حادثان غريبان في أسبوع واحد، وفي غضون يومين متتاليين، حريق في كنيسة بالجيزة، وآخر في الصعيد، أكثرهما ألما ومصابا الأول، الذي كان في كنيسة القديس أبو سيفين، والذي راح ضحيته (41) مواطنا مصريا، وفور الإعلان عن الموتى والمصابين، بدأت التساؤلات عمن وراء الحادث، ولماذا الآن، وفي هذا التوقيت؟
من الناس من ذهب إلى أنه مجرد حريق عادي، ناتج عن تماس كهربائي، ومنهم من ذهب إلى التفسير التآمري، إذ راح يرمي النظام بأنه وراء الحادث، لأنه يمر بأزمات كبيرة، ويريد إشغال الناس بعيدا عنها، ولو بإشعال النيران في ثوب وجسد الوطن، ولم يستطع أحد إبعاد هذا التفكير عن الناس رغم استبعاده إلى الآن.
والسبب في ذلك هو تاريخ حكم العسكر مع الأديان في مصر، وليس فقط في عهد مبارك، وقد ختم عهده بتفجير كنيسة القديسين، وتم الكشف عن القائمين به، وقد كانت وزارة الداخلية المصرية في عهد حبيب العادلي هي من فعلته، ومذبحة ماسبيرو المشهورة بعد ثورة يناير.
وفي بداية عهد حكم العسكر، كانت هناك بوادر أزمة فتنة طائفية في السويس، ولكنها مرت بسلام، ولا ينس التاريخ تفجيرات العسكر في قلب الوطن المصري، في عام 1954م، فقد حدثت ست تفجيرات في القاهرة بما عرف بفضيحة (لافون)، حيث قام مجموعة من اليهود المصريين بالتفجير، ومرت الأيام وكشفت مذكرات العسكر بأن مجموعة (لافون) قامت بتفجيرين فقط، أما الأربعة الباقية فقد كان وراءها جمال عبد الناصر بنفسه، كما اعترف بذلك لرفاقه، وكتبوا ذلك في مذكراتهم، سواء عبد اللطيف البغدادي، أو خالد محيي الدين، أو السادات، فقد اعترف لهم أنه فعل ذلك، ليخيف الشعب، ويكفوا عن المطالبة بالديمقراطية، فيكونوا بين خيارين: إما الأمن، وإما الديمقراطية!!
حاول البعض إلقاء التهمة على أناس بعيدين تماما عن المشهد، ولكنه أراد تبرئة ساحة النظام ليرمي بكرة اللهب في حجر الإخوان، فادعى بعض إعلاميي النظام، أن التوقيت غريب، إذ إن الحريق في يوم 14 آب (أغسطس)، وهو تاريخ فض رابعة، متجاهلا أن توافق يوم حريق الكنيسة مع حريق مسجد رابعة بمن فيه أحياء وأموات، هي دلالة مهمة على أن القدر وحد بين المظلومين من أبناء الوطن مسلمين ومسيحيين.
فيوم فض رابعة كان بالحرق والقتل المتعمد، على مرأى ومسمع من الجميع، بينما كان الآخر ـ إلى الآن ـ بالإهمال، ولكن الفرق أن في فض رابعة فقد النظام وأنصاره كل معاني الإنسانية والتدين، والوطنية الحقيقية، باستحلال دماء الناس، وحرق مسجد رابعة، وكانت رسالة القدر لحريق الكنيسة في نفس اليوم، ليظل في ذاكرة الجميع أن الظلم لا بد أن يرفضه الجميع، ويستنكره الجميع، أيا كان المظلوم.
لكن هناك أيضا مواقف أخرى على هامش حريق كنيسة الجيزة، لا يبتعد كثيرا عن مشهد الحريق، من الحريق المادي إلى الحريق المعنوي، فلا يمكن لأحد إلا أن يستنكر هذا الحادث، ويتألم لمن مات ولذويه، ولكل مصاب، ويدعو الله له بالشفاء، وهو واجب على الدولة، لكن الأمر الغريب الذي لفت أنظار الناس، ودعاهم للمقارنة، هو مبلغ التعويضات الذي أعلنت عنه السلطة، لكل متوفى، وهو: 100 ألف جنيه، فجعل الناس تلقائيا تقارن، ماذا لو كان المحروقون في مسجد، هل كانت نفس القيمة ستخرج لهم؟
ثم أعلن الأزهر على لسان شيخه على مساهمة مالية أيضا، وهو معنى جميل للوحدة الوطنية، ولإعلاء المبدأ الإنساني الذي يرسيه ديننا، وكان الأزهر الشريف دوما نموذجا له في مصر والعالم، لكن ظل السؤال السابق مطروحا، ماذا لو كان الحادث في مسجد، والموتى مسلمين؟!
يوم فض رابعة كان بالحرق والقتل المتعمد، على مرأى ومسمع من الجميع، بينما كان الآخر ـ إلى الآن ـ بالإهمال، ولكن الفرق أن في فض رابعة فقد النظام وأنصاره كل معاني الإنسانية والتدين، والوطنية الحقيقية، باستحلال دماء الناس، وحرق مسجد رابعة، وكانت رسالة القدر لحريق الكنيسة في نفس اليوم، ليظل في ذاكرة الجميع أن الظلم لا بد أن يرفضه الجميع، ويستنكره الجميع، أيا كان المظلوم.
المشهد الآخر الذي لفت النظر، هو مشهد القسيس الذي عندما اشتعلت الكنيسة بالحريق، لم يقطع صلاته وكان معه أطفال، وأكمل الصلاة، إلى أن ازداد الدخان تماما، حتى مات ومعه بعض المصلين، وهو مشهد أخطأ فيه القسيس بلا شك، فلا يوجد دين سماوي أبدا، إلا ويحرص على سلامة الإنسان، ولكنه أخطأ بتكملة الصلاة، فحياته وحياة من معه أولى وأحق، فلنا أن نتخيل لو أن القسيس هنا هو إمام أو شيخ في جامع، وحدث حريق، ولم يخرج من الصلاة، واستمر حتى مات ومات معه بعض المصلين، يمكنك أن تتخيل الإعلام وتعليقه، وخالد منتصر، وإسلام البحيري، وإبراهيم عيسى، وكل أصحاب دكاكين التنوير، ماذا يمكن أن يقولوا، وكلامهم وقتها عن الخطاب الديني، والأزهر، والمؤسسة الدينية، والتراث، إلى آخر هذه الاسطوانة المشروخة التي لم يملوا من تكرارها.
المشهد الأخير الذي أقف معه، وقد تنبه إليه أستاذنا الدكتور إبراهيم البيومي غانم، وهو مشهد تعزية السيسي للبابا تواضروس، وهو مشهد معكوس، فالأصل أن الأموات مواطنون مصريون، يستظلون بظل الدولة، وهم في رقبة الحاكم عادلا كان أم ظالما، والأصل أن العزاء يكون من البابا للسيسي، وليس العكس.
وهو مشهد يتكرر كثيرا، سواء في التهنئة بالأعياد، أو في التعزية في المصائب، وهناك إصرار عجيب على تكريسه، منذ مبارك، وقد قام نظامه بتسليم وفاء قسطنطين للكنيسة، في تصرف عجيب يعد سابقة، فالأصل أن الإنسان يسلم من المؤسسة الخاصة للمؤسسة العامة وهي السلطة، وليس العكس.
وهو مشهد قام بتكريسه البابا شنودة، حينما كان يخاطب المسيحيين، بقوله: شعب الكنيسة، والأصل أن الشعب كله شعب واحد، هو الشعب المصري، تظله دولة وقانون، هو الدولة والقانون المصري، وهذا التصرف المعكوس، هو ما جعل نجيب ساويرس يكتب تغريدته المثيرة للجدل، بصيغة الجمع: لن نقبل العزاء حتى نعرف من وراء الحادث.
كل هذه المشاهد وهي تمثل نوعا من الحريق المعنوي للوطن، من المهم الحديث عنها، جنبا إلى جنب مع الحديث عن الحريق المادي للكنائس والمساجد على حد سواء، إذا أردنا فعلا إطفاء هذا الحريق، وتجنب اشتعاله سواء كان ذلك عن عمد أو خطأ.
Essamt74@hotmail.com
قيس سعيد بين "جزرة" ماكرون.. و"عصا" أمريكا
تآكل قوة الردع الإسرائيلي وانعكاسه على الضفة الغربية