في رؤية مستقبلية نحو تحسين الحالة الصحية في مصر؛ تبرز أهمية تطوير السياسات العامة الحاكمة لتشمل ترسيخ قناعات جديدة حول اعتبار أن الرعاية الصحية ليست مجرد خدمات تستنزف الموارد، ولكنها من أركان التنمية المستدامة، ومن ثم فهي ركيزة أساسية لتحسين وتنمية موارد الدخل القومي بصورة شاملة.
حسب تعريف منظمة الصحة العالمية؛ فإن الصحة هي "حالة من اكتمال السلامة البدنية والعقلية والاجتماعية وليست مجرد غياب أو انعدام للمرض أو العجز"، ويشمل قطاع الرعاية الصحية جميع الجهات الحكومية والخاصة والأهلية المعنية بتقديم نهج للصحة والرفاهة يشمل كل المجتمع ويتمحور حول احتياجات وأولويات الأفراد والأسر والمجتمعات المحلية.
وتتنشر في العالم حاليا نظريات وإجراءات متطورة حول التحول الصحي وتطبيق الآليات الحديثة حول الرعاية الصحية القائمة على القيمة Value-Based-Health-care، بصورة متكاملة للمكونات الأربعة وهي: قياس النتائج الصحية للمريض، وتحسين الصحة العامة، وتقديم خدمة بجودة عالية وبآلياتها الحديثة من التكنولوجيا الطبية والذكاء الاصطناعي والطب عن بعد والتحول الرقمي، وتحسين خبرات الفريق الصحي، وتحقيق تخفيض التكلفة وهو مردود تم رصده عالميا.
وبنظرة موضوعية على الواقع المصري وتمهيدا لتناول فكرة الرعاية الصحية القائمة على القيمة؛ فمن الأولويات الإشارة إلى أهمية الالتزام بما ورد في الدستور المصري حول حق كل مواطن في الرعاية الصحية وفقا لمعايير الجودة، وإقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين يغطي كل الأمراض ويحقق العدالة والمساواة في الحصول على الرعاية الصحية لجميع فئات الشعب، ويبدأ برفع كفاءة الرعاية الصحية الأولية من حيث الكمية والنوعية باعتبارها حجر الزاوية لنشر خدمات منظومة التأمين الصحي الشامل.
وهذا يستدعى بالضرورة قيام الحكومة بتوفير اعتمادات مالية من الموازنة العامة للدولة تخصص للإنفاق الحكومي على الصحة، وبنسبة تتفق مع المعدلات العالمية؛ والتي تتراوح بين 7 إلى 10 بالمئة من إجمالي الناتج القومي للبلاد، ووضع خطط واضحة لمصادر التمويل البديل، بحيث يكون التوجه الأساسي في الاستثمار في الصحة من جانب الدولة، على مستوى البنية التحتية من إنشاءات لخدمة مستوى الرعاية الصحية الأول والمستوى الثاني لضمان الانتشار وعدالة التوزيع، وهذا التوجه هو الآمن على المدى البعيد، مع اعتبار أن القطاعين الخاص والأهلي هما شريك داعم، وليس هو المكون الأساسي، مع تبنى النظرة الشمولية لتلبية احتياجات المجتمع الصحية في جميع المجالات والمحاور مثل تعزيز النظم الصحية، وتوجيه وقيادة كامل القطاع الصحي بهياكله وتنظيماته وتبعياته المتنوعة من قطاع عسكري وجامعي وحكومي وخاص وأهلي، في إطار من التنسيق والتكامل في تقدم الخدمات، والتفاعل بين قطاع الصحة وسائر القطاعات في المجتمع الداعمة لصحة الفرد والمجتمع.
وتطبيق المفاهيم الحديثة حول الاستثمار في الصحة بالمضمون الأشمل والأعمق من مجرد السماح للقطاع الخاص الطبي بالتوسع في إنشاء أو الاستحواذ على مزيد من المستشفيات الاستثمارية فقط، ولكن يمتد الاستثمار ليشمل المحددات الاجتماعية للصحة سواء كانت في الصرف الصحي أو مياه الشرب النقية، والتخلص الآمن من النفايات بأنواعها المختلفة، وتحسين الحالة البيئية.
تعاني مصر حاليا من ظاهرة هجرة الأطباء بنسبة 65 بالمئة حسب آخر تصريح رسمي من وزارة الصحة في شهر سبتمبر/ أيلول 2021، وتقرير نقابة الأطباء في شهر نيسان / أبريل 2022 عن استقالة 11 طبيبا من وزارة الصحة يوميا، بالإضافة إلى العجز الشديد في هيئة التمريض من حيث العدد ونقص الكفاءة،
هذا يستدعى وضع استراتيجيات وخطط صحية مبرمجة زمنيا ومكانيا وتمويليا، وبصورة واضحة مستقبليا بدلا من الاعتماد على ظاهرة ما يسمى "المبادرات الرئاسية الصحية"، مما يعنى العشوائية والتخبط، خاصة وأن تلك المبادرات تعتمد أساسا على القروض والمنح والتبرعات، وليست قائمة على التمويل الدائم من الخزانة العامة للدولة، وبالرغم من قدرتها على تحقيق حالات نجاح عاجلة تحقق شهرة إعلامية ودعاية سياسية، ولكنها لا تضمن الديمومة ولا الاستمرارية وهما من أهم ضمانات كفاية وكفاءة الرعاية الصحية.
وحيث تعاني مصر حاليا من ظاهرة هجرة الأطباء بنسبة 65 بالمئة حسب آخر تصريح رسمي من وزارة الصحة في شهر أيلول/ سبتمبر 2021، وتقرير نقابة الأطباء في شهر نيسان/ أبريل 2022 عن استقالة 11 طبيبا من وزارة الصحة يوميا، بالإضافة إلى العجز الشديد في هيئة التمريض من حيث العدد ونقص الكفاءة، فإن الاستثمار في رأس المال البشرى بالصحة يعتبر هو حجر الزاوية في أي تصور مستقبلي للتطوير؛ وهنا تجب المواجهة الحقيقية للمشكلة من جذورها والتي تشمل زيادة الأجور لتوفير حياة كريمة لأعضاء الفريق الطبي، وتوفير التدريب والتأهيل ورفع الكفاءة بصورة مستمرة، وضمان الأمن والأمان المهني والحماية أثناء العمل، مع توفير البنية التحتية بجودة عالية، وبحسب تقرير "مؤسسة كوليرز انترناشيونال العالمية للخدمات" لعام 2021؛ فإن توفير رأس المال البشرى يعتبر من أهم ركائز التنمية المستدامة، ولابد من وضع حلول عاجلة لمواجهة الفجوة التشغيلية في الرعاية الصحية بمصر، ولا يستدعي ذلك زيادة أعداد الخريجين من أعضاء الأطقم الطبية بقدر الاحتياج إلى وجود رؤية استراتيجية حقيقية لتوفير بيئة العمل الصالحة ماديا وإداريا ومعنويا.
وحيث يعاني المواطن المصري من زيادات متتالية ومرهقة في أصناف الأدوية ونقص واختفاء أصناف أخرى، لذا كان من الضروري اعتماد رؤية واضحة لمواجهة أزمات الدواء خاصة في مجال التصنيع المحلى للمواد الخام، ودعم البحث العلمي واعتماد براءة الاختراع وضوابط حماية الملكية الفكرية، ووضع قواعد واقعية للتسعير الدوائي، وتفعيل دور هيئة الدواء المصرية باعتبارها الجهة المنوط بها ضبط وفرة وسلامة وكفاءة التدفقات الدوائية في السوق المحلى، مع قيام الحكومة بزيادة المخصصات المالية لدعم الدواء، وعدم الاعتماد على صندوق الطوارئ الصحية القائم تمويله أساسا على الجهود الذاتية والتبرعات وفرض رسوم إضافية على المواطنين.
وتُقاس القيمة في الرعاية الصحية من خلال التركيز على النتائج الأكثر أهمية بالنسبة للمرضى، وهي القدرة والراحة والهدوء، وتحسين هذه الأبعاد الثلاثة تخلق تجربة أفضل للمرضى، ومن الإيجابيات أن القيمة في الرعاية الصحية لها تأثير كبير على مقدمي الخدمة الصحية، حيث أنها تربطهم بهدفهم كمعالجين، وتدعم احترافهم، كما تؤثر على خفض معدلات الإنفاق من خلال تحسين النتائج الصحية للمرضى، وتقلل من التعقيد وتطور المرض الذي يُجبر ويدفع بالمزيد من الحاجة إلى الرعاية.
وهذا التحول الصحي المنشود يحتاج إلى وضع استراتيجية لمواجهة التحديات المتوقعة حيث إن تقديم خدمات الرعاية الصحية القائمة على القيمة تعتبر تغييرا كبيرا في ثقافات متعددة الاتجاهات تشمل أفراد المجتمع، ومقدمي الخدمة ومتلقي الرعاية وحتى ثقافة وفكر القائمين على الإدارة بمستوياتها المختلفة.
كيف نستعيد شخصيتنا الإسلامية وسط الأفكار الدخيلة؟
بين الجزائر وإسبانيا.. مقارنة لها معنى