قال الأكاديمي الإيراني ومؤسس مركز الحضارة
لتنمية الفكر الإسلامي، الدكتور محمد علي ميرزائي، إن "المنطقة برمتها لن
تشهد استقرارا حقيقيا على الإطلاق إن استمرت العلاقات الإيرانية العربية
متوترة"، مطالبا بأن تكون تلك العلاقات "طبيعية ومنطقية ومتوازنة".
وأضاف، في مقابلة خاصة مع "عربي21":
"لا مفر من السعي لعودة هذه العلاقات وتحسينها وتطبيعها بغض النظر عن تحالف
العرب مع إسرائيل وأمريكا، ولا بد من العمل الثنائي بين إيران والدول العربية من
خلال لجان مشتركة، ووضع النقاط على الحروف بكل شجاعة؛ فيجب أن نشعر بالأمان
والتفاهم المتبادل بيننا لا التهديد والخيانة".
وذكر ميرزائي، وهو مُقرب من بعض دوائر صنع
القرار في طهران، أن "هناك محاولات عالمية خلف الكواليس في ربط العلاقات
الوجودية الإسرائيلية العربية بعضها ببعض، وندرك جيدا أن هناك فيتو دوليا لدى بعض
الأطراف العالمية يرفض تماما تطبيع العلاقات الإيرانية العربية، لأن الدول التي
تمنح وتساعد بعض الدول العربية لا تقدم ذلك مجانا، بل تقوم بالكثير والكثير من
التدخلات في شؤون وسياسات هذه الدول".
وأقرّ ميرزائي بأن ما يوصف بالتدخل الإيراني في
بعض الدول العربية "ترك تصورات سلبية جدا عن إيران لدى شريحة كبيرة في العالم
العربي بلا شك، بسبب الحرب الإعلامية الإقليمية والعالمية الممنهجة الموجّهة ضدنا،
والتي كانت تهدف بالأساس لتخريب وتشويه الصورة الإيرانية، وصورة محور المقاومة
بشكل كامل".
لكنه قال: "لولا الوجود الإيراني في مناطق
كسوريا والعراق لنجح تنظيم داعش في احتلال الدول الخليجية، فضلا عن العراق وسوريا،
لكن ضرباتنا الصاعقة جدا لهذا التنظيم حالت دون ذلك. لذلك، المنطقة بأكملها مدينة
للأدوار الإيجابية التي لعبتها طهران في تحرير المنطقة من داعش".
وفي ما يلي نص المقابلة الخاصة مع
"عربي21":
كيف ترى واقع العلاقات الإيرانية العربية اليوم؟
الملاحظ بوضوح هو أن العلاقات الإيرانية
العربية ليست طبيعية في أغلب الحالات. بعض الأطراف العربية علاقاتها مع إيران
متينة إلى حد ما كسلطنة عمان والعراق وسوريا، وبعض الدول العربية لها علاقات عادية
طبيعية ولكنها غير متميزة. أما العلاقات العربية الإيرانية في أغلب حالاتها ليست
على ما يرام بلا شك وهي دون المطلوب والمتوقع.
وبالتالي ليست العلاقات الإيرانية العربية في
كل دوائرها على شاكلة واحدة، لأن هناك علاقات مميزة جدا؛ فعلى سبيل المثال هناك
علاقات اقتصادية واسعة مع الإمارات، ولكنها بتلك السعة والتميز غير موجودة مثلا
بين إيران وقطر، رغم أن العلاقة السياسية بين طهران والدوحة أفضل بكثير بما لا
يُقاس مما عليه من العلاقات الإيرانية الإماراتية السياسية.
وهناك فرق واضح بين العلاقات الإيرانية
الاقتصادية الخليجية والعلاقات الإيرانية السياسية الإستراتيجية الخليجية. ولذا، لا
يجب التحدث وكأن هناك منطقا واحدا يحكم الدول الخليجية التي هي ليست كالاتحاد
الأوروبي؛ فليس لديهم عملة واحدة، ولا سياسات أو قرارات شبه متطابقة، ولا برلمان خليجي مثلا.
لماذا لا يوجد تطبيع كامل في هذه العلاقات؟
لأن دولا عربية في المنطقة ليست مستعدة لتطبيع علاقاتها
مع إيران بقدر استعدادها لتطبيع علاقاتها مع العدو الصهيوني، وهذا يعني أن هناك
إشكاليات حقيقية في العلاقات الإيرانية العربية وبنفس المقدار فإن العلاج سيكون
مُعقدا جدا ومتشابكا مع الملفات العالمية خارج الإرادة العربية أحيانا.
والمشكلة في بعض جوانبها ترجع إلى الداخل
العربي، وبعضها يعود إلى بعض التناقضات في الداخل الإيراني، بالإضافة إلى بصمات
أطراف ثالثة خارجة عن الطرفين قد تلعب دورا سلبيا جدا في إعاقة هذه العلاقات.
وما الأسباب التي تحول دون ذلك؟
رغم ثقتي بوجود عوائق معقدة جدا غير أنني ألاحظ
وجود حجج وذرائع في الحقيقة أحيانا أخرى تحول دون تطوير العلاقات، ومن هذه الذرائع
ما يُقال حول التدخل الإيراني في الشأن العربي. ونحن ندرك جيدا أن هناك فيتو دوليا
لدى بعض الأطراف العالمية يرفض تماما تطبيع العلاقات الإيرانية العربية، لأن الدول
التي كانت تمنح وتساعد مصر مثلا بمليارات الدولارات هي نفسها لا تعطي هذه
المساعدات مجانا، بل يصاحبها الكثير والكثير من التدخلات في شؤون وسياسات القاهرة،
وتطلب امتيازات وأن يكون لها حق التدخلات في بعض السياسات الخارجية على سبيل
المثال.
وفتح النقاش الصريح في الحوار الإيراني العربي
مهم لمعرفة العوائق الحقيقية، لأن الأطراف العربية والإيرانية قد لا يصرّحون بهذه
العوائق على الملأ، ولكن بإمكانهم أن يتداولوها معا على طاولات غير علنية وخلف
الكواليس؛ فبدون معرفة هذه العوائق الحقيقية والسعي المتبادل لمعالجتها لن تصبح
هذه العلاقات طبيعية.
وسبق أن قلت لسفير مصري لدى طهران قبل الثورة:
لماذا تمتنعون عن تحسين وتطبيع العلاقة مع إيران، رغم أن طهران لا تضع شرطا
كالقطيعة مع إسرائيل لعلاقاتها معكم، وإيران ليست دويلة صغيرة، بل دولة إقليمية
كبيرة، وبإمكانكم أن تعززوا علاقتكم مع إيران، ثم تستعملوا هذه العلاقة كورقة ضغط
على أعدائكم مثل إسرائيل؟ فكنت أقصد أن المنطق الإستراتيجي العقلي الحكيم الحصيف
يقتضي أن لا نستمر في هذه القطيعة مع بعض الدول.
ما الأسباب التي دفعت طهران للتدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية كسوريا والعراق ولبنان واليمن وغيرها؟
في الواقع أنا أستغرب هذا السؤال بهذا الشكل،
لأن كلمة "التدخل" لا يمكن إطلاقها على العلاقات الإيرانية السورية أو
العراقية على سبيل المثال، لأنها علاقات رسمية وشرعية تماما بغض النظر عن أسبابها.
والعلاقات بين الدول هي شأن الحكومات لا الشعوب، تماما مثلما تدخل بعض الدول
العربية في تحالفات مع إسرائيل.
والإيرانيون بالتنسيق الكامل المطلق مع بعض
الحكومات بنوا مثلا قواعد عسكرية على غرار القواعد الأمريكية الموجودة في كل الدول
العربية تقريبا.. فهل وجدنا الإعلام يتحدث عن تدخلات أمريكية؟ فكيف تقبلون
بالتواجد الأمريكي وغيره في بلادكم، بينما تقولون إنكم ترفضون ما تصفونه بالتدخل
الإيراني، لماذا سياسة الكيل بمكيالين؟
وحقيقة وجودنا في سوريا جاء على أساس اتفاقات
رسمية حكومية قانونية، والوجود الإيراني في العراق محل اتفاق وداخل العلاقات
الرسمية وفي منتهى الشرعية، حتى الجنرال قاسم سليماني في آخر زيارة له للعراق كان
ضيفا رسميا على رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، وكل رؤساء وزراء العراق
كانوا على علم بتفاصيل التواجد الأمني والاستشاري والعسكري الإيراني، ولا يوجد أي
رئيس وزراء ينكر ذلك.
كما أن وجودنا في الدول التي أشرت لها مرتبط
بمسألة التهديدات الإرهابية والأمنية الشديدة جدا التي تواجه هذه الدول، وإيران
كانت عرضة لهذه التهديدات أيضا. وهذه الأدوار الأمنية التي لعبتها طهران في هذه
الدول جاءت بالتنسيق الكامل مع الحكومات الرسمية الشرعية والواقعية، وهي أدوار
ترتبط بالتحديات والتهديدات الأمنية في المنطقة، وعلى رأسها الإرهاب الداعشي، ودعم
القضية الفلسطينية.
إلى أي مدى ترى أن التدخل الإيراني في سوريا تحديدا أضر بصورة طهران في العالم العربي؟
بالفعل، هذا الدور ترك تصورات سلبية جدا عن
إيران لدى شريحة كبيرة في العالم العربي بلا شك، والسبب الرئيسي في هذا يرجع
للعملية الإعلامية الإقليمية والعالمية الممنهجة الموجّهة ضدنا، والتي تحمل أجندة
إعلامية واضحة ملأت العالم بالأدبيات الهجومية التخريبية ضد السياسة الإيرانية،
وربطوا بين وجود طهران وبين المجازر التي حدثت؛ فلذلك استطاعوا أن يتركوا أثرا
سلبيا جدا في الرأي العام العربي.
والحرب الإعلامية تلك كان هدفها الأساسي هو
تخريب وتشويه الصورة الإيرانية، وصورة المقاومة بشكل كامل، وليس سمعة إيران فقط؛
فقد تضررت أيضا سمعة حزب الله والمقاومة الفلسطينية وجماعة أنصار الله، وأُلصق
بمحور المقاومة كل الأوصاف السيئة التي كان آخرها الوصم بـ "الإرهاب".
والسمعة دائما تبقى على المحك أحيانا في الظروف
الصعبة والمعقدة؛ فلا يمكن لأي دولة أن تتخلى عن أدوارها من أجل الحفاظ على
سمعتها، بل تنظر لأهدافها الكبرى. ولولا الوجود الإيراني في مناطق كسوريا والعراق
لنجح تنظيم "داعش" في احتلال الدول الخليجية، فضلا عن العراق وسوريا،
لكن ضرباتنا الصاعقة جدا لهذا التنظيم حالت دون ذلك.
لذلك، فالمنطقة بأكملها، بما فيها دول الخليج،
مدينة للأدوار الإيجابية التي لعبتها طهران في تحرير المنطقة من "داعش"،
وأدرك أن هناك تقييما سلبيا للدور الإيراني، ولا نريد أن نبرئ أي طرف تبرئة كاملة،
لكن من الناحية الأخرى هناك أهداف جيدة جدا قد تحققت.
أليس بمقدور الأنظمة العربية التحالف مع إسرائيل والاستغناء تماما عن إيران؟
هناك محاولات عالمية خلف الكواليس لربط
العلاقات الوجودية الإسرائيلية العربية بعضها ببعض، إلا أنه حتى لو بقيت إسرائيل
عزيزة العرب والخليج، تبقى العلاقات الإيرانية الخليجية الطبيعية أمرا ضروريا جدا
لاستقرار المنطقة؛ فلا استقرار في المنطقة إن استمرت العلاقات الإيرانية الخليجية
متوترة.
إذن، لا يبدو أمرا حكيما ومنطقيا أن يقول أحد
نحن لا حاجة لنا إلى إيران التي نحن في نزاع معها، وإنما نحن مع إسرائيل التي
فتحنا علاقات استراتيجية معها، بل إن هذه العقلية ساذجة للغاية، لأن المنطقة
برمتها لن تشهد استقرارا حقيقيا على الإطلاق -حتى في الاقتصاد- إلا إذا كانت
العلاقات الإيرانية العربية علاقات طبيعية ومنطقية ومتوازنة.
ولا يتخيل أحد أن العرب يمكنهم التحالف مع
أمريكا وإسرائيل، ويحموا مصالحهم ومضايقهم وطرقاتها البرية والبحرية والجوية
واقتصاداتهم، ثم تذهب إيران إلى الجحيم؛ فهذا تحليل صبياني جملة وتفصيلا؛ فلا يمكن
وضع خط حاد بيننا، لأننا في نهاية المطاف "جيران"، ويجب أن نشعر بالأمان
والتفاهم المتبادل بيننا لا التهديد والخيانة؛ فالإيرانيون يشعرون بأن هناك دولا
عربية تمارس الخيانة العظمى ضدهم من خلال بناء علاقات استراتيجية مع الصهاينة،
وبالتالي سيحق لكل إيراني أن يحمّل الطرف العربي جزءا كبيرا من جرائم إسرائيل في
بلادنا على سبيل المثال.
لذا، لا مفر من السعي لعودة العلاقات وتحسينها
وتطبيعها بغض النظر عن تحالف العرب مع إسرائيل وأمريكا، ويجب العمل الثنائي بين
الطرفين من خلال لجان مشتركة، ووضع النقاط على الحروف بكل شجاعة.
هل دعوات التقريب بين "الشيعة والسنة" تأثرت سلبا بالأحداث التي أعقبت الربيع العربي؟
لا أرى أن دعوات التقريب كانت فاشلة تماما،
لأنها حققت أهدافا جزئية، لكنها تأثرت بعوائق كثيرة وكبيرة، وساهمت كل الأطراف في
إجهاض دعوات التقريب؛ فالإيرانيون كانوا يستطيعون أن ينجحوا أكثر مما نجحوا في
تحقيق أهداف دعوات التقريب، وكذلك الأطراف الأخرى كان بإمكانها أن تبذل مزيدا من
الجهد لإنجاح هذه العملية، لكن مع الأسف الشديد كل الدعوات التخريبية أجهضت تلك
المساعي.
هل دعوات التقريب بين "الشيعة والسنة" يمكن أن تنجح مستقبلا؟
أسأل الله أن ينجح الجميع في العودة إلى طاولات
التقارب، وأعتقد أن المشكلة الكبرى بيننا هي في الجانب السياسي وليست في الجانب
الأيديولوجي. دائما السلطات في كل الأطراف تستثمر المسألة المذهبية، والحكومات جزء
من أسباب الفشل في تحقيق الدعوات التقريبية، ولكن أملنا لم ولن يسقط، لأن الدعوة
إلى الوحدة والأخوة الإيمانية هي دعوة قرآنية أصيلة لا يمكن التخلي عنها، وبدونها
ستسقط جميع المشاريع على رؤوسنا.
وأنا لست متشائما تماما، بل على العكس أرى أن
كل الشعوب الإسلامية العربية والإيرانية والتركية ستتجه نحو الوحدة، ولكن هذه
الوحدة هذه المرة ستكون وحدة حضارية وليست وحدة أيديولوجية.
كيف تنظر لمستقبل العلاقات بين إيران والدول العربية؟
قد يكون من السذاجة أن نطمح إلى تضامن سياسي
حقيقي في المنطقة. ولا أعتقد أننا سنشهد في المستقبل القريب ائتلافا سياسيا بين
إيران والعرب في المنطقة، خاصة بعد مشروع التطبيع العربي الإسرائيلي الخطير
للغاية؛ فلم يعد هناك مجال الآن لهذه الدول العربية كي تفكر بالتحالف مع إيران،
لأنهم سبق واعترفوا وتحالفوا مع إسرائيل التي تحولت إلى صديقة عزيزة وغالية
بالنسبة لهم.
لكني أعتقد أن إيران بإمكانها أن تكون حليفة
اقتصادية حقيقية في المنطقة كما هي الآن مع الإمارات، رغم أن أبو ظبي على أسوأ
العلاقات السياسية مع طهران، وهي التي فتحت البوابة للصهاينة ليدخلوا في المنطقة
ويقوموا بالتطبيع فيما بينهم. مع ذلك الاقتصاد حصريا هو الذي أنقذ العلاقات
الإيرانية الإماراتية.
وأنا أدعم فكرة الوحدة في كل الدوائر القُطرية،
والوحدة الإقليمية، والوحدة الخليجية، ثم الوحدة العربية والإسلامية، ونحن في
النهاية سنكون جزءا من هذه الوحدة على الأقل في ثلاث دوائر (الخليجية والإقليمية
والإسلامية)، لأننا نُشكّل جزءا أساسيا في الخليج والمنطقة والعالم الإسلامي، ونحن
ندعو كل المنطقة إلى الانخراط في مثل هذه الوحدة التي يمكن أن تتمركز بالأساس حول
الاقتصاد.