عامان من الانتظار، مليئة بالحزن وترقب ظهور شخصية المسؤول عن انفجار مرفأ بيروت دون جدوى، فما تزال الحادثة تشكل حسرة ظاهرة على قلوب ذوي الضحايا، حيث لا يزالون ينتظرون استكمال التحقيق القضائي الذي تعطل، نتيجة للخلافات السياسية حول طريقة عمل القاضي العدلي، طارق البيطار.
وخرج أهالي الضحايا ومعهم آلاف اللبنانيين في مسيرات غضب في بيروت، يوم الخميس الرابع من آب/ أغسطس، لإحياء ذكرى التفجير الثانية للمرفأ، مرددين شعارات بالفشل بوجه أرباب السلطة بعد تباطئهم في كشف الحقيقة.
وفي ذات الوقت الذي خرجت في المسيرات المطالبة باستكمال التحقيق، وكشف المتسببين، انهارت بعض صوامع الحبوب المتهالكة بفعل الانفجار، التي كانت قد تضررت بصورة جسيمة، حيث تصدعت الصوامع المبنية من الخرسانة وانهارت في مشهد درامي، تصاعدت معه سحابة كبيرة من الدخان والغبار الكثيف، مذكرة بيوم الانفجار.
ألم وحزن متجدد
وأكد بعض ذوي الضحايا لـ"عربي21" أنهم لا يزالون يعانون الأمرين، وحزنهم يتجدد كل يوم مع عدم الوصول للحقيقة، معبرين عن آلامهم ووحدتهم وحزنهم لشعورهم بالوحدة وألم فراق أحبتهم الذين قضوا نحبهم في الانفجار، الذي ما تزال خيوط كشفه غائبة ومتشابكة.
رانية حسونة أبو لبن، هي زوجة محمد حسين ادغيم الذي قضى بالانفجار، أشارت إلى أن شعورها اليوم "كما هو شعورها يوم علمت بمقتله"، حيث يتملكها وأبناؤها "شعور سيئ وإحساس بالوحدة".
ولفتت أبو لبن في حديثها لـ"عربي21"، إلى أن "حالة أبنائها النفسية "سيئة ومتعبة، وخاصة ابنتها لميس وطفل العائلة الأصغر يوسف، فشعورهم سيئ جدا في ظل غياب الأب الحاني والمحب والحامي لهم والسند"، وأما هي فقد أصيبت بعد مقتل زوجها بمرض مزمن في العضلات والأعصاب.
وحول تحميل المسؤولية، قالت الزوجة والأم المكلومة: "نحمل المسؤولية لرؤساء الدولة، وبالتأكيد سنسعى لتدويل القضية، والله يحرم من تسبب بهذه الفاجعة مثلما حرمني وأولادي من زوجي".
من ناحيتها قالت أميرة الكعكي شقيقة رامي الذي خسر أيضا حياته في الانفجار؛ إن "شقيقها تزوج منذ خمس سنوات ولديه طفلة، وزوجته كانت وقت الانفجار حبلى بطفلها الذي أسميناه رامي على أسم والده الشهيد، وأنه كان حنونا ويهتم بأسرته وزوجته وطفلته".
وأوضحت الكعكي في حديثها لـ"عربي21"، أن "شقيقها رامي كان يعمل في فوج الإطفاء وكان أول شخص تلقى الاتصال الذي يعلمهم بالحريق، وعلى الرغم من أنه لم يكن يوم عمله، إلا أنه أصر للتوجه لمكان الحريق، محدثا زميله بأن هذه مدينته وهو أعلم بها، ولكنه خسر حياته ثمنا لشهامته".
وأضافت: "رامي ترك خلفه عائلة مكلومة ومفجوعة وابنة تنتظر كل يوم على باب المنزل على أمل عودته، وشعورنا يزداد ألما وسوءا يوما بعد يوم، حيث يصبح الفراق أصعب كل يوم من الذي قبله، واشتياقنا له يزداد أكثر".
وأكدت أن "الأسرة تحمل المسؤولية لكل المسؤولين والسلطة الفاسدة ورئيس الجمهورية وكل من له يد في منعنا من الوصول للحقيقة".
اقرأ أيضا : عامان على كارثة مرفأ بيروت.. قلق من فشل محاسبة المتورطين
وحول إشكالية تعطل التحقيق ورأيهم بالقضاء وهل سيسعون لتدويل القضية قالت: "ليس لدينا ثقة في هذا القضاء المسيس، ونحن وبقية أسر الضحايا ليس لدينا الحيلة والقدرة على تدويل القضية، ولكننا نسعى دائما لأخذ حقنا رغم قلة حيلة اليد".
ما الذي تغير؟
وفاقم الانفجار مشكلات لبنان السياسية والاقتصادية المتفاقمة أصلا، وتوالت بعده الأزمات الاقتصادية حتى وصل الحال بالمواطن ألا يجد قوت يومه، ولا حتى المواد الغذائية الأساسية والدواء، وزادت معاناة المواطنين الذين أصبحوا يضطرون للوقوف ساعات طويلة، وأحيانا المشاحنة والمشاجرة للحصول على ربطة الخبز بعد انتظار شاق.
يؤكد المحلل السياسي والأستاذ بكلية الإعلام في الجامعة اللبنانية ببيروت، إبراهيم حيدر، أن "هناك أمورا كثيرة تغيرت في البلد عقب الانفجار، حيث يتجه إلى مزيد من الانهيار منذ تفجير مرفأ بيروت، الذي دمر نصف العاصمة وأودى بحياة الكثيرين".
وأوضح حيدر خلال حديثه لـ"عربي21"، أنه "في المشهد السياسي تغير الكثير، حيث تمكنت قوى سياسية أو السلطة عموما من منع الوصول إلى الحقيقة في ملف تفجير مرفأ بيروت، وجرى كف يد المحقق العدلي طارق البيطار عن الاستمرار في مهمته".
ولفت إلى أن لبنان "ينزلق إلى مزيد من الانهيار على كل المستويات السياسية والاقتصادية، والبلد في حالة فراغ، بمعنى إذا قارنا ما بين الفترة التي حدث فيها انفجار بيروت واليوم، نجد أن البلد انجرف أكثر إلى الهاوية، وهو في حالة فراغ".
وأضاف: "هذا الأمر أدى إلى عجز عن تشكيل الحكومة، وهناك أيضا استحقاقات أخرى على ما يبدو خاضعة لصراعات سياسية وطائفية في البلد وللتطورات الإقليمية، وبالتأكيد هذا الوضع ينعكس على ملف تفجير مرفأ بيروت وينعكس على الوصول إلى الحقيقية؛ لأن البلد اليوم في حالة شلل وشبه تعطيل وغياب كامل لمعالم الدولة، وهناك عجز عن الإنقاذ".
من ناحيته أشار الكاتب والباحث اللبناني، وائل نجم، إلى أن هناك تغيرات كثيرة حدثت بعد الانفجار، منها سياسي مثل استقالة حكومة ذياب وفشل تشكيل حكومة على مدار عام كامل، إلى أن استطاع نجيب ميقاتي تشكيلها".
اقرأ أيضا : منظمات دولية تطالب ببعثة تقص للحقائق بانفجار مرفأ بيروت
وتابع نجم خلال حديثه لـ"عربي21": "لكن التغيير الأهم والمتعلق بالانفجار، هو الأحداث الأمنية والاشتباكات في الطيونة بين مسلحين من حركة أمل وحزب الله وآخرين، قيل إنهم من القوات اللبنانية على خلفية المطالبة بإقالة قاضي التحقيق في جريمة المرفأ القاضي طارق البيطار".
وأردف: "أيضا الانتخابات التي حدث فيها تغيير طفيف عبر فوز كتلة تضم مجموعة من المدنيين والمطالبين بالتغيير بـ 12 مقعدا، قابله فشل القوى السياسية الرئيسية في الحصول على أكثرية، وكل ذلك أدخل التحقيقات في قضية انفجار المرفأ دائرة المجهول، وسوق المزايدات، ولم نعد نسمع عنها أي شيء".
من يعطل التحقيق؟
وفور بدء التحقيق بانفجار المرفأ وتسلم القاضي طارق البيطار مهمة التحقيق، بدأت القوى السياسية بتراشق الاتهامات فيما بينها، حيث اتهمت كل جهة الأخرى بأنها هي المسؤولة عن تعطيل التحقيق.
وفي الوقت الذي أكدت فيه قوى سياسية لبنانية ضرورة استكمال القاضي طارق بيطار تحقيقاته، تطالب أخرى بإبعاده عن القضية، مما ساهم بحدوث انقسام سياسي، بعد اعتراض قوى رئيسية أبرزها حزب الله على عمل البيطار واتهامه بـ"تسييس" الملف، رغم حديث مصدر قضائي يتابع مسار التحقيقات، أن "البيطار واثق بأن التحقيق سيصل إلى نهاياته" بعدما "بلغ مراحل متقدمة جدا".
وينتظر البيطار، وفق المصدر ذاته، "البتّ بالدعاوى ضده" ليستأنف في حال ردها تحقيقاته، ويتابع "استجواب المُدعى عليهم"؛ تمهيدا لختم التحقيق.
وأجج تعطيل التحقيق غضب ذوي الضحايا، الذين هم أيضا منقسمون حول طريقة عمل قاضي التحقيق طارق البيطار، الذي يواجه دعاوى رفعها تباعا مُدعى عليهم، بينهم نواب حاليون ووزراء سابقون.
الباحث في الشؤون الأمريكية والشرق أوسطية، جو معكرون، يرى أن "لبنان تغير جذريا منذ لحظة الانفجار، لا سيما في تقويض ما تبقى من علاقة الثقة بين المواطنين والنظام السياسي، وقدرته على حمايتهم وعلى تحقيق العدالة وتطبيق القوانين".
وأكد معكرون خلال حديثه لـ"عربي21"، أنه "على الرغم من مرور عامين على جريمة تفجير بهذا الحجم والتداعيات، لم يتم الإعلان عن أي تحقيق رسمي أو إصدار قرارات ظنية، كما كان هناك عرقلة مقصودة لعمل القضاة الذين يقودون التحقيق".
وحول أسباب تأخير استكمال التحقيق وعدم ظهور نتائج قال: "السبب الرئيسي هو تدخل الطبقة السياسية لعرقلة التحقيق، وعدم التعاون مع الاستدعاءات القضائية لمسؤولين سابقين وحاليين، وعدم وجود رغبة لتحقيق العدالة نظرا إلى حجم التواطؤ والإهمال في هذه القضية، على كل مستويات المسؤولين الأمنيين والسياسيين".
من ناحيته، قال الكاتب والمحلل السياسي طلال عتريسي؛ إن "التحقيق بقي معلقا خلال كل هذه الفترة، أيضا هناك جهات كثيرة تعترض على التحقيق منها بعض الأطراف السياسية وجزء من أهالي الشهداء وضحايا الانفجار، ولغاية الآن لم يصدر أي قرار ظني أو أي معلومات واضحة تكشف كيف حصل هذا التفجير".
وتابع عتريسي خلال حديثه لـ"عربي21": "هناك أسئلة كثيرة طبعا مطروحة: لماذا يتأخر التحقيق لغاية اليوم، ولماذا يُستثنى شخصيات من هذا التحقيق؟".
وأضاف: "مثلا استدعي رئيس الحكومة السابق حسان دياب إلى التحقيق، وهو الذي لم يمض على وجوده في منصبه سوى بضعة أشهر، في حين أنه لم يُستدع للتحقيق رؤساء حكومة سابقون، كانوا موجودين في أثناء وصول مادة نيترات الأمونيوم إلى المرفأ، كذلك لم يستدع رؤساء حكومة آخرون تعاقبوا على الحكم خلال فترة وجود هذه المادة المتفجرة بالمرفأ".
وأردف: "من ثم، نحن في وضع أسوأ حيث لا دلائل تُظهر أن التحقيق يتقدم، فمثلا رئيس الجمهورية طلب من الفرنسيين صور الأقمار الصناعية لفترة تفجير المرفأ، ولكنهم لم يردوا على الطلب بأي شيء إيجابي، ومن ثم هناك تحليلات بعيدة عن القضاء والعدالة".
وأوضح عتريسي، أن "البعض يقول إنه كان هناك نية لتسيس التفجير وتوجيه التهم لأطراف سياسية مثل حزب الله على سبيل المثال، ومن ثم لم يتقدم التحقيق بالشكل الذي يجب أن يتقدم به، بمعنى أن يُستدعى كل الذين لديهم علاقة مفترضة بالمسؤولية وليس بالتفجير، حيث لم نعرف لغاية اليوم هل هو تقصير إداري أم فعل إجرامي أم هل هو تفجير داخلي أو خارجي".
وحول من المسؤول عن تعطيل التحقيق، قال عتريسي: "يتهم عدد من المراقبين معظم الطبقة السياسية بأطرافها كافة بالمسؤولية عن تعطيل التحقيق، وبرأيي تعطيل التحقيق جزء منه له علاقة بالجانب القضائي، بمعنى أن القضاء لا يقوم بما يفترض أن يقوم به من استدعاء كل الشخصيات المحتملة التي تتحمل المسؤولية عن ما حصل، سواء بالإهمال أو بالتجاهل أو بغير ذلك، وهذا لم يحصل. إذن، هناك تقصير قضائي".
وأضاف: "ومن ناحية التعطيل السياسي، نعم قد يكون هناك ضغط سياسي حتى لا يتم توظيف هذه الجريمة لحسابات سياسية، ولو كان القضاء مستقيما لما أمكن أن يتم الضغط عليه سياسيا".
اقرأ أيضا : انهيار جزء جديد من صوامع مرفأ بيروت (شاهد)
وخلص بالقول: "قد لا تكون كل الطبقة السياسية متهمة بالتعطيل، ولكن في لبنان للأسف هناك حالات كثيرة لم يصل التحقيق فيها إلى الخاتمة المفترضة، واليوم نسمع بأكثر من حادثة ضغوط سياسية ومرجعيات دينية وغيرها على القضاء لوقف التحقيق في قضية معينة، كما حصل في قضية المطران الحاج وضغوط البطريركية لمنع التحقيق والتدخل في القضاء، ومن ثم هناك ضغوط وحضور سياسي في العمل القضائي، قد يمنع الوصول لمعرفة الحقيقة في قضية انفجار مرفأ بيروت، وأن ينال من يستحق العقاب جزاءه".
الباحث وائل نجم، يرى أن "أبرز ما يمنع ظهور نتائج التحقيق يعود إلى هواجس البعض من أن تكون هناك نية لتسييس التحقيق وحرفه عن مساره الحقيقي، وهنا يبرز موقف حزب الله بشكل أساسي، مع أنّه يؤكد دائما في مواقفه ضرورة كشف الحقيقة وإنصاف الضحايا".
وأضاف: "كما هناك بعض المتورطين من أهل السلطة ممن كان في مواقع أساسية ومتورط بحجم كبير من الفساد، لا سيما قضية تخزين نيترات الأمونيوم، فهؤلاء أيضا يعملون على إعاقة التحقيق في الوصول إلى الحقيقة".
المحلل السياسي إبراهيم حيدر، يؤكد أن "معظم القوى السياسية والطائفية متواطئة على منع الوصول للحقيقة في ملف انفجار مرفأ بيروت؛ لأن هذا الانفجار يطال قوى عديدة بصرف النظر عن المسؤولية عنه".
وأوضح: "فالكل يعرف أن مرفأ بيروت كان خاضعا لشبكة من الهيمنة من قبل أطراف سياسية معينة، قادرة على التحكم بأموره، وأيضا دخول نيترات الأمونيوم التي انفجرت، أيضا يبدو أن هناك قوى متورطة في تمريرها، ومن ثم استمرار التحقيق قد يكشف تواطؤا ما من قوى عديدة شاركت في دخول هذه المواد والتسريب الذي حدث، وهناك مسؤولية لقوى أساسية، هي اليوم تمنع التحقيق وتمكنت من كف يد القاضي البيطار عن الاستمرار في التحقيق".
وحول ما إذا كان سيستمر تعطيل التحقيق وتأثير القوى الجديدة التي دخلت مجلس النواب على القضية قال: "كتلة التغيريين التي فازت في الانتخابات النيابية عددها جيد، ولكنها لا تستطيع أن تقلب موازين القوى لتتمكن لاحقا من فرض وقائع جديدة، إن كان في مجال التحقيق بملف مرفأ بيروت أو مسألة معالجة الفساد، أو محاسبة القوى السياسية التي تسببت في انهيار البلد".
وأضاف: "يمكن لهذه القوى على مستوى نتائج الانتخابات الأخيرة أن تضع بصمتها، وتستطيع أن تراقب وتطرح مشاريع معينة، ولكنها اليوم بدون حركة شعبية قادرة كما حدث في ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 على الضغط على التحالف الحاكم في البلد، لا تستطيع فعلا أن تنجز ما أعلنوا عنه حينما ترشحوا للانتخابات".
وأكد أن "التعطيل مستمر، ويبدو أن هناك قرارا سياسيا بمنع الوصول إلى الحقيقة؛ لأنها قد تكشف أمورا مخبئة لا تتعلق فقط بانفجار المرفأ، وإنما تطال كل ملف المرفأ وملفات أخرى لها علاقة بالداخل اللبناني، ولها علاقة بالمنطقة ومحيط لبنان".
وخلص إلى القول: "هناك قرار سياسي لمنع الوصول للحقيقة، والدليل على ذلك أن التحقيقات متوقفة، فالقاضي البيطار توقف عن التحقيق حيث كان هناك كف ليده في الأمر، رغم إعلانه أنه يريد أن يصل للنهاية في التحقيقات، لكن التعطيل القائم في المؤسسات والبلد يمنع الوصول للحقيقة".