ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها رئيس الانقلاب في مصر للتعبيرات الدينية وإسقاطها بصورة فجة على الواقع، بل إن حديثه عن حصار المسلمين الأوائل من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام في شعب أبي طالب هو مجرد حلقة جديدة في سلسلة خطابات دينية.
وعند تحليل خطابات الرجل، فإن من عدم المنطق استحضار المنطق في التحليل، إذ أن سياساته منذ الانقلاب حتى اليوم لا تنسجم مع أي عقلانية بما في ذلك ما يتطلبه استمرار حكمه وإمساكه بالسلطة، حيث أنه لا يقوم بأدنى معايير السياسة التي تساعد أي حاكم مستبد على الاستمرار بالحكم لأطول فترة ممكنة. ومع ذلك، دعونا نتحدث بالعقل وننسى للحظة أننا نعيش في "سرايا المجانين"!
يتحدث السيسي في كل مناسبة بلغة تقول بشكل غير مباشر ومباشر أحيانا إنه مكلف من الله للقيام بمهمته، ولعل سعد الدين الهلالي أول من مهد لهذه المقاربة عندما شبه -بوضوح- السيسي بموسى عليه السلام ووزير الداخلية مرتكب جريمة رابعة بالنبي هارون. فما الذي يريده السيسي من هذا الخطاب؟
عند تحليل خطابات الرجل، فإن من عدم المنطق استحضار المنطق في التحليل، إذ أن سياساته منذ الانقلاب حتى اليوم لا تنسجم مع أي عقلانية بما في ذلك ما يتطلبه استمرار حكمه وإمساكه بالسلطة، حيث أنه لا يقوم بأدنى معايير السياسة التي تساعد أي حاكم مستبد على الاستمرار بالحكم لأطول فترة ممكنة
ينسى السيسي في محاولته البائسة للتشبه بالسادات، أن الأخير -رغم كل خطاياه السياسية وأهمها معاهدة كامب ديفيد- بنى شرعيته على عدة عوامل، وليس فقط على "أسطورة" الرئيس المؤمن، فهو من الضباط الأحرار وملقي بيان ثورة 1952، وصانع انتصار أكتوبر 1973. أما السيسي فلا يمتلك لا شرعية تاريخية، ولا انتصارات حربية -سوى انتصاره على شعبه في مجزرة رابعة والنهضة!- ولا حتى إمكانيات شخصية قيادية تؤهله للتشبه بالسادات.
في جانب آخر، يبدو أن السيسي يراهن على تدين الشعب المصري الفطري، مسلمين ومسيحيين، لتحويل النقاش العام من السياسي والاقتصادي للديني. فشلت سياساته خلال تسع سنوات بتحقيق أي إنجازات اقتصادية ومعيشية، اللهم باستثناء "المشاريع الكبرى" التي يستفيد منها الكبار وشركات الجيش، فيما ترتفع مؤشرات التضخم والبطالة والفقر كل عام. هذا الفشل جعله يبحث عن "شرعية" مفقودة، إذ أن القمع والقتل والاعتقال لا يمكن أن تشكل لوحدها شرعية مستدامة مهما كانت قوة النظام، وهو يعتقد أن الشرعية الدينية ربما تملأ هذا الفراغ، فزاد من خطابه الديني للجمهور في طلعاته الكثيرة بمناسبة ودون مناسبة.
ترتفع مؤشرات التضخم والبطالة والفقر كل عام. هذا الفشل جعله يبحث عن "شرعية" مفقودة، إذ أن القمع والقتل والاعتقال لا يمكن أن تشكل لوحدها شرعية مستدامة مهما كانت قوة النظام، وهو يعتقد أن الشرعية الدينية ربما تملأ هذا الفراغ، فزاد من خطابه الديني للجمهور في طلعاته الكثيرة بمناسبة ودون مناسبة
عقدة الإخوان هذه تجعل السيسي حريصا على منافستهم على الفضاء الديني، لأنه يدرك أن التدين الطبيعي في النهاية قد يتحول لتأثير سياسي في شعوب المنطقة جميعها وليس مصر فقط، ولذلك فإنه يريد أن يكون نتاج هذه الطاقة الدينية لصالحه وليس لصالح خصومه/ الإخوان.
يرتكب السيسي خطأ فادحا بهذه السياسة، لسببين: الأول أن الإخوان أقدر منه على الخطاب الديني لأنهم ينطلقون من قناعة حقيقية به، حتى لو اختلطت هذه القناعة بمصلحة سياسية، بينما يتحرك هو انطلاقا من المصلحة البحتة، دون أن نشكك هنا بقناعاته الدينية -فليس هذا هو موضوعنا- بل المقصود أنه انقلب في بداية الأمر على الرئيس المنتخب شرعيا بذريعة تخليص البلاد من جماعة دينية، فإذا به يتحول هو نفسه لجماعة دينية!
أثبت السيسي في تضخيمه للخطاب الديني أنه لم يفشل فقط بالسياسة والاقتصاد، بل إنه فشل أيضا في سحق "رواية" خصمه الرئيسي، إذ أن الناس إذا خُيِّروا بين خطاب ديني من سلطة فاشلة ومثله من معارضة مستضعفة، فإنهم سينحازون للمعارضة بلا شك
أما السبب الثاني، فهو أن الناس لا يحبون "الدين الذي يرتبط بالسلطة"، فكيف إذا أصبحت السلطة نفسها هي الدين؟! يقبل الناس على الحركات الإسلامية لأنها تمثل ضميرهم في المعارضة، وتعبر عن المأمول لا الممكن، وعن الأحلام لا الواقع. أما عندما تصبح هذه الحركات هي السلطة فإن الناس يبحثون عن الإجابات التي تغير واقعهم، لا عن خطابات تعبر عن ضميرهم. دور السلطة هو أن تحكم وأن تحل مشكلات الناس، أما الخطاب الديني/ السياسي فدوره هو التعبير عن المثال الذي سيظل البشر يحلمون به حتى يرث الله الأرض وما عليها.
أثبت السيسي في تضخيمه للخطاب الديني أنه لم يفشل فقط بالسياسة والاقتصاد، بل إنه فشل أيضا في سحق "رواية" خصمه الرئيسي، إذ أن الناس إذا خُيِّروا بين خطاب ديني من سلطة فاشلة ومثله من معارضة مستضعفة، فإنهم سينحازون للمعارضة بلا شك.. ومن مأمنه يؤتى الحذر!
لماذا تتعثر جهود مصر في مواجهة التمرد الجهادي في سيناء؟