كتاب عربي 21

غسان كنفاني في مواجهة العرقية الصهيونية

1300x600
من أغرب المفارقات في الأيديولوجيا الصهيونية هو اعتمادها على مفهوم البيولوجيا والعرق لتحديد من هو "اليهودي"، وهي ذات المفاهيم التي اخترعتها أوروبا في القرن التاسع عشر واستخدمتها سلاحاً ضد يهود أوروبا. لقد أدى اعتماد معاداة السامية والصهيونية على فصل اليهود "كعرق" عن مسيحيي أوروبا إلى نتائج كارثية على حياة ملايين اليهود الأوروبيين، الذين قضوا في معسكرات الإبادة الجماعية الهتلرية أو على الذين أصبحوا مستوطنين- استعماريين مسلحين في فلسطين.

ففي أعقاب المحرقة النازية، لم يرتدع الصهاينة ولم يتراجعوا عن تبني تلك المزاعم، بل استرسلوا في الإصرار على عرقية اليهود، حتى أنهم غدوا في العقود القليلة الماضية من أعتى المتحمسين والمتعصبين والمرحبين بالاستنتاجات المشكوك فيها لعلماء الوراثة حول ما يسمى بـ"الجين" اليهودي. لقد أدى الاكتشاف الجديد لفك ترميز الجينوم البشري، إلى أنواع مختلفة من المشاريع التجارية التي تدعي بأنها تكشف للناس عن "العرق" الذي يُزعم أنهم ينتمون إليه وفقاً لـ"جيناتهم"، على الرغم من أن مفهوم "العرق" ذاته غير موجود وغير مقبول أو معتمد كتصنيف بيولوجيي علمي.

وقد قام العلماء، لا سيما مؤرخو العلوم الطبيعية، بتقديم نقد دقيق للمنهجيات المشبوهة التي يستخدمها علماء الوراثة لتفسير البيانات الجينية. وقد واظب عالم الوراثة البارز ريتشارد ليوانتين، على سبيل المثال، على فضح هذه المناهج المشكوك فيها كما فعل كثيرون غيره، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالبحث "العلمي" عن "الجين" اليهودي.
كان نشر ادعاء الصهاينة المعادي للسامية بوجود عرق يهودي ضرورياً للادعاء الصهيوني بأن اليهود الأوروبيين المعاصرين متجذرون بطريقة ما في فلسطين، وقد تم تحويلهم بشكل خيالي إلى أحفاد العبرانيين الفلسطينيين القدامى

ومع ذلك، تصر الصهيونية، كما فعلت منذ بداية القرن العشرين، على أن اليهود، من جميع أنحاء العالم ينتمون إلى عرق واحد وأنهم شعب واحد. لقد كان نشر ادعاء الصهاينة المعادي للسامية بوجود عرق يهودي ضرورياً للادعاء الصهيوني بأن اليهود الأوروبيين المعاصرين متجذرون بطريقة ما في فلسطين، وقد تم تحويلهم بشكل خيالي إلى أحفاد العبرانيين الفلسطينيين القدامى. لكن في أعقاب الحرب العالمية الأولى، كان الزعيمان الصهيونيان الرئيسيان، دافيد بن غوريون وإسحاق بن تسفي، أكثر واقعية في تقييمهما، وذهبا في لحظة صحو واعية إلى حد القول بأن الفلاحين الفلسطينيين، الذين شكلوا في حينه غالبية الشعب الفلسطيني، هم في الواقع مَن يتحدر من نسل العبرانيين القدماء، وهو ادعاء تم دفنه صهيونياً منذ ذلك الحين.

لكن المفكرين الفلسطينيين لم يقتنعوا أبداً بحجج الصهيونية العنصرية. وقد تولى غسان كنفاني مواجهة هذا التحدي في روايته "عائد إلى حيفا" الصادرة عام 1969، حيث تضمنت الرواية ردّاً مدمراً على الصهاينة. وما زال إرث كنفاني الفكري والأدبي والسياسي ذا تأثير على أجيال من الفلسطينيين، حتى بعد 50 عاماً من اغتياله من قبل إسرائيل التي فخخت سيارته التي انفجرت فيه وقتلته عن عمر يناهز 36 عاماً، ومعه ابنة أخته لميس البالغة من العمر 18 عاماً، في بيروت عام 1972.

تعتبر رواية "عائد إلى حيفا" دحضاً عبقرياً ومحطِماً لمفهوم البيولوجيا الصهيوني، حيث يصر كنفاني على أن المبادئ والالتزام بالعدالة هي ما تحدد ماهية الإنسان وليس البيولوجيا والدم، ولا الأصول الجغرافية أو النسب الأبوي أو الأموي. بالنسبة إلى كنفاني، فإن المبادئ هي التي يجب أن تحدد هوية الفلسطينيين على النقيض من مفهوم العرقية التي تعرِّف بها الصهيونية اليهود. أما المعادلة التي يستحضرها كنفاني لقلب الجغرافيا والبيولوجيا في روايته فيختصرها في صيغة: "الإنسان قضية"، وأنه يجب الحكم على البشر وفق مبادئ القضية التي يحملونها والتي تشكل هويتهم.
المبادئ هي التي يجب أن تحدد هوية الفلسطينيين على النقيض من مفهوم العرقية التي تعرِّف بها الصهيونية اليهود. أما المعادلة التي يستحضرها كنفاني لقلب الجغرافيا والبيولوجيا في روايته فيختصرها في صيغة: "الإنسان قضية"، وأنه يجب الحكم على البشر وفق مبادئ القضية التي يحملونها والتي تشكل هويتهم

بعد احتلال عام 1967، يعود سعيد وزوجته صفية، وهما لاجئان من عام 1948 هُجرا إلى الضفة الغربية، إلى حيفا لاستعادة طفلهما المفقود الذي بقي في منزلهما أثناء ذعر الطرد والتهجير في نكبة 1948، ولكن ما وجدوه هناك سيقلب حياتهما ومبادئهما رأساً على عقب. فقد استولى الصهاينة على منزلهما وجميع محتوياته ومنحوه لمستعمرين يهود بولنديين، هما إفرات وميريام كوشن، اللذين جلبتهما الوكالة اليهودية للاستيطان في فلسطين. يجد الصهاينة الطفل الفلسطيني الذي تُرك وحيداً في المنزل، فيختطفونه ويضمونه إلى باقي المسروقات ويمنحونه للعائلة المستوطنة لتبنيه.

يقوم كنفاني بأنسنة المستعمرين الغزاة لفلسطين عبر تزويد القارئ بالخلفية المأساوية لتاريخ المستوطنين اليهود. وتكشف الرواية أن والد ميريام كان قد قضى في معسكر أوشفيتز النازي وأن شقيقها قُتِل برصاص النازيين. وكان زوجها إفرات، شأنه شأن العديد من الناجين من المحرقة، قد انضم إلى الجيش الإسرائيلي بعد قدومه للاستيطان في فلسطين، وقضى في الاجتياح الإسرائيلي لمصر عام 1956.

وعندما شاهدت ميريام، على سبيل المثال، جنديين صهيونيين يلقيان بطفل فلسطيني ميت وملطخ بالدماء في مؤخرة شاحنة، تدرك على الفور بأنه ليس يهودياً من كيفية تعامل الجنديين مع جثته، وهو ما يذكّرها بمصير شقيقها وغيره من اليهود الأطفال الذين قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية. وهكذا يقوم كنفاني بتقديم الحجة بأن اليهود الذين لم تكن لديهم أيديولوجيا سياسية أو عسكرية للغزو في أوروبا كانوا ضحايا للمسيحيين الأوروبيين الذين تبنوا أيديولوجيا إقصائية وسلطة عرقية، بينما غدا الفلسطينيون ضحايا لليهود الذين تبنوا أيديولوجيا استعمارية مرفقة بسلطة عرقية في فلسطين. هنا يشير كنفاني إلى مسألة الأيديولوجيا والسلطة، لا الهوية البيولوجية أو العرقية، باعتبارها هي ما تحدد مصير الشعوب.

بمجرد أن أدرك سعيد وصفية أن ابنهما البكر خلدون (واسمه مستمد كما هو واضح من "الخلود") قد اختُطف من قبل الزوجين اليهوديين اللذين سرقا منزليهما وحوَّلا خلدون إلى طفل يهودي، وأعادا تسميته بـ "دوف" (أو "دُب")، أخذا ببطء، ولكن بثبات، يدركان أن خلدون/ دوف لم يعد ابنهما وأنهما قد فقداه إلى الأبد.

تخبرنا ميريام أن دوف يشبه سعيد تماماً، ولكن عاداته هي عادات "والده" المختطِف/ بالتبني، إفرات. ولم يُطلَق على "دوف"، وفقاً للتقاليد اليهودية الأوروبية، اسم من أسماء الأنبياء اليهود، ولكن اسم حيوان مفترس، تماشياً مع الأيديولوجيا الصهيونية.
السؤال المركزي الذي تطرحه رواية كنفاني هو مسألة الأصول. هل يتم تعريف البشر وفقاً لمن هم آباؤهم، أو عرقهم ودمهم، أو أصولهم الجغرافية، أم وفقاً لمعايير أخرى؟ إن مساءلة كنفاني للنسب البيولوجي كمحدد لهوية الفرد هي مساءلته لما يسميه المنظرون الأكاديميون بـ"الجوهرانية"

وكان دوف يخدم في الجيش الإسرائيلي ويشير إلى الفلسطينيين بـ"الطرف الآخر". وعندما التقى بوالديه الفلسطينيين المهزومين، رفضهما على الفور بازدراء شديد. وسرعان ما تبين لسعيد وصفية أن خلدون، الذين توخيا أن يكون خالداً، كان في نهاية الأمر فانياً، وأنه كان بالفعل قد مات في عام 1948 عندما سقطت فلسطين، لكن تم بعثه لاحقاً باعتباره مستعمراً يهودياً مفترساً. في هذه اللحظة يتساءل سعيد بصوت عالٍ: "ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة لمدة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟.. خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن؟.. إنني أسأل فقط".

السؤال المركزي الذي تطرحه رواية كنفاني هو مسألة الأصول. هل يتم تعريف البشر وفقاً لمن هم آباؤهم، أو عرقهم ودمهم، أو أصولهم الجغرافية، أم وفقاً لمعايير أخرى؟ إن مساءلة كنفاني للنسب البيولوجي كمحدد لهوية الفرد هي مساءلته لما يسميه المنظرون الأكاديميون بـ"الجوهرانية".

بما أنه يمكن في سياق الرواية لبعض الفلسطينيين الأصليين أن يصبحوا مستعمرين يهود ويقتلون فلسطينيين آخرين، وأنه يمكن لليهود الأوروبيين المضطَهدين أن يصبحوا مضطهِدين وغزاة للفلسطينيين، فهل الأصول البيولوجية والجينات والجغرافيا هي إذن العوامل التي تحدد الهوية أم أنها الأيديولوجيا والسلطة؟ إن الاستنتاج الذي يقدمه كنفاني استنتاج عميق وذو أبعاد في نطاقه. فيسأل سعيد: "ما هو الوطن؟ ثم يستنتج أن "الإنسان هو قضية وليس لحماً ودماً يتوارثه جيل وراء جيل".

بالنسبة إلى كنفاني، في هذه اللحظة، يتحول الفلسطيني من أحد سكان فلسطين الأصليين، أو من شخص تم تحديده بيولوجياً من خلال ولادته لأبوين فلسطينيين، إلى شخص يحمل مبادئ تحررية عادلة تتضمنها وتشكلها كلمة "قضية". وهكذا يتبين أن "الصراع" بين الفلسطينيين والغزاة اليهود الأوروبيين لأرضهم لم يكن، على الرغم من إصرار الصهاينة، يتمحور حول أصول بيولوجية أو جغرافية طراً، حيث يمكن لفلسطين أن تصبح ببساطة إسرائيل بضربة قلم ويمكن لابن فلسطيني أن يصبح ابناً يهودياً أوروبياً، ولكنه يتمحور حول المبادئ الأخلاقية والعدالة.
يدرك كنفاني في هذه الرواية المفعمة بالأمل أن على الفلسطينيين ألا يكرروا أبداً الطبيعة الفاشية للعنصرية والعرقية الصهيونية، وألا يتبنونها في مطالبتهم المشروعة بفلسطين

ترفض رواية كنفاني الحنين الفلسطيني إلى ماض قد مات ولا يمكن استرداده، وتصر على مستقبل مُعاش قابل للإنجاز. وبما أن كنفاني كان قد كتب روايته بعد انتصار المقاومة على الجيش الإسرائيلي عام 1968 في معركة الكرامة، فإنه يكشف لنا في الرواية كيف يندم سعيد على معارضته السابقة لخطة ابنه الثاني "خالد" (وُلد خالد بعد النكبة، واسمه كاسم أخيه المفقود مستمد أيضاً من الخلود) للانضمام إلى المقاومين الفلسطينيين. يصرّح سعيد لصفية:

"لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد، فالوطن عنده هو المستقبل.. وهكذا أراد خالد أن يحمل السلاح. عشرات الآلاف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور، وهم إنما ينظرون للمستقبل، ولذلك هم يصححون أخطاءنا، وأخطاء العالم كله.. إن دوف هو عارنا، ولكن خالد هو شرفنا الباقي".

يدرك كنفاني في هذه الرواية المفعمة بالأمل أن على الفلسطينيين ألا يكرروا أبداً الطبيعة الفاشية للعنصرية والعرقية الصهيونية، وألا يتبنونها في مطالبتهم المشروعة بفلسطين. فهذا هو السبب الذي يحتم على كنفاني أن يُميتَ خلدون، الذي يمثل ما كان يُعتقد أنه ماضٍ خالد، وينهيه إلى الأبد بمعية هذا الماضي، بينما على خالد، الذي يمثل المستقبل الخالد، أن يعيش كفاعل مقاوم للاستعمار الصهيوني.

ما زالت رسالة كنفاني المتفائلة تواصل إلهام الشعب الفلسطيني اليوم، وسيظل صداها يتردد دون كلل داخل المقاومة الفلسطينية الحية.