أبرم الرئيس
السادات في إطار تقاربه مع
إسرائيل والولايات المتحدة صفقة
أطلق عليها معاهدة
السلام. والمؤكد أن عموم الشعب
المصري لم يقرأ المعاهدة ولم
يفهم الآثار التي ترتبت عليها، لدرجة أن أحد المرشحين للرئاسة في عام 2012 طلب مني
نص المعاهدة، فلما أوضحت له أن المعاهدة منشورة على مواقع وزارات الخارجية في مصر
وإسرائيل وأمريكا، كما أنها منشورة في دوريات علمية أخرى لا يعرفها، فاجأني بأنه
اعترض على المعاهدة دون أن يقرأها؛ بمجرد أن أنور السادات غريم عبد الناصر عند
الناصريين هو الذي وقعها. وأبلغني بأن المعاهدة سرية لم تنشر، فحزنت على أن يكون
هذا مبلغه من العلم وهو مرشح لرئاسة الدولة.
فقد قدر لي أن أدرس مراحل انتقال التقارب المصري الإسرائيلي وكذلك الوثائق التي
أثمرها هذا التقارب. وكنت بوزارة الخارجية مسؤولا عن تطبيق هذه المعاهدة، وأعلم
يقينا الفرق بين النصوص وبين النفوس، وهذه المسافة التي يقع فيها الباحث الأكاديمي
في مثل هذه الأمور.
وقد ترددت خرافات حول هذه المعاهدة ويصعب في هذه المقالة الرد علي هذه الخرافات
حصرا، ولكنني سأكتفي بالرد على بعضها:
أولا: أن إسرائيل ليست دولة عادية، وإنما هي رأس الحربة في المشروع الصهيوني
وزرعت في هذه المنطقة بالذات للفتك بمصر. ففلسطين هي المحل المختار أو القاعدة
الإقليمية للمشروع الصهيوني الطموح للانقضاض على مصر، كما أن إسرائيل مدعومة تماما
من الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة وهي الوكيل الحصري للغرب في المنطقة بعد
رحيل الغرب العسكري والاستعماري. وظهر لنا بعد ذلك أن مرحلة الاستقلال كانت وهما،
وإنما رتب الاستعمار أوضاع السلطة في مصر بالذات لما بعد رحيله.
ولذلك فإن عدم اعتراف مصر بإسرائيل كان العقبة الكبرى أمام المشروع الصهيوني،
باعتبار أن إسرائيل حالة نفسية وليست كيانا ماديا عاديا، فترتب على ذلك أن إسرائيل
بنيت على أساس الغصب والإرهاب والباطل وعدم احترام القانون، وأنشأتها العصابات
الصهيونية التي اتفقت مع بريطانيا على مسرحية الصراع العسكري لكى تخرج إسرائيل بعد
ذلك نتاجا خالصا للمشروع البريطاني في المنطقة، ولكي تعلن أن يوم اغتصابها لفلسطين
بقيامها رسميا هو استقلالها عن بريطانيا.
وكان يجب على العرب أن يلحظوا هذا المدلول. وعندما تفاوضت مصر مع إسرائيل
لتوقيع اتفاقية السلام كانت إسرائيل تعرف تماما ما تريد؛ لأنها بنَت شرعيتها على
القوة العسكرية التي تسحق بها الجيوش العربية. ولذلك أصرت إسرائيل على إرغام مصر
على مخالفة مبادئ القانون الدولي في العديد من أحكامه. فرغم أن الاعتراف عمل سيادي،
إلا أن إسرائيل أصرت على التزام مصر بالاعتراف بها. ورغم أن إقامة العلاقات
الدبلوماسية بالاتفاق وبإرادة الدولة، إلا أن إسرائيل وضعتها في المعاهدة التزاما
على مصر.
ورغم أن الجيش المصري يملك أن يتحرك في كل الأراضي المصرية، إلا أن
المعاهدة وضعت قيودا عليه، وكأن مصر هي التي اعتدت على إسرائيل. وغير ذلك كثير
وسوف نصدر كتابا في المستقبل حول المسافة الفاصلة بين إرادة مصر في القانون الدولي
وبين الأحكام التي أرغمت إسرائيل مصر عليها.
ثانياً: أن المعاهدات والتفاهمات هي نتيجة انكسار الإرادة أو نتيجة لفشل
الدولة في إدارة المفاوضات وفي تبصر المستقبل. فإذا كان السادات أحسن بالتخطيط
بخيرة العسكريين المصريين لحرب أكتوبر، وأن الجيش المصري حقق رغم الثغرة الكثير من
البطولات، ولو أتيح له المناخ المناسب والقيادة الصالحة في المجال السياسي لكانت
نهاية إسرائيل هي حرب أكتوبر، لكن هناك تناقضا بين إدارة الحرب في الأسبوع الأول
ونكسة الثغرة التي ضيّعت كل شيء.
وأرجو أن يجري الجيش تحقيقا دقيقا في مدى مسؤولية السادات عن الثغرة، فهناك
تناقض فادح بين الأسبوع الأول والأسبوعين التاليين لإدارة الحرب، خصوصا بعد أن
تدخل السادات فيما لا يفهمه من الأمور العسكرية، حسبما أشار الفريق الشاذلي في
مذكراته.
فإسرائيل كسبت السادات قبل أن تكسب الحرب، فلذلك جاءت النتائج السياسية
لهذه الحرب كارثية على مصر والمنطقة العربية. وقد أدهشني أن المرشح للرئاسة الذي
أشرت إليه وضع في برنامجه شعارا كالشعارات التي تربى عليها في العهد الناصري، وهو إلغاء
اتفاقية السلام، دون أن يطلع عليها ودون أن تكون لديه خلفية علمية لكي يفهم أن
المعاهدة ثمار انحناء الإرادة، فكانت النتيجة أن المعاهدة هي التي كيّفت الظروف اللازمة
لتعاظم الخسائر الاستراتيجية لمصر.
ثالثاً: أن الفرق واضح بين الهدنة وهي عمل عسكري بحت، واتفاقية الصلح
واتفاقية السلام. وكل هذه المراحل لا تقع إلا بين دول متحاربة، ولذلك أستغرب أن
يطلق على معاهدات الإذعان التي فرضتها إسرائيل وأمريكا على أربع دول عربية بأنها
معاهدات السلام؛ إلا أن يقصد بها السلام الإسرائيلي (pax israeliana)، ومؤشر على
نجاح واشنطن في تمكين إسرائيل من العالم العربي.
والأغرب أنهم يطلقون عليها المعاهدات الإبراهيمية، وأنهم يبشرون بدين جديد
مبني على أساس أن إبراهيم أبا الأنبياء كان يهوديا، وقد رد القرآن الكريم بقوله
سبحانه: "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن حنيفا مسلما".
رابعاً: أن بعض الناس يعتقدون أن معاهدة السلام تبيح لإسرائيل كل شيء في
مصر، فتمنع نقد إسرائيل وتمنع كراهيتها، ولكنها تبيح كراهية إسرائيل لمصر وتمنع
أيضاً نقد بعض تصرفات الحكومة المصرية اتجاه إسرائيل. ولكن الحقيقة أن معاهدة
السلام ليست هي الهدف، ولكن استرداد الإرادة المصرية هو الأساس؛ لأن هذه الإرادة
تستطيع أن تجعل مصر مدركة لمؤامرات إسرائيل، بصرف النظر عن العامل الأمريكي الضاغط
على مصر، خاصة أن المعاهدة لا تنهي الصراع بما في ذلك الصراع المسلح.
ولذلك لا تمنع المعاهدة مصر من دعم المقاومة، كما لا تمنع التضامن العربي
واستعادة معاهدة الدفاع العربي المشترك. وتستطيع مصر بإرادتها أن تعدل اتفاقية
السلام؛ لأن المعاهدات عادة تبرم على أساس فرضية أساسية، وهي ثبات الظروف التي أبرمت
فيها، فإن تغيرت هذه الظروف جاز للدولة أن تراجع بعض أحكام المعاهدة أو أن تلغيها
أو أن تعطل بعض أحكامها.
ومعاهدات الصلح لا تؤدى بالضرورة إلى تطبيع العلاقات كما لا تمنع الحرب بين
الدولتين، فمعاهدة الصلح دائما تسوي المسائل التي ترتبت على الحرب بشكل جزئي، ثم
تضع القواعد لتجنب الحرب وليس لتحسين العلاقات. ولذلك مصر ليست مقيدة قانونا بأي شيء
في مواجهة إسرائيل، وتستطيع أن تراجع مصالحها وأن تضع الإطار المناسب لعلاقاتها مع
إسرائيل، فتستطيع مصر أن تؤيد المقاومة العربية ضد إسرائيل. أما امتناع مصر عن
تأييد المقاومة فهو موقف سياسي لا علاقة له بالمعاهدة، وتستطيع مصر أن تدعم
المقاومة باعتبارها خط الدفاع الأول عن مصر نفسها، كما تستطيع مصر أن تمارس
سيادتها الخالصة دون تأثير من إسرائيل على معبر رفح.
فالمعاهدة تقدم فرصا لمصر وليس قيودا عليها، وأوراقا للضغط وليس مواطنا للإذلال
إذا فصلنا العامل الأمريكي الضاغط على مصر لتمكين إسرائيل منها. أما أوراق القوة التي
تقدمها المعاهدة لمصر فنعد منها خمسا فقط: الورقة الأولى هي سحب الاعتراف بإسرائيل،
والورقة الثانية هي إنهاء العلاقات الدبلوماسية معها، والورقة الثالثة هي إنهاء
الملحق الأول الخاص بالترتيبات الأمنية، والورقة الرابعة هي وقف التنسيق الأمني
بين مصر وإسرائيل، والاحتجاج على أي حادث بين مصر وإسرائيل في سيناء وفرض تأشيرات
على الإسرائيليين من دخول مصر من أي منفذ. والورقة الخامسة حظر تملك الأجانب في
سيناء؛ لأن إسرائيل تضع عينيها على سيناء وعلى مصر بأكملها، وتتحين الفرصة لكي
تسقط مصر تحت أقدامها بلا حرب.
وأظن أن إسرائيل قطعت شوطا طويلا لتحقيق هذا الهدف، ولا يخفى أن حرمان مصر
من أوراقها في المنطقة العربية عن طريق الاختراق الإسرائيلي، وكذلك طي صفحة
العروبة في صالح الصهيونية ويضر ضررا استراتيجيا بليغا بمصر. فمصر هي العالم العربي،
والأخير هو مصر، فإن دخلت إسرائيل بينهما ضيّعنا مصر والعرب معا.
ولذلك فإن مصر هي المستفيد الأول من إحياء العروبة، ولم يلحظ السادات حين
أعلن التخلي عن عروبة مصر بأنه يترك مصر بلا هوية، ويعلم أن طائفة من المصريين
تسعى لتجريد مصر من عروبتها وإسلامها. كما أن إسرائيل تتسلل إلى مصر عن طريق تملك
بعض من ينتسبون إلى العروبة.
خامساً: أن مشكلة مصر مع إسرائيل مشكلة عضوية؛ لأن مصر موقعها الطبيعي أن
تحتضن العرب كما كان الأمر في العصر الملكي، أما تدهور أوضاع مصر واعتمادها على
الخليج فهذه مقدمة لتمام خضوع مصر لإسرائيل. ولذلك لا يمكن إنهاء هذا الخضوع بفسخ
معاهدة السلام، كما أن معاهدة السلام ليست هي السبب في كسر شوكة مصر وحرمانها من
العالم العربي، ولكن مصر لديها مقومات الدولة الكبرى عندما تتوفر لها الإرادة
السياسية اللازمة. وتغول إسرائيل على مصر والعرب مرحلة مؤقتة، ومصر لم تمت
وإسرائيل تعلم ذلك جيدا. فالمصريون لن يفرطوا في مصر ودورها العربي، وفلسطين جزء
لا يتجزأ من الأمن القومي المصري.
فالمعاهدة لا تقيد مصر بأي قيد، وإنما إرادة مصر أقوى من كل المعاهدات وكل
القيود. وتدرك إسرائيل جيدا أن مصر اعترفت بها دون تحفظات رغم أن إسرائيل كيان
غاصب لا تتوفر فيه أركان الدولة وليس له حدود، ولا تعترف بقرار التقسيم. ولذلك فإن
تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل بين مصر وإسرائيل خطأ كبير؛ لأنه ليست هناك مشابهة ولا
مساواة بينهما. فإسرائيل عرض زائل، أما مصر فباقية ما بقيت السماوات والأرض.
بقيت نقطة أخيرة، وهي أن أنور السادات الذي أبرم معاهدة العار المعروفة
بمعاهدة السلام هو نفسه الذي صدق على قانون الجنسية المصري عام 1975، الذي حظر أي
علاقة مع الدولة الإسرائيلية على مستوى الأفراد، وكانت عقوبة المخالفة لهذا
القانون هي إسقاط الجنسية. ولكن أنور السادات الذي قام بإعطاء قبلة الحياة
لإسرائيل لم يجرؤ على إلغاء هذا القانون حتى الآن، بل إنه أصدر قانون العيب، وهو إجبار
المصريين على قبول تقربه من إسرائيل واعتبار أن هذا الخط خط وطني خالص. ولا ندرى
عن مصير قانون العيب الذي أسس لما بعده. وأشك أن الحكومة الحالية تعاقب المصريين
على مشاعرهم الوطنية ضد إسرائيل أو التعبير عن هذه المشاعر؛ لسبب بسيط وهو أن إسرائيل
تحاول رسميا استمالة الشعب المصري، رغم أنها تصنف مصر في إسرائيل على أنها دولة
عدو، ويحذر كتابهم من الاطمئنان إلى مصر شعبا وحكومة وجيشاً، ومعهم كل الحق، ولذلك
فإن الشعب المصري هو الذي يقود الشعوب العربية إلى كراهية إسرائيل المعتدية
والمغتصبة.
وأخيراً أرحب بأي استفسارات أو خرافات حول معاهدة السلام التي سوف أنشر
كتابا عنها وعن آثارها في مصر والمنطقة العربية. والملاحظ أن معاهدة فرساي لم تلغ رسمياً، وإنما تم إفراغها من مضمونها بأن تم فعل كل شيء محظور فيها.. فمطلوب من مصر أن
تنهج نفس المنهج، فلا عبرة بإلغاء المعاهدة والإرادة مسلوبة.
سادساً: هل علاقة الدولة العربية بإسرائيل من قبيل أعمال السيادة؟ هذه
خرافة كبيرة لشل القضاء الوطني عن النظر في أي جانب من العلاقات العربية الإسرائيلية.
ومما يذكر أن رئيس الوفد السعودي في اجتماع الاتحاد البرلماني العربي عام 2020
اعترض على قرار الاتحاد برفض التطبيع مع إسرائيل، وأيده في ذلك رئيس البرلمان المصري
علي عبد العال بالطبع. وقال رئيس الوفد السعودي تبريرا لرفضه إن التطبيع من عمل
السياسيين وليس البرلمانيين، وهذا تبرير غاية في الغباء والجهل، فهو تعبير عن موقف
سياسي للدولة ولكنه أساء إلى دولته بهذا التبرير. وعلى كل حال أصدر الاتحاد القرار
رغم اعتراض السعودية ومصر، ولكن أزيل من الموقع الإلكتروني للاتحاد.