نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية مقابلة أجرتها في برلين مع رجلين كانا متورطيْن في آلة الموت السورية، حيث كانا مسؤولين عن دفن جثث ضحايا القمع في مقابر جماعية في ضواحي دمشق.
وقال الموقع، في تقريره الذي ترجمته "عربي21"، إن نظام بشار الأسد يتقن جميع جرائم القمع والتعذيب والقتل التي تفنن في ممارستها منذ بداية الثورة في آذار/ مارس 2011، لكن هذه الجرائم لم تقتصر على القتل فحسب، بل كان ينبغي أيضًا التخلص من الجثث، حيث تعتبر الجثث دائما مشكلة للأنظمة الشمولية، وتتيح القصتان اللتان حصلت عليهما صحيفة لوموند فهم الطريقة التي دفن بها النظام السوري سرًا جثث عشرات الآلاف من الضحايا الذين كانوا عالقين في آلة الموت التي بدأت في سنة 2011 لقمع وسحق الانتفاضة التي طالبت بتغيير النظام.
وأشار الموقع إلى أن القصة تروي حكاية لاجئيْن سورييْن استقرا في ألمانيا في منطقة برلين، الأول أُطْلِقَ عليه لقب "حفار القبور" لأسباب أمنية، وكانت وظيفته الإشراف على عمليات الدفن السرية في مقابر جماعية على رأس فريق صغير مكون من حوالي خمسة عشر شخصًا، وعمل من سنة 2011 حتى نهاية سنة 2017، ودُفنت عشرات الآلاف من الجثث أمام عينيه.
أما الثاني، فكان يقود جرافة، وكان مسؤولًا عن حفر المقابر الجماعية، ودفع الجثث فيها أحيانًا بشفراتها، وأدى هذه المهمة منذ صيف 2011 إلى صيف 2012، قبل أن يُسجن لأكثر من سنة بقليل، وأطلق على هذه الشخصية اسم "السائق"، وقد تقابل الرجلان في دمشق، حيث كانا يعملان في الموقع ذاته، لكنهما لم يلتقيا منذ انتقلا إلى ألمانيا. ومع ذلك، فإن قصتيهما تتفقان وتكملان بعضها البعض بشكل مثالي.
وقد أدلى حفار القبور بشهادته في المحاكمة التاريخية التي جرت في كوبلنز، والتي حكم القضاء الألماني في نهايتها على العقيد السابق لأمن الدولة السوري أنور رسلان بالسجن المؤبد بتهمة ارتكاب "جرائم ضد الإنسانية"، والرقيب الأول إياد الغريب بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف، فيما يعيش سائق الجرافة متخفيًا، ولم يتم الاتصال به من قبل أي سلطة قضائية أو دبلوماسية، ولم يتخذ أي خطوات، في الوقت الحالي، للإدلاء بشهادته في مكان رسمي.
اقرأ أيضا: "حفار القبور" يكشف للكونغرس عن فظائع النظام السوري (فيديو)
توقف عقلي عن العمل
وذكر الموقع أن حفار القبور كان جالسًا في مقهى وسط برلين في بداية الصيف، حيث كان يدخن السيجارة تلو الأخرى، تذكر حياته الماضية في سوريا، والتي يصفها بأنها منظمة وبلا مشاكل، وذلك حتى بداية سنة 2011، حيث كان هذا الرجل -البالغ من العمر 36 سنة- لا يتوقع حجم الكارثة التي توشك على السقوط على سوريا وفي حياته.
في هذا السياق، يقول حفار القبور: "كانت وظيفتي هي ملء استمارات في مكتب خدمات الجنازات في بلدية دمشق، القسم المسؤول عن إدارة المقابر"، وفي أحد أيام الربيع، سقط عشرات القتلى في الشوارع، وزار ضباط الجيش رئيس مكتب الدفن، وطلبوا منه أن يأتي معهم، وبالطبع لم يستطع أن يرفض تعليماتهم. وبعد أيام قليلة، جاء دوره ليتم استدعاؤه من قبل مشفى حرستا العسكري، حيث أوضح أنه تم أخذه إلى مقبرة النجا، حيث كانت هناك عدد قليل من الشاحنات المبردة التي تحتوي على الجثث، وكان الجنود ينزلون الجثث، وأثار ذلك المشهد صدمة الموظف، وخلال دورته الثالثة في المقبرة، أرسل الضابط المسؤول عن العمليات أمرًا جازمًا لرئيسه في مكتب الدفن بتوفير فريق من الموظفين ليحلوا محل الجنود، وقد اختاروا خمسة عشر عاملًا.
وأُلقي سائق الجرافة، هو الآخر، دون سابق إنذار في دوامة الحرب والقمع، حيث كان عمل هذا الرجل -حتى قيام الثورة- يتمثل في تدمير المباني غير القانونية للإدارة المحلية في دمشق. وفي آب/ أغسطس 2011، كلفه رئيسه بمهمة خاصة، فقد كان الحرس الجمهوري يحتاج إلى جرافة لتدمير الخنادق والحواجز المقامة في حي بساتين الرازي الذي يسيطر عليه المتمردون خلف السفارة الإيرانية، وعندما وصل إلى هناك، توقف القتال، وفر مقاتلو المعارضة، ولم تبق سوى جثث المدنيين، فأمره الجنود بالتخلص من كل شيء، بعد أن ألقوا بالجثث في شفرة الحفارة، وكانت هناك تقريبا من 70 إلى 75 جثة، ثم أُمر بحفر حفرة وإلقائهم فيها.
"الرائحة كانت لا تطاق"
ولفت الموقع إلى أن النظام -منذ البداية- كان يتبع مسارًا لا ينحرف عنه أبدًا، وهو التخلي عن الجثث فورًا، حيث يقول حفار القبور إنهم قاموا في البداية بحفر قبور فردية، ووضع ما يصل إلى ستة أو سبعة جثث فيها، لكن عدد القتلى استمر في الارتفاع، وبدأت شاحنات التبريد تصل ممتلئة بالجثث بالكامل، وكان هناك ما يصل إلى 400 أو 500 جثة في المرة الواحدة. لذلك، كان عليهم حفر مقابر جماعية. وفي هذه المرحلة استدعت السلطات سائق الجرافة، ففي أيلول/ سبتمبر 2011، تم إرساله إلى مقبرة النجا، وطلب منه أن يحفر حفرة لأعمق ما يمكن.
ويصف الموقع المشهد.. ففي نهاية فترة ما بعد الظهر، وصلت سيارة مرسيدس سوداء، تلتها شاحنتا تبريد وحافلة صغيرة نزل منها سبعة عمال جنازات، وكان حفار القبور واحدًا منهم، ثم أمر الضابط أول شاحنة تبريد بالنزول إلى أسفل منحدر ترابي للاقتراب من الحفرة. وأثناء إمالة الشاحنة، تدفقت السوائل من الخلف، والتي كانت عبارة عن دم مختلط بالماء القذر والفضلات، وقد تطلب الأمر عدة رجال للدخول إلى الشاحنة لسحب الجثث المتلاصقة، ثم طُلب من السائق دفع الجثث في الحفرة بشفرات الجرافة، وفي تلك الليلة دفن ما يتراوح من 400 إلى 500 جثة.
وبحسب الموقع، فقد تكرر المشهد من مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع، وفي بعض الأحيان كان من الضروري استخدام الجرافة؛ لأن الأرض كانت صخرية، حيث يقول السائق إنهم كانوا يحفرون في كل مكان، وأحيانًا لم يستطيعوا تذكر المكان الذي دفنوا فيه الجثث فأعادوا فتح الحفر، وأثناء سؤاله عن المدة التي سوف يستغرقها هذا العمل، أجابه الضباط :"حتى تقاعدك أو ربما حتى بعده"، وقد كان ذلك في الشهر الأول له في ذلك العمل.
اقرأ أيضا: هل يدفع "حفار القبور" واشنطن إلى معاقبة نظام الأسد؟
عمليات التخلص من الجثث في شاحنات القمامة
وأفاد الموقع بأنه وفقًا لحفار القبور، فقد حفرت السلطات خنادق بعرض 2.5 إلى 3 أمتار، ويمكن أن يصل طولها إلى 150 مترًا، وهذا ما يؤكده تحليل صور الأقمار الصناعية لهذه الأماكن التي رصدتها صحيفة لوموند منذ سنة 2011.
وأضاف الحفار قائلًا إن عملية الدفن مستمرة بوتيرة لا تطاق، وقد عمل أحيانًا لفترات من أربعة أو خمسة أشهر دون أن التمكن من رؤية عائلته التي كانت تعيش على بعد 15 كيلومترًا فقط، وعندما حصل على إذن، تم استدعاؤه مرة أخرى، فقد كان يقود سيارة دون لوحة مرور وكان مسلحًا، كما تم تزويد المركبة بوثائق موقعة من جميع فروع الأجهزة لتجاوز الحواجز الأمنية. وفي غضون ذلك، افتتح النظام موقعًا جديدًا في منطقة القطيفة على بعد 50 كيلومترا شمال دمشق على طريق حمص، وهو معسكر يضم عدة وحدات في نقطة إستراتيجية تقع في منطقة مرتفعة، ويقع موقع الدفن على أراضي الفرقة 13، حيث تظهر صور الأقمار الصناعية نشاطًا مستمرًا منذ سنة 2014.
وشدد الموقع على أن حصيلة الضحايا استمرت في الارتفاع حتى سنة 2016، وحسب حفار القبور، كانت الجثث في البداية تأتي بشكل أساسي من المستشفيات العسكرية الثلاثة في دمشق: مستشفى 601، ومستشفى حرستا وتشرين، ثم بدأت الجثث تتدفق مباشرة من أفرع الأجهزة الأمنية في دمشق ومنطقتها. وفي مرحلة ما، من المستشفيات المدنيّة ومراكز الشرطة. هذا دون احتساب السجناء المحكوم عليهم بالإعدام في سجن صيدنايا، وقد تبيّن أن أجهزة المخابرات الجوية نفسها قامت بإخلاء الجثث من مقرها بواسطة شاحنات جمع القمامة على مرأى من سكان حي باب توما وسط دمشق، فيما يذكر حفار القبور -والإحباط واضح على ملامح وجهه- أنهم قاموا أيضا بدفن النساء والأطفال، كما رأوا أحيانًا جثث أطفال من مستشفى الهلال الأحمر في دمشق، وكان الضباط يسمونهم "الخنازير الصغيرة". ولعل أسوأ ذكرى بالنسبة للسائق ما حلّ بطفل صغير، نسي أن يدفنه في عجلة من أمره، وفي اليوم التالي، لم يجد سوى كفنه الذي مزقته الكلاب الضالة. ومنذ وصوله إلى ألمانيا، كان حفار القبور ينام بشكل سيئ، ولم يعد يعمل، ويشعر بأنه غير مستقر نفسيًا.
وذكر الموقع أن شاهدًا روى أنه أثناء بحثه عن قريب له متوفى في مركز تعذيب، كيف فُتحت المشرحة من طرف أنور رسلان، المتهم الرئيسي، الذي أشار عليه بأخذ أيّ جثة وإخبار عائلته أنها الجثة الصحيحة، لأنه لا يستطيع أن يجد قريبه. وبعد سنوات، تم إرسال شهادات وفاة مزورة، كتب فيها أن سبب الوفاة نوبة قلبية، إلى عائلات الضحايا، دون ذكر مكان الدفن على الإطلاق.
آلة القتل
وتحدث الموقع عن إشراف المخابرات الجوية على جميع عمليات جمع الجثث والدفن، أو على الأقل تلك التي شهدها حفار القبور، حيث انتشرت المقابر الجماعية في جميع أنحاء سوريا، وفي حمص وحلب والغوطة وغيرها في المئات من المواقع، فيما يقول المحامي والناشط أنور البوني أنه لا يمكن لأحد رسم خريطة لهذه المقابر اليوم. وبالنسبة له، تُقدّر الحصيلة الإجمالية للصراع السوري بأكثر من مليون قتيل، والتي بلغت ذروتها ما بين عامي 2012 و2014، عندما كان يُقتل حوالي مائة شخص يوميًا في المظاهرات، وأضاف أن الغرض من آلة القتل هذه كان الانتقام من الناس وتفكيك المجتمع وقتل الثورة.
وبحسب الموقع، لن ينسى حفار القبور أبدًا اليوم الذي لاحظ فيه أحد رجاله أن واحدًا من بين الجثث الحديثة، القادمة من سجن صيدنايا، ما زال يتحرك وكان يتنفس ويداه مكبلتان خلف ظهره وعيناه معصوبتان وعاريًا تمامًا، حيث أمر الضابط الجرافة بدهسه قبل إلقائه في الحفرة.
وتمكن سائق الجرافة من الفرار إلى تركيا، ومنها إلى ألمانيا عبر طريق البلقان. وفي صيف سنة 2012، تم اعتقاله من قبل أجهزة المخابرات دون إخباره بالضبط عن السبب، وخلال عام طويل من اعتقاله مصحوبًا بالتعذيب، ظن السائق أنه من المحتمل أن ينتهي به المطاف مثل كل الذين دفنهم، ولكنه فرّ بعدها مستفيدًا من الإفراج القصير الذي حصل عليه بفضل رشوة دفعها والده، كما التحق حفار القبور في وقت لاحق، وتحديدا في سنة 2018، بابنته في برلين التي أمنت له تصريح لم شمل، لكن شبح مهنته السابقة لا يزال يطارده، حيث قال إنه لم يتمكن أبدًا من تخيل مستوى التعذيب الذي تعرض له هؤلاء الأشخاص للوصول إلى مثل هذه الحالة، ففي بعض الأحيان كان لا يمكن التعرف على الجثث، وكانت بعض الجثث تأتي بأذن مفقودة، وأخرى مقطعة الأوصال، كما تم قطع الأعضاء التناسلية الذكرية لبعضها واقتلاع أظافر البعض الآخر، كما تحدث عن اختفاء العديد من السوريين مزدوجي الجنسية خلال سنوات الإرهاب هذه، ومنهم صحفيون ونشطاء ومعلمون وعاملون في المجال الإنساني... وهناك أيضًا الرعايا الأجانب الذين لم نسمع عنهم أحد.
وختم الموقع تقريره، بالإشارة إلى إصدار نظام بشار الأسد، في أيار/ مايو، عفوًا لأول مرة منذ سنة 2011 عن سوريين مسجونين بتهمة الإرهاب في إطار البحث عن إعادة التأهيل، حيث اُلقي حوالي 150 سجينًا يبدو عليهم الإرهاق والهزال على قارعة الطريق، على بعد مئات الكيلومترات من المكان الذي تم القبض عليهم فيه، مؤكدًا أنه كانت معجزة أن ينجو كل من السائق وحفار القبور من آلة الموت السورية، وهما يعيشان في تكتم ويخشيان دائمًا أن يتم التعرف عليهما من قبل مؤيدي النظام.
AXIOS: تل أبيب تعارض عملية تركية جديدة بسوريا لهذا السبب
WP: بايدن تخلى عن سوريا وسلّمها لروسيا وإيران
بزنس إنسايدر: صناع المحتوى والمؤثرون يروجون لنظام الأسد