عالم متخبط بلا رؤية، وكلها سياسات اقتصادية ارتجالية بحسب القطعة وبحسب الزبون السياسي والاقتصادي، وكأني بالعالم من أقصاه الى أقصاه يلفظ أنفاسه الأخيرة.. فمن قمة
دافوس المنعقدة على وقع الازمة الروسية-الأوكرانية تشعبت المدخلات بين صناع القرار، لكن في المحصلة الكل يجمع على أن
أزمات العالم آتية وربما هي أشد وطأة من أزمة الكساد الكبير 1929 وأزمة فقاعات الرهون العقارية 2008، والتي زلزلت اقتصاد العالم على ضفتيه الشمالية والجنوبية.
إن الملفت في دافوس وبرغم الأحاديث عن أزمة كوفيد- 19 وما سببته من آثار اقتصادية هائلة بلغت كلفتها عشرات مليارات الدولارات، إلا أن مضاعفات أزمة
الغذاء العالمي التي تجتاح آسيا وأفريقيا وتهدد بالمجاعة بحسب الأمم المتحدة ستزداد سوءا عندما يصبح رغيف الفقراء في البازار السياسي- الاقتصادي وحينما تلعب المواقع الجيو-سياسية لعبتها في حقول الثروات الأحفورية، لا سيما الغاز والنفط وتكون العقوبات بين الدول أشبه بمعاقبة الكوكب وناسه في زمن التداخلات والعولمة، حيث القرية الكونية الواحدة.
هذه القرية الكونية غدت ديونها ما يفوق 300 تريليون دولار، وكأني بالعالم يغرق شيئا في زمن اللا عدالة واللا توازن. هذا الكون الغارق بديونه لا بد من إعادة هيكلته وصيغة قانون دولي جديد، حيث تتمكن الدول البائسة والجالسة على قارعة الدول الكبرى تتسول وبفوائد عالية ظلما مرهقة شعوبها، في حين أن الديون تتركز في أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي.
لقد سجلت ديون دول العالم، مستوى قياسيا من الارتفاع لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية. ففي تقرير السياسة المالية الذي أصدره صندوق النقد الدولي عن شهر نيسان/ أبريل الماضي 2022، جاء أن حجم هذه الديون سيرتفع خلال هذا العام إلى 296 تريليون دولار أمريكي، أي ما يعادل 94.4 في المائة من إجمالي الناتج المحلى العالمي، بينما يتوقع معهد التمويل الدولي أن تتجاوز هذه الديون 300 تريليون دولار أمريكي بنهاية 2022.
وترى السيد الأمريكي غارقا بديون تفوق 30 تريليونا، أي عُشر ديون العالم!! فالولايات المتحدة الأمريكية قد دخلت بالفعل في كارثة اقتصادية لا يمكن السيطرة عليها، والتضخم المفرط أصبح مرئيا في الأفق، لأنه عندما يتجاوز التضخم 8 في المائة، سيبدأ هروب رأس المال من الأصول الدولارية إلى الذهب وغيره من الأصول الأخرى الملموسة، ما سيؤدى إلى مزيد من التضخم، مما أجبر ذلك الاحتياطي الفيدرالي على رفع سعر الفائدة على الدولار من أجل خفض التضخم، أو بمعنى أصح، فإن خفض التضخم حقا يتطلب رفع معدل سعر الفائدة إلى قيمة تتجاوز التضخم الحالي الذي فاق 8 في المائة.
أما التنين الصيني فقد بلغت ديونه 2.7 تريليون دولار في نهاية أيلول/ سبتمبر 2021، وأن نحو 47 في المائة من هذه الديون التزامات متوسطة إلى طويلة الأجل، وقد أضافت الصين 16.7 مليار دولار،= إلى ديونها الخارجية في الربع الثالث من 2021.
أما الأوروبيون فقد كشفت بيانات مكتب إحصاءات الاتحاد الأوروبي (يورو ستات)، عن ارتفاع ديون منطقة اليورو لتقفز من 1.24 تريليون يورو، إلى 11.1 تريليون العام الماضي، لتصل إلى 98 في المائة من الناتج المحلى الإجمالي لدول المنطقة البالغ عددها 19 دولة، وذلك بعد أن عمدت الحكومات الأوروبية إلى الاقتراض بكثافة، لإبقاء اقتصادها نشطا خلال إجراءات العزل بهدف مكافحة كوفيد- 19. فأي حق لهؤلاء في ضرب الدول النامية والناشئة والتحكم بزمام العطاء والمنع عبر المؤسسات التمويلية الدولية المعنية؟!
ومن دافوس وأحجية التمويل الدولي نفتح نافذة على
لبنان الغارق بالمآسي المتنوعة، آخرها ملف الكهرباء المتطاير بين سجالات أهل الحكم وإغراق اللبنانيين بمزيد من العتمة، في ظل الحديث عن أن إمكانية توفير ألفي ميغاواط ذهبت أدراج الرياح من جهة، ومن جهة أخرى عبر نتائج الانتخابات النيابية في مجلس اللا غالب واللا مغلوب؛ بين قوى تتصارع على وطن يكاد يندثر أو على شفير الاندثار، بعدما سقط في هاوية الديون التي قاربت المئة مليار دولار، وفجوة مالية تقارب 73 مليار دولار، وبطالة مستفحلة تقارب 45 في المائة ومعدلات فقر تجاوزت 80 في المائة، وأسعار سلع رئيسية فاق غلاؤها 1500 في المائة واقتصاد متهالك خسر ثلثي إيراداته (35 مليار) ونسب نمو بحسب المؤسسات الدولية حوالي 20 بالسالب.
وللأسف لا حياة لمن تنادي، فالناس في واد وأصحاب الشأن في واد إلا من المآسي القاتلة، والتي يفاقمها سعر الصرف حيث وصل إلى ما يفوق 36 الفا ولا ضوابط له ولا سقوف علما اننا حذرنا عبر
مقال نشر في "عربي21" من أن الدولار ذاهب إلى ما يفوق 45 ألفا في 10 تموز/ يوليو 2020، وعليه أن الحال يشي بمزيج من الجنون المالي والاقتصادي في زمن الودائع الضائعة، زمن "الهيركات" المقنع وغير القانوني واللا أخلاقي.
ولا أدري إن شهدت المعمورة مثاله من فاسدين ومفسدين ربما هم أدهى من الشياطين، إنه هيركات التعاميم (قص الشعر بالمفهوم المالي، أي اقتطاع جزء من الودائع المصرفية)، الهيركات المقنع الذي أكل ما أكل من ودائع الناس زورا وبهتانا ولم يكتف بعد، بحيث أنه لم يصل مع فاعليه ومدبريه والساكتين عنه إلى النقطة التي عندها يستطيعون ملائمة حلول وأرقام للبحث في الحل المنشود مع صندوق النقد والدول المانحة، علما أن خطة التعافي هربت في الجلسة الأخيرة للحكومة قبل أن تصبح حكومة تصريف أعمال؛ وعليه الخطة مع صندوق النقد ستكون حكما بشروطه المالية والاقتصادية والسياسية وربما أكثر!! فالحقيقة عبر التاريخ مع صندوق النقد تقول إن القوي يفرض والضعيف يستجيب، وما جرى مع تونس ليس ببعيد، والأرجنتين ومأساتها المالية حاضرة لمن يريد العبر، فهل من يلحظ شبكة أمان اجتماعية بحجم وجع الناس؟
إن الواضح للعيان يقول إن الفراغات في كثير من مؤسسات الدولة وإدارتها قادمة لا محالة، والخشية من الانفجار الاجتماعي باتت حقيقية والخوف كل الخوف على الوضع الأمني في الداخل، والخشية من التجاهل الدولي للبنان من الخارج في زمن العالم الغارق بديونه ومشاكله التي تفوق النظر إلى ظلم ووجع وتعب اللبنانيين المرهقين.
mmoussa@mees.com