لم تكن فلسطين في القرن التاسع عشر بمنجاة من الأطماع الاستعمارية، فكانت هدفاً لكل الدول القوية في تلك الفترة. وكان للقناصل والقنصليات الغربية تأثير واضح في الحياة السياسية فيها. إلا أن التأثير الأعمق كان في الحياة الاجتماعية والثقافية التي استطاعت الدول الغربية الحفر بها من خلال الإرساليات التبشيرية والكنائس والمدارس.
ففي ظل الحاجة لمدارس تواكب العصر، وحاجة بعض الطوائف لمدارسها الخاصة، كان إنشاء المدارس في غرب المتوسط إحدى وسائل تحقيق الأطماع الغربية في مناطق الوجود العثماني. فأنشأت الدول الغربية (فرنسا وبريطانيا) منظوماتها السياسية والعسكرية مبكراً، ثم أتبعتها بالمنظومة الثقافية. أما ألمانيا وروسيا، فلم تدخلا المنطقة عسكرياً، فدخلتاها ثقافياً.
أنشأت الدولة الروسية السيمنار الروسي في الناصرة للصبيان، وبيت لحم للبنات. تخرج فيهما عدد من المعلمين في العهد العثماني، ثم الانتدابي، حيث بلغ عدد مدارس الجمعية الروسية الفلسطينية 114 مدرسة، وقد تخرج من هذا السيمنار عدد من معلمي عصر النهضة والمهجر وأدبائه وشعرائه، من أمثال ميخائيل نعيمة، ونسيب عريضة، وناصر عيسى، وإسكندر خوري البيتجالي، وخليل بيدس، ونعمة الصباغ، وسليم قبعين، وعبد المسيح حداد، وناصر رزق، وحنا أبو حنا وغيرهم..
هذا العدد والنوعية في المتخرجين، لا بد أن يكون تأثيره كبيراً في المجتمع الفلسطيني، خصوصاً أن هؤلاء الخريجين قادوا المجتمع الثقافي في حينه. إلا أن تأثيره لم يكن عدوانياً، بل كان مقبولاً ومسالماً في المجتمع الفلسطيني. بدليل أن من لم يهاجر من هؤلاء، عمل في مجتمعه وفي تعليم أبناء وطنه، وشارك في الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار لاحقاً. ومنهم تشكَّلت العبارة التي اتخذها الكتاب الصادر عن الشاعر نعمة الصباغ "طلائع أدباء عصر النهضة في فلسطين، نعمة سليمان الصباغ شاعر الناصرة الأول"، وكذلك كتاب حنا أبو حنا "طلائع النهضة في فلسطين، خريجو المدارس الروسية".
ونظراً لما كان للمعلمين في عهد الانتداب من دور في التوعية والقيادة، فقد لعب نعمة الصباغ وزملاؤه دوراً هاماً في هذا الاتجاه. سواء في المناهج أو العملية التعليمية أو الصحافة الفلسطينية أو تيار الأدب والشعر الناهض حديثاً في فلسطين.
من هو شاعرنا؟
هو نعمة سليمان الصباغ، شاعرٌ ومربٍ ولد في مدينة الناصرة عام 1886، درس الابتدائية في مدرسة البروتستانت في الناصرة، ثم انتسب إلى مدرسة الجمعية الامبراطورية الروسية الفلسطينية، المعروفة باسم السيمنار الروسي، وتخرج من دار المعلمين فيها سنة 1904. وعيَن بعد تخرجه مديراً للمدرسة الروسية الابتدائية في بلدة منارا في شمال لبنان خمس سنوات، ومنها إلى مدرسة كوسبا (الكورة) لخمس سنوات أخرى، ثم انتقل منها مديراً للمدرسة الروسية في أميون، وبقي فيها حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. (لاحظ تتابع الوظائف بينه وبين الشاعر ناصر العيسى الذي زامله في هذه الدراسة وتبادل معه المهمات في التعليم).
بعد الحرب الأولى عاد الصباغ إلى الناصرة عام 1918 وعين مديراً للمدرسة الأرثوذكسية فيها حتى عام 1921. بعدها ترك المدارس الروسية، والتحق بإدارة المعارف في حكومة فلسطين، فعُيِّن مديراً للمدرسة الأميرية في بلدة شفاعمرو. ثم عمل في القدس وبيت لحم مدة من الزمن عاد بعدها إلى الناصرة بعد أن أحيل على التقاعد عام 1941.
في سنة 1945 عُيّن مديراً لمدرسة الكاثوليك الأسقفية وكلية راهبات الناصرة في حيفا.. وظل فيها حتى نكبة 1948، حيث غادر البلاد تاركاً وراءه منزلاً ومكتبة عامرة، حافظت عليها شقيقته نعيمة بعد رحيله حتى وفاتها، وقيل إنها احترقت لاحقاً.
وإثر النكبة، عام 1948، لجأ إلى لبنان حيث اشتغل مديراً للقسم العربي في ثانوية بشمزين. ثم انتقل ليصبح أستاذاً للغة العربية في كلية طرابلس الشام وظل فيها اثني عشر عاماً، رحل بعدها إلى بيروت ليتفرغ للكتابة في الشعر والنثر. حتى توفي فيها 1971.
نشر شعرَه في صحف المهجر. مجلة "قرطبة" الصادرة في الأرجنتين، ومجلة "الفنون" الصادرة في نيويورك. كما نشر في صحيفة "النفائس" المصرية وغيرها من الصحف العربية.
يمتاز شعره بالرقّة والميل إلى التجديد في المعاني، بعيداً عن التقعّر في الألفاظ. نظم الشعر العمودي، وشعر الموشح، وأتقنهما، وبرع في استخدام حساب الجُمَّل لتأريخ بعض المناسبات، ما يدل على سعة اطلاعه، وإتقانه أساليب القدماء، وتمكّنه من علم العروض. ابتعد في كتابة النثر عن أسلوب السجع القديم، واتبع أسلوب نثر الحداثة الذي أخذ بالظهور مع بداية عصر النهضة في فلسطين. حسب كتاب "نعمة سليمان الصباغ.. شاعر الناصرة الأول (1885 ـ 1971)"، للدكتور هاني الصباغ. وهو الكتاب الذي يضم أعماله الشعرية والنثرية.
من جميل شعره الغزلي
سَلَاني ولم أسلُ الحبيب الذي أهوى .. فمن لي بمن لم أرضَ إلا به نجوى
لقد كنتُ أرجو كل يومٍ لقاءَهُ .. إذا أنا من حكم النوى أشتكي البلوى
وإني من فرطِ الأسى بعد تفجُّعٍ .. ولا أجد السلوى ويدني الشكوى
يقول لي العُذَّالُ أسرفتَ في الهوى .. فقلتُ أطيلوا العذلَ جسمي له رضوى
عُميتم عن اللذات حتى مع النوى .. فعيني من طيف الذي شفّني نشوى
طمعتُ بنيلِ الحب في القرب هانئاً .. وفي البعد لي من طعمه المنّ والسلوى
أراني وإن شطّ المزار منعَّماً .. يقود الأماني والأمان بها يُروى
أراقب غبَّ الليل صبحاً يلذُّ لي .. وفي الصبحِ للمسارين نعماؤهم تهوى
لقيتُ عذابي يمنح العذبَ كلّه .. فأهلاً بظلمٍ منه لا أرتضي الشروى
لك الله من قلبٍ يذوبُ صبابةً .. ولكنّه ما زال في حبّه أقوى
هنئتُ بمن أشتاقه الدهر كلَّهُ .. وأتلو به: سبحان مَن حسنَهُ سوَّى
*كاتب وشاعر فلسطيني
الشاعر ناصر جريس العيسى.. رحّالة فلسطيني من أجل التعليم
الزنط.. حارس ذاكرة فلسطين عاش غريبا ومات خارج عسقلان
خليل زقطان.. "صوت الجياع" وصرخة اللاجئين الفلسطينيين الثائرة