انتظر الجميع امتحان المجلس النيابي الأول ليس لأهمية المواقع المنتخبة بقدر أهمية المؤشرات التي ستسفر عنها هذه
الانتخابات داخل البرلمان، لتتوجه الأنظار بمعظمها لقوى
التغيير الجديدة التي تدخل للبرلمان حاملة شعار الثورة و"كلن يعني كلن".
انطلق نواب التغيير، كما تحلو لهم التسمية، من مرفأ بيروت في مشهد إعلامي معبر، ترافقهم ثلة جماهيرية في مشهد يعيدنا بالذاكرة إلى 17 تشرين وما بعده، إلا أن التحدي الحقيقي كان داخل البرلمان في هذه البيئة الجديدة على أفراد لم يعتادوها ولم يألفوا التعامل مع معضلاتها، وهو ما بدا جليا في الجلسة. كان النواب التغييرين يتحسسون المجلس في الوقت الذي ظهرت فيه النائبة بولا مدافعة عنهم وناطقة باسمهم، كونها كسبت خبرة المجلس في السنوات الماضية.
انطلقت الجلسة وكما هو متوقع، فعبّر نواب التغيير عن رفضهم للرئيس بري بالأوراق التي تحمل شعارات العدالة، ولكن دون جدوى بسبب عدم وجود مرشح غير الرئيس بري، فبدت النتيجة شبه طبيعية وكذلك موقف النواب المذكورين.
بدأت الإشكالية الأولى في جلسة انتخاب نائب الرئيس: ترشح لهذا المنصب كل من إلياس أبو صعب، مرشح التيار الوطني الحر و8 آذار وترشح، مقابل غسان سكاف عن جبهة 14 آذار، إذا صح التعبير، كون سكاف مستقلا ولكنه وصل للبرلمان على لائحة الحزب الاشتراكي في البقاع. في الدورة الأولى اقترعت قوى التغيير بورقة بيضاء، بينما عند احتدام المعركة في الدورة الثانية اقترعوا لسكاف وهو ما أثار موجة لغط كبيرة بين مؤيد ومعارض.
ليست إشكالية الاقتراع لسكاف في سكاف نفسه بل في صراع نهجين؛ الأول يقول بأن على نواب التغيير أن يعتبروا القوى السياسية
اللبنانية في كفة واحدة وبالتالي فأبو صعب كسكاف، إذا فالتحيز للأخير مرفوض من حيث المبدأ، وهذا نهج قسم من نواب التغيير. أما النهج الثاني فيقول بأن هذه الكتلة الجديدة هي كتلة سيادية أقرب للسياديين، أي جبهة 14 آذار، وبالتالي عند التخيير بين 8 و 14 آذار فيسختارون طرف 14 آذار.
هذا الاختلاف الموجود داخل كتلة التغيير نفسها يؤشر على اختلاف في فهم المسألة اللبنانية ومشكلة لبنان الرئيسية؛ بين من يعتبر أنها الدويلة داخل الدولة وبين من يعتبر بأنه الفساد القديم المتجدد. كما يبرز صراع آخر وهو آلية عمل هذه الكتلة داخل مجلس النواب، فهل هي قوة معارضة ثورية ستركز على المحافظة على صفائها وعلى معارضتها للجميع، وتشكل كتلة مواجهة فاضحة للجميع من دون الدخول في زواريب التحالفات السياسية؟ أم ستتحول لكتلة معارضة تفتح باب التحالفات مع الكتل الأخرى "على القطعة"، على أن تكون أقرب لـ14 آذار والسياديين كما بدا ذلك على سبيل المثال في تصريحات النائب وضاح الصادق؟ الخيار الأول يحافظ للكتلة على نقائها ويزيد شعبيتها من غير إنتاجية حقيقية ومن غير تأثير في مجلس النواب، أما الخيار الثاني فسيحول الكتلة إلى كتلة معارضة يفقدها نقاءها ويدخلها في زواريب السياسة ويفقدها شيئا من الشعبية، ولكن يجعلها أكثر إنتاجية.
أما في انتخابات أمانة السر وما بعدها فتشجع النواب المذكورون في البداية ورشحوا نائبين ليتراجعوا بعدها معترضين على النظام الطائفي، وفي هذا إشكالية ترتبط بالإشكاليات السابقة أيضا. فهل يريد النواب التغييرين تحدي النظام نفسه، وهو الذي تحت مظلته وصلوا للبرلمان، وتحدي توزيعاته الطائفية التي تسري على الصغيرة والكبيرة في البلد؟ ولماذا لم يفعلوا ذلك منذ البداية بترشيح غير شيعي لمنصب الرئيس وغير أرثوذوكسي لمنصب نائب الرئيس؟ وهل سيعتمدون هذا الخيار وإن لم يكن منتجا، فقط لوضع بداية تأسيسية للبنان لا طائفي؟ أم أنهم سيقبلون بقواعد اللعبة ويحاولون الحصول على أعلى المكاسب داخلها؟ يبدو التخيير هذا نفسه السابق ولكن بشكل مختلف، ويمكن التعبير بالمختصر: هل سيعتمد النواب التغييرون المنهج الثوري المؤسس غير المنتج، أم سيعتمد الثوار المنهج المعارض الأكثر إنتاجا والأكثر كلفة؟
سياق الجلسة والتغيير في قرارات الكتلة في وقت انعقادها وكلام التغييرين الأميل لقوى 14 آذار وكلامها عن ضرورة التنسيق بشكل أكبر بين القوى المعارضة، وخروج نواب آخرين من الكتلة التغييرية للحديث عن معارضتهم لانتخاب سكاف يعبر عن الصراع الداخلي القائم، وهو ما سينعكس أولا في جلسة اللجان القادمة أو حتى قبلها في شد الحبال بين النواب التغييرين أنفسهم.
في المحصلة وعلى صعيد المشهد السياسي اللبناني، ففي حال قررت قوى التغيير أن تلعب السياسة وتكون أقرب لـ14 آذار كما هو حال وليد جنبلاط، فإن ذلك سيشكل ضربة لحزب الله وحلفائه في البرلمان، ومغنما له على المدى الطويل ليصور لجماهيره بأن التغييرين ما هم إلا بابا خلفيا لـ14 آذار. أما في حال قرروا المضي في المنهج الثوري، إذا صح التعبير، فسيتمكن حزب الله من السيطرة كما حدث في اللقاء البرلماني الأول، وربما يستفيد الثوار على المدى الطويل.
تبدو كل الخيارات صعبة وتحتاج حقيقة لقرارات مؤلمة، إلا أن السياسة بشكل عام واللبنانية بشكل خاص عوّدتنا على "الرمادي" الذي من المتوقع أن ترزح تحته قوى الثورة؛ التي ربما سيصعب عليها أخذ قرار قد يوصلها للتفكك أو انعدام التأثير في حال ضاعت في خياراتها وأضاعت آمال التغيير معها.