قال رئيس الحركة
الإسلامية في الأراضي
الفلسطينية المحتلة، عام 1948،
الشيخ رائد صلاح، إنه وجد
صعوبة، خلال إحدى المقابلات في رثاء الصحفية
شيرين أبو عاقلة التي قتلتها قوات
الاحتلال، خلال تغطية اقتحام لمخيم جنين قبل نحو أسبوع.
وأشار صلاح في مقال له
بموقع الجرمق الفلسطيني، إلى أن شيرين، كانت "ملتزمة بأمانة شعبها قبل أن
تكون ملتزمة بأمانة مهنيتها، وكانت منتصرة لجذور هويتها وقضيتها قبل أن تكون
منتصرة لبطاقة قناتها الإعلامية، وكانت تتغذى من قوتنا وقوت طابوننا وزيتنا
وزعترنا ولبننا وكعكنا، قبل أن تتغذى من قوت وفائها لوظيفتها بجدارة".
وفي ما يلي النص الكامل
للمقال:
عرفتُ هذه الأيقونة من
أيقونات الإعلام الفلسطيني شيرين أبو عاقلة من خلال حملي لجرح النكبة، وحملي
لمأساة القدس والمسجد الأقصى المباركين، وحملي لصبر أسرى الحرية، وآلام أهلنا في
النقب، ومعاناة أهلنا في المدن الساحلية، وصمود أهلنا في الجليل والمثلث، ومن خلال
حملي لنزيف الأرض والبيت والمقدسات، وأوجاع الخيام واللاجئين، وأنين الأرامل
والأيتام، وإشراقة وجه الطفولة الفلسطينية انتظارا لفجر صادق قادم، يبدّد ظلام ليل
الظلم والظالمين والمحتلين والمفسدين.
عرفت هذه الأيقونة
شيرين عبر هذه المحطات النابضة بالألم والأمل، والكرب والفرج، والعسر واليسر،
والحصار والتفاؤل، والدموع والابتسامات، فوجدت أنها يوم أن كانت تسألني أي سؤال
خلال أية مقابلة معي لم تسألني بنبرة الإعلامية الرسمية التي تقوم بواجبها المهني
الإعلامي الجاف من المشاعر، بل كانت تسألني وهي تحمل همّي وغمّي، وسقمي وصداعي، وزفراتي
وعبراتي، وأنا على يقين أنه هكذا كان حالها عندما أجرت لقاء مع أمي عندما كنت في
سجني، وهكذا كان حالها عندما كانت تجري اللقاء بعد اللقاء، مع الكهل الصابر،
والطفل الشريد، والأم الحنون، والزوج المكلومة، والابن المتحسر، والابنة الثاكل،
والجريح الدامي، والمظلوم المستضعف، والجائع الكسير، والمطارد المرصود، وهكذا كان
حالها عندما كانت تجري اللقاء مع التين والزيتون، ومع حواكير اللوز، وبيادر القمح
والشعير، وهضاب الخروب والبلوط، وأودية السريس والصّبار، وأطلال العودة، وبقايا
دمار البيوت والمساجد والكنائس، في أكثر من خمسمائة قرية فلسطينية مدمرة وغارقة
بغربتها على امتداد الجليل والمثلث والكرمل والنقب وأكناف القدس المباركة، ونجوع
عكا وحيفا ويافا واللد والرملة.
لكل ذلك فقد كانت هذه
الأيقونة شيرين صوت كل صوت فينا، لقد كانت صوت الضعفاء والفقراء، وصوت المعذبين ما
بين غزة والضفة الغربية والشتات، وصوت المظلومين الذين أريد لهم أن يتألموا بصمت،
وأن يتضوروا جوعا بصمت، وأن تجف حلوقهم عطشا بصمت، وأن تلذع ظهورهم سياط القريب
والبعيد بصمت، وأن تخنقهم الحسرة والصدمة بصمت، فكانت هذه الأيقونة شيرين نبض كل
واحد منهم، وفي قلب كل واحد منهم، وعلى لسان كل واحد منهم، ومداد قلم كل واحد منهم.
ولأنها كانت كذلك، فقد
كانت مظلة المكشوفين للهيب الشمس الحارقة، وزمهرير المطر المنهمر، وزئير الزوابع
الشريرة، فوجدت في هذه الأيقونة شيرين القاسم المشترك لكل تعدديتنا في الداخل
الفلسطيني، والقاسم المشترك لكل الفصائل الفلسطينية في كافة أماكن تواجدها،
والقاسم المشترك لكل نوازل ثوابتنا.
لدرجة أن كل واحد من
هذه المكوّنات كان يظن أن هذه الأيقونة شيرين كانت منحازة له، والحقيقة التي لا
مراء فيها أنها كانت منحازة للجميع وبعيدا عن المبالغة والمجاملة والإطراء والمراء،
أؤكد أنها عاشت طوال مشوارها الإعلامي وبيدها سماعة صوتها ومن خلفها آلة تصويرها،
وفوق رأسها أضواء التنقيب عن الحقيقة كيما تنتصر للحقيقة، وكيما تخلع كل قناع عن
كل وجه محتل ومستعمر ومستبد ومفسد ومنبطح ومتخلف، وكيما تواصل رفع لواء كرامة
شعبنا وبيرق حريته، وراية قضيته العادلة.
مما يعني أن هذه
الأيقونة شيرين كانت ملتزمة بأمانة شعبها قبل أن تكون ملتزمة بأمانة مهنيتها،
وكانت منتصرة لجذور هويتها وقضيتها قبل أن تكون منتصرة لبطاقة قناتها الإعلامية،
وكانت تتغذى من قوتنا وقوت طابوننا وزيتنا وزعترنا ولبننا وكعكنا، قبل أن تتغذى من
قوت وفائها لوظيفتها بجدارة.
هكذا كانت هذه
الأيقونة شيرين، ويستوقفني فيها صفاء إنسانيتها، فقد حظيت بشهرة نادرة، لم يحظ بها
إلا النادرون من إعلاميي أهل الأرض، وتردد اسمها في قناة الجزيرة الإخبارية،
والجزيرة مباشر، والجزيرة الوثائقية وتردد اسمها في صالونات الإعلام المحلية
والعالمية، وظلّت شيرين هي شيرين بتواضعها، وعفوية نبرتها البعيدة عن التكلف،
وبِسَمتِ ظهورها على الشاشة البريء كل البراءة من التصنع والتملق والتمثيل
والتقليد، وظلت على هذا الحال حتى فجعت وفجع الجميع بفاجعتها. وكم شرفت بلقاءات
كثيرة في الجزيرة، إلا أن أصعب لقاء فيها كان قبل أيام عندما قيل لي: استعد كي
تنعى هذه الأيقونة شيرين. فقلت في نفسي: من أين لي الكلمات التي سأنعى بها هذه
الأيقونة، ومن أين لي الجمل التي سأعبر فيها عن فيض مشاعري، ومن أين لي الفصاحة
التي سأكشف فيها عن وزن شيرين هذه الأيقونة الإعلامية التي عرفتها، ومع ذلك استعنت
بالله تعالى وتوكلت عليه وأجريت ذاك اللقاء وأنا خائف ألا يفيها رثائي حقها.
وكم لفت انتباهي قول
تلك الإعلامية الفلسطينية الواعدة التي تحدثت من على منبر الجزيرة وقالت مؤكدة لنا
إنها عرفت منذ طفولتها شيرين أبو عاقلة، وحفظت غيبا جملة شيرين المشهورة: (شيرين
أبو عاقلة، رام الله، فلسطين) وممّا لفت انتباهي أكثر أنني كنت قبل أيام في بلدة
البعنة التي تتربع على قمم جبال شامخة من جبال الجليل، فسمعت الحكاية نفسها على
لسان شاب من تلك البلدة لا يزال يردد منذ طفولته جملة شيرين المشهورة: (شيرين أبو
عاقلة، رام الله، فلسطين)، فهيهات هيهات أن ينال منك الاحتلال
الإسرائيلي بكل
رصاصه أيتها الأيقونة شيرين، وهيهات أن ينال منك حتى لو أسقط نعشك على الأرض،
وهيهات أن يخرس صوتك فقد تركت خلفك مدرسة إعلامية عالمية اسمها مدرسة شيرين أبو
عاقلة، فوداعا أيتها الأيقونة شيرين.