديمقراطي. خيارات رسمية قد تكلّف نظام الحكم الصلب، على المدى المتوسط والبعيد ثمنا باهظا، في ظل تحديات وصعوبات اقتصادية واجتماعية حرجة.
وعلى نهج وسيرة جيرانه المغاربيين، انحنى النظام السياسي في موريتانيا لعاصفة الثورات العربية، ثم حاول احتواءها عبر تغييرات، بدت إصلاحا سياسيا في ظاهره، إلا أنها انتهت واقعيا تدويرا للسلطة داخل المؤسسة العسكرية، إذ جرى نقل السلطة عبر انتخابات رئاسية في 2019، إلى الرجل القوي المخضرم في المؤسسة العسكرية ورئيس أركانها الجنرال محمد ولد الغزواني. لتبقى المؤسسة العسكرية، منتجة الرؤساء وصانعتهم منذ الاستقلال إلى اليوم، في معادلة لا تضعف حتى تعود أقوى وأصلب، وعصية على التجاوز. ووجد الموريتانيون المتطلعون للتغيير أنفسهم مجددا منخرطين في مسار المعارضة والمطالبة بإصلاحات حقيقية. فعادت أصوات رموز المعارضة وتياراتها ترتفع للمطالبة بتكريس تغيير حقيقي، يعكس تطلعات الموريتانيين في نظام سياسي مدني وتعددي وتشاركي.
فبين ليبيا الباحثة عن الخروج من مستنقع الانقسامات وكبح جماح التدخلات الخارجية، وتونس التي تكاد تتدحرج الأوضاع فيها إلى مستوى يهدد كيان الدولة ذاتها، والجزائر التي تعيش مفاصلة حادة بين شعب ممتلئ بفكرة التغيير والنهوض، ونظام برع في إعادة إنتاج نفسه، ومغرب ذوت فيه الملكية الدستورية، وتاهت بوصلة سياساته باتجاهات ينقض بعضها بعضا، وموريتانيا التي عمّق ضعف ورخاوة عمقها المغاربي، تمزّقها، بين ساحل الصحراء الدامي، والاتحاد المغاربي الذاوي. تبدو المنطقة المغاربية في حالة تحول عميقة، من قديم مستحكم، إلى جديد مستنفر.
الرخاوة الاستراتيجية
لا شك بأن الهشاشة السياسية التي باتت السمة المشتركة بين الدول المغاربية، تنعطف أوضاع بلدانها على بعضها بعضا، فتعمّق هذه الهشاشة وتزيد من حدتها. فقد اعتبرت دول المنطقة المغاربية، من خلال ديناميكية التداعي والانتشار التي أحدثتها الانتفاضة العربية، والتي اكتسحت جل دول المنطقة خلال أسابيع قليلة، أن خيار الانكفاء والعزلة، وضبط علاقة محدودة مع بقية الدول الجارة سيجنبها عدوى هذه الانتفاضة الفائضة في كل الاتجاهات. نجحت استراتيجية الانكفاء والاحتواء إلى حد ما في تحقيق الهدف من خلال، منع انتفاضة الجوار من أن تعبر حدود بقية الدول، وحبسها في جغرافية محدودة، واحتواء زخمها، عبر تصويره لمواطنيها فوضى وعدم استقرار.
والحقيقة أن هذه الاستراتيجية التي بدت فيها البلدان المغاربية جزرا منفصلة تماما عن بعضها، عمّق ضعف أمنها القومي، في ظل غياب التنسيق والتضامن. وتحولت المنطقة إلى جغرافية رخوة، سهلة الاختراق. حتى تحوّل افتعال الأزمات الدبلوماسية بين بلدان المنطقة جزءا من هذه الاستراتيجية، لتبرير الانكفاء والعزلة. تحولت المنطقة ودولها في سنوات قليلة إلى مرتع لمختلف الاستخبارات الإقليمية والدولية. أغرت هذه الرخاوة الاستراتيجية المتعمدة، دولا عديدة بالتدخل في شؤون البلدان المغاربية، وصل حد العمل على التأثير ولعب دور في هندسة المشهد السياسي والخريطة الحزبية في بلدان الفضاء المغاربي، وفرض سطوة إعلامية غير مسبوقة، ترفع شأن تيارات سياسية وتقلل شأن أخرى.
لا تكاد تذكر بلدا من بلدان المنطقة المغاربية إلا وتذكر معه قائمة من الدول المتدخلة فيه بأشكال متعددة. تدخلات في مجملها تغذي الانقسام الداخلي، وعدم الاستقرار، وتربك أي فرص للتوافق، بغاية إبقاء الأزمة مفتوحة، والوضع هشا. وقد نجحت هذه الاستراتيجية في تقويض أي فرص بناء اجتماع سياسي جديد، أو عقد اجتماعي يرسّخ السلم الاجتماعي والسياسي، حتى كدنا نصل في بعض الدول إلى وضعية غير قابلة للحكم ungovernable. وينهض المشهد الليبي صارخا في هذا الصدد. كما عمّق الخلاف المغربي الجزائري، الرخاوة الاستراتيجية للمنطقة المغاربية. خلاف استحال خصومة مستحكمة، تستعمل داخليا في فرض نظام حكم يتمنّع على التغيير، ويبرر رفض الإصلاح الداخلي، بالمخاطر المحدقة بالبلد من الجوار، وخارجيا في تعميق الصراع، لتأمين سوقين مهمين للتسلح، وإدامة الهشاشة الاستراتيجية، ابتزازا سياسيا وأمنيا ودبلوماسيا.
يبدّد التخلّف عن تجديد شرعية الحكم، وتفويت الفرص لإعادة كتابة العقد الاجتماعي على دول المنطقة فرص تجددها وتأهلها للمستقبل. والأخطر من ذلك أن هذا التمنّع عن التغيير والإصلاح، يعمّق الهشاشة السياسية والرخاوة الاستراتيجية للمنطقة المغاربية. منطقة تبدو أنها كلما فوّتت وتأخرت عن مسار التكامل والتوحّد، تعمّق انقسامها، وتباعدت شقتها. انقسام يكاد يبدّد المكانة الاستراتيجية للمنطقة المغاربية، ويهمّش دولها، ودورها، في المحيط العربي والافريقي والدولي.
* مدير المركز المغاربي للبحوث والتنمية
(القدس العربي اللندنية)