هل تذكر يا أبي
إجازاتنا التي قضيناها في منتجع الحمامات القريب من تونس العاصمة؟. أبي، لي مدة
تهف علي ذاكرتي جراسييلا مربيتنا؛ أخي وأنا خلال إقامتنا في بيونس آيرس. لم ترفض لي
طلبا طيلة مدة رعايتها لنا في غيابكما. طلبت منها ذات يوم أن نلعب سويا فتقوم
بتكتيفي بحبل طويل مع كرسي جاءت به من المطبخ وبناء علي طلبي تضعنا، الكرسي وأنا،
علي مدخل البيت مباشرة وتذهب هي لتواصل عملها في بقية أنحاء البيت. دخلت بمفتاحك
لتجدني أمامك وعيناي مغرورقتان بالدموع وصوتي المخنوق يستغيث بك لإنقاذي من
الأشرار الذين «ما إن تخرج كل صباح إلا ويسرعون في اختطافي وربطي إلي هذا الكرسي
اللعين ويحرمونني من اللعب ومن الطعام والشراب».
عادت ابنتي الأصغر هي
الأخري إلي أيام تصفها بأنها أحلي أيام عمرها. كنا وقتها نقضي بعض ساعات النهار
خلال عطلة نهاية الأسبوع علي شاطئ في ضاحية قرطاج. هناك كنا نلتقي بزميل لي لم
أعرف ندًا له في كرمه ونبل أخلاقه وطيب معشره. كان يخصص بعض وقت العطلة يلاعب ابنتي
وهي في ربيعها السادس، هو طويل السيقان وبطيء الحركة أكثر من المعتاد وهي دائبة
الركض، أيضا أكثر من المعتاد.
ذكرتني قبل أيام
بزيارة قمنا بها هي وأنا لبيت صديقنا المشترك، وكان اليوم سبتا وبارد الطقس ففضلنا
جميعا عدم الخروج إلي الشاطئ. وصلنا ومعنا زميلة من العمل. بعد الترحيب فاجأنا
الصديق بطلب غريب. جلس علي الأرض في صالة واسعة خالية من الأثاث وأمامه اصطف
ثلاثون زوج من الأحذية الإنجليزية باهظة الثمن، وأغلبها مستعمل ليوم أو يومين لا
أكثر. هوايته جمع الأحذية وأمتع ساعات راحته تلك التي يقضيها في صحبتها. طلب منا
مساعدته في مهمة إعادة تقييم أزواج الأحذية طبقا لمعايير حددها وراجعها معنا.
أبلغنا أنه وقد حان موعد شراء زوج جديد من لندن، يتعين عليه قبل شرائه له إحالة
زوج من مجموعته للاستيداع. قالها في كلمات مكسوة بكثير من الأسي وكأنه علي وشك أن
يودع كائنا كان رفيق حياة.
اتصل بي مساء أمس صديق
كان جارا لنا وأنا في سن المراهقة. كان الألم باديا علي صوته. تعودنا علي امتداد
السنين استمرار التواصل. كثيرا ما سألتني عن شكله وتقاطيع وجهه زميلة تابعت عن قرب
بعض علاقاتي الأقدم. اعترفت أن الصورة التي خلفها في ذاكرتي هي الصورة نفسها التي
كان عليها عندما افترقنا آخر مرة قبل أقل من سبعين سنة بقليل. صورة رفضت وما زلت
أرفض أن أدخل عليها بعض تفاصيل مما يفعله الزمن بالناس. أذكره طويل القامة، أطول
من كل أصدقاء الحي في كل مراحل نمونا. أذكر أيضا أنه كان يستعمل نظارات طبية وأنه
كان يطمح ليكون مهندسا عندما يتوقف عن الرسوب المتتالي ويستأنف الصعود علي سلم
التعليم. يذكرني في كل اتصال بأنه لن ينسي يوم أعلن عن نجاحه لأول مرة منذ وقت غير
قصير، إذ سمع وهو في الشارع صوت أمي تنادي عليه من الشرفة وتهنئه علي النجاح. قام
بشراء زجاجة بيبسي مثلجة وصعد بها ليشكرها علي التهنئة. انتشر الخبر فاستدان مني
ليسدد ثمن زجاجات أخري للكثير من أمهات الحي اللائي استجبن لطلب أمي تهنئته علي
نجاح طال انتظاره.
ابنتي الأكبر التي
مثلت دور الفتاة المسكينة المقهورة عندما كنا في الأرجنتين سألتني قبل أيام قليلة،
بعد تهنئتها بعيد ميلادها، إن كنت أذكر حكاياتها مع جدها لأمها في بيروت عندما لم
يتجاوز عمرها الثامنة وكانت عائدة لتوها من أمريكا اللاتينية. عادت لنعلمها مع
شقيقها العربية في بيت جدها الشاعر وبين أفراد عائلة أمها. يبدو أنها استطاعت أن
تكسب حب جدها إلي حد أنه صار يأخذها معه في كل مرة يخرج فيها للنزهة عند كورنيش
الروشة أو في مقاهيه المفضلة في عالية وبرمانة في الجبل. كانت تعود من هذه الرحلات
القصيرة مبتهجة؛ لأنها حسب قولها «عادت تسمع نطقا جميلا للغة الإسبانية علي لسان
جدها». أما هو، أي جدها، فكان يعود فخورا بسلوك حفيدته وطلاقتها وذكائها حتي إن
أصدقاءه من الأدباء ورجال السياسة انبهروا برد فعلها في كل مرة دعاه السائق ليدخل
إلي السيارة. كان كعادته ينسي كياسته ويدخل فتغضب الحفيدة وتجلس علي الرصيف رافضة
دعوات السائق لها بالركوب. لم تكن تتحرك من مكانها إلا بعد أن يحترم جدها آداب
التعامل فينزل من السيارة ليفتح لها بنفسه باب السيارة ويدعوها إلي الدخول فتدخل
ثم يدخل هو بعدها. تعود إلينا في البيت لتشكو جدها الدبلوماسي الذي لا يمارس آداب
السلوك الاجتماعي. كيف تسمحون في عائلتكم وبلدكم غير المتحضر لرجل يسبق فتاة أو
امرأة في الدخول إلي مكان أو لركوب سيارة؟.
قابلت قبل أيام قليلة
سيدة قدمت نفسها كزميلة سابقة في كلية التجارة عندما كنت أدرس العلوم السياسية في
السنوات النهائية. قالت إنها تخصصت في دراسة الاقتصاد، هكذا فسرت صعوبة تعرفي
عليها. رفضت أن تحمل التقدم في العمر مسئولية عدم تعرفي عليها مجددا. أنقذتني من
حرج مؤكد. قالت كنا في وقت الدراسة قريبين جدا لأن كلا منا وهب من وقت فراغه
ساعتين مرتين في الأسبوع ليحضر محاضرات ينظمها ويعد بعضها الدكتور عزالدين فريد
أستاذ الجغرافيا الاقتصادية في ذلك الوقت قبل أن ينتقل إلي كلية الآداب عميدا لها.
لعلها كانت من أكثر أنشطتنا الجامعية امتاعا، ولها الفضل، حسب رأيها، في تفوقنا في
الأنشطة الأكاديمية. أظن أن هذا اللقاء هو السبب في أن ذاكرتي راحت منذ ذلك اليوم
تركز علي إحدي أهم فترات حياتي، وهي الفترة التي اقتطعت منها وقتا لمحاضرات
الموسيقي ووقتا اشتغلت فيه «صبي مكتبة» في مكتبة مركز الإعلام الأمريكي ثم مشرفا
علي المكتبة الموسيقية التي كانت تضم أسطوانات لمئات السيمفونيات والأوبرات، وكثير
منها حاضرت فيه وكسبت له عشاقا، ووقتا للاستعداد لامتحان الملحقين الدبلوماسيين،
كانت أياما حقا ممتعة وحافلة وغنية بالذكريات.
وسط هذه الذكريات يبقي
دائما أبرزها وهو الذي لا يفارق ولا ينخلع من موقعه حتي إنني صرت لا أخجل من عرضه
علي أصدقاء متخصصين في دراسة النفس البشرية الباحثة دائما عن المتاعب ونوعية العقل
الذي لا يهدأ. موقعان في صندوق ذكرياتي احتلا مكانة خاصة. أولهما، وهو الأقل صعوبة
في الفهم، موقع سطح بيت جدتي المطل من الخلف علي حارة الوراق. قيل لي إن أبي وأمي
ولدا في بيت من البيوت الأربعة القائمة وقتذاك في الحارة وكان يسكنها جدودي من
الناحيتين. أذكر جيدا ما قالته أمي وأكده لي أبي وأعمامي من أنهم تحملوا وهم صغار
مسئولية إغلاق بوابة الحارة بعد عودة جميع الكبار من أعمالهم بعد منتصف الليل،
يغلقونها بمفتاح كبير بطول «طفل صغير». وحكايات أخري عن أنشطة العمل في مهنة الورق
من مكتبات إلي تجارة الحبر والصمغ والورق والأقلام إلي النشر، نشر الكتب والمجلات.
كانت مهام الوراقين عديدة ولهم مشكلات عديدة مع ممثلي السلطة بجانبيها الأجنبي
والمحلي ولعبوا أدوارا بارزة في ثورة 19.
الموقع الثاني، باقية
ذكرياته ملتصقة في مخيلة أنا صانعها وربما ساهمت في تشكيلها وصياغتها حكايات أهل
العائلة الممتدة في حياتنا منذ الصغر وإلي يومنا هذا. هذا الموقع، ولن أطيل في شرح
أبعاده حتي لا أفقد القارئ الذي صمد مع بعض ذكرياتي حتي اللحظة، مساحته عشرون
سنتيمترا مربعا ويقع داخل مشربية رائعة الصنع يتجدد هواؤها بحكمة نقوشها وروعة
توزيعها، وهي نفسها التي كانت تحميني وأنا داخل المشربية من الشمس إن التهبت أو
تجاوزت. ما زلت أذكر من كوتي ومن فتحات خشب المشربية، وهنا الغرابة، تفاصيل الجزء
الأخير من شارع أمير الجيوش الجواني قبل أن يصب في شارع المعز لدين الله. أري بكل
الوضوح الممكن بائع البليلة وماسح الأحذية والمصلين بجلاليبهم البيضاء وهم يغادرون
المسجد يتبادلون تحيات الوداع. أري في دفتر ذكرياتي كل هذا كما كنت أراه وأنا
محبوس في داخل المشربية في مساحة لا تزيد علي عشرين سنتيمترا مربعا، يعني كنت في
حجم طفل رضيع لا يتجاوز عمره شهور معدودة أو سنة علي الأكثر. عشت أتساءل إن كان
العلم استطاع تفسير هذه الظاهرة أم أنه ألقي بتبعتها علي خيالات خصبة أو، وهو
الأسوأ، علي هلوسات أطفال.
كل ما أتمناه الآن هو
ألا يأتي أو يصادفني ما يمكن أن يحرمني من متعة دقائق أقضيها بين الحين والآخر في
صحبة ذكرياتي.
(الشروق المصرية)