أن يحتفي المغرب بقرار الحكومة الإسبانية اعتماد مقاربته بالصحراء باعتبارها "الأساس الأكثر جدية ومصداقية وواقعية لحل هذا النزاع"، مع التنصيص على "احترام الوحدة الترابية للبلدين" أمر مفهوم. وأن تشهد الساحة السياسية والإعلامية بشبه الجزيرة الإيبرية نقاشا حادا حول الموقف الحكومي "الجديد" بين مؤيد ومعارض أمر مفهوم. وأن تصدر الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (بوليساريو) بيانا يندد بالموقف المعبر عنه، باعتباره "خطأ فادحا" و "خضوعا للابتزاز المغربي" فأمر مفهوم مفهوم.
انقلاب مفاجئ!
أما أن تبادر الحكومة الجزائرية إلى اعتبار موقف دولة ذات سيادة من ملف إقليمي ودولي "انقلابا مفاجئا"، وأن تسارع إلى استدعاء سفيرها في مدريد للتشاور، فأمر غريب ينم عن بوصلة ديبلوماسية مفقودة تراكم "الهزائم" الديبلوماسية، لكنها تكابر وتصعد ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. وجه الغرابة أن الدولة الجزائرية لطالما دافعت عن عدم كونها طرفا في النزاع، وهو ما أكدته بموقفها من القرار الأممي الذي تبناه مجلس الأمن تحت رقم 2602 نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وحمل دعوة للأطراف المعنية، بما فيها الجارة الشرقية للمغرب، إلى العودة لصيغة المفاوضات المباشرة، وهو ما رفضته الخارجية الجزائرية، واعتبرته قرارا "متحيزا يفتقر بشدة إلى المسؤولية والتبصر جراء الضغوطات المؤسفة، الممارسة من قبل بعض الأعضاء المؤثرين في المجلس".
كانت إسبانيا وقتها خارج دائرة الأعضاء المؤثرين المساندين للطرح المغربي، لكنها اليوم أقرب ما تكون إلى المدافع الشرس عن خيار الحكم الذاتي والحل السياسي، بعيدا عن وهم الاستفتاء وتقرير المصير. هنا مكمن الخطورة بالنسبة للسياسة الخارجية الجزائرية، ولأجل ذلك كان الصراخ المنبعث من حكومة وأحزاب وصحافة الإخوة بالجزائر مسموعا، يشي بمدى الألم الذي ألم بالجهد المبذول على طوال عقود وتكثف في الشهور الأخيرة، لعل ذلك يوقف زحف الاعتراف الدولي بالحكم الذاتي لمناطق الصحراء حلا "أوحد"، يمكنه إنهاء صراع دام أكثر مما ينبغي له أن يدوم.
اليوم تعود السفيرة المغربية كريمة بنيعيش لسفارتها في مدريد، بعد أن انتهت مرحلة التشاور التي استعيت لأجلها إلى الرباط، وفي الآن ذاته يعود السفير الجزائري سعيد موسى إلى بلاده للتشاور في انتظار عودة أكيدة، نتطلع لمعرفة شروطها وسياقاتها؛ فباب "المساومة" و"الابتزاز" مفتوح.
قد يكون قرار دونالد ترامب الاعتراف، ومعه الولايات المتحدة الأمريكية ومؤسساتها، بمغربية الصحراء أمرا مفاجئا وذا تأثير كبير بالنظر لما تمثله واشنطن من وزن ديبلوماسي وعسكري. لكن ارتباطه بخطوات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، منح "أعداء" الوحدة الترابية للمغرب فرصة مواتية للضرب فيه والتشكيك في نواياه. لكن الموقف الإسباني الأخير، أتى في فترة بدت فيه الحاجة للجزائر وغازها أثمن من أن يتم التضحية به لحساب جار يفترض، والحالة هذه، أن يعيش انحسارا ديبلوماسيا لافتقاده أدوات التأثير على المجتمع الدولي، وهو يعيش على وقع مواجهة عسكرية مع الدب الروسي وما سينتج عنها من توابع ونتائج لم يشهد العالم لها مثيلا منذ عقود. وهو ما يمنح التخوف الجزائري من توابع "الزلزال" الإسباني مشروعيته، وهي التي سعت دوما لتقويض أي تقارب بين البلدين حول الموضوع.
أهمية الموقف الحكومي الإسباني، تكمن في الأساس في تكسيره لحالة "الإجماع" الداخلي حول مسؤولية إسبانيا الفرنكوية فيما آلت إليه الأوضاع بالصحراء، بعد "تسليمها" للمغرب بعد مفاوضات مدريد وحدث المسيرة الخضراء. لأجل ذلك، اعتبرت عدد من المواقف المعبر عنها رسالة بيدرو سانشير لملك المغرب "خيانة تاريخية ثانية للشعب الصحراوي بعد اتفاقية 1975 الكارثية".
وعندما تصطف القوة الاستعمارية السابقة، التي يعتبرها الإعلام الجزائري وبيانات البوليساريو قوة مديرة سابقة للمنطقة مقابل مصطلح المحتل المغربي، إلى جانب مقترح الحكم الذاتي، وهي التي كانت على الدوام مساندا لطرح الاستفتاء المفضي لتقرير المصير، فإن التوازنات تختل فعليا، خصوصا أن إسبانيا عضو فاعل في مجموعة أصدقاء الصحراء التي تتولى صياغة مختلف قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن الصحراء. وعندما تنضم إسبانيا لفرنسا والولايات المتحدة وهما فاعلان أساسيان في المجموعة نفسها، ويتبنيان التوجه الإسباني الجديد نفسه، فالقرارات الأممية القادمة ستكتب، حسب الجزائر، من محبرة المخزن وبمداد مهادن، بل داعم للـ"محتل" المغربي.
ثاني المخاوف الجزائرية، يأتي من توجسها من أن تكون رسالة بيدرو سانشير محركا مسرعا لتبني مختلف الدول الفاعلة دوليا لوجهة النظر المغربية، خصوصا بعد ترحيب الاتحاد الأوروبي بالتقارب المغربي الإسباني. ألمانيا ما بعد ميركل تبنت ذات التوجه في انتظار التحاق يبدو قريبا لبريطانيا، التي تمكن المغرب من توثيق العلاقات بها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، متوجها ذلك التقارب بخط بحري لنقل الطاقة النظيفة مباشرة لمنازل البريطانيين. وإذا اعتبرنا توجه الرباط مؤخرا لدول أوروبا الشرقية وتحقيقه اختراقا واضحا، فإن تغييرا محتملا في الموقف الروسي، بعد الحرب بأوكرانيا، إن تحقق، سيشكل طلقة الرحمة الأخيرة في وهم الانفصال وأحلام داعميه.
عواقب خارج المحيط الإقليمي
ارتدادات رسالة رئيس الوزراء الإسباني ستكون لها عواقب خارج المحيط الإقليمي. لأجل ذلك، لا تدخر الجزائر جهدا في السعي لتقويض المحاولات المغربية المستمرة في ترسيخ المعادلة الجديدة التي أعلنها الملك في خطاباته الأخيرة، بربط أي تعاملات اقتصادية تفضيلية مع البلاد على أساس الخروج من المنطقة الرمادية والوضوح في المواقف إزاء القضية التي اعترفت إسبانيا من خلال رسالة سانشير بـ"أهميتها" للدولة المغربية. فالإدعاء، كما كان الحال مع ترامب، أن ما جاء على لسان سانشير مجرد تصرف شخصي محاولة واهنة لتصريف "الهزيمة" للداخل، فمواقف رؤساء حكومات ووزراء خارجية سابقين ورؤساء حكومات سبتة ومليلية وغيرهما من المسؤولين المحليين، يؤكد أن القرار قرار دولة تأخر اتخاذه لسنوات، بل إن مواقف أحزاب اليمين وحزب بوديموس، المشارك في الحكومة، لا تعدو أن تكون مجرد مزايدات انتخابية تصطدم بصخرة أزمات داخلية وإقليمية دولية، لا يمكن لإسبانيا أن تخرج منها سالمة إلا بالتعاون مع حلفاء في الجوار أقوياء وموثوقين.
ازدهار المغرب مرتبط بمصير إسبانيا والعكس صحيح، جملة حملت أكثر من دلالة في رسالة رئيس الوزراء الإسباني، وحديث رئيس الوزراء الأسبق خوسي ماريا أثنار عن المغرب كـ"تهديد حقيقي لا يمكن الرد عليه إلا عسكريا" حنين لماض كان فيه حشد القوات، من أجل صخرة يحرك القوى الدولية للتوسط وتفادي التصعيد.
نجاح المغرب المتواصل في بسط أوراقه التفاوضية واللعب على تناقضات التوازنات الدولية، يضع الجزائر في الزاوية بعيدا عن حالة "الإجماع" التي صارت تتشكل وراء الطرح المغربي في الدول العربية وفي أفريقيا وأوروبا، وبقية المناطق التي كانت ذات زمان مناطق نفوذ الديبلوماسية الجزائرية في غياب التأثير المغربي.
الأهمية الاستراتيجية لمغرب اليوم، لم تعد بمستوى ما كانت عليه بداية الألفية. ولعل في رفع الاتحاد الأوروبي لقيمة استثماراته المرتقبة بالبلاد في إطار مشروع البوابة العالمية من أقل من ملياري دولار إلى تسعة ملايير دولار، في ظرف شهر، مؤشر واضح على الأهمية التي صارت الرباط تمثلها في وقت انحسرت فيه الفرص، وصار تصدير الأزمات العملة الرائجة في العلاقات الدولية المقبلة على إعادة فرز وترتيب. فما الذي قد يفسر إقدام إسبانيا على خطوة هي أقرب من المغامرة بمصالحها الطاقية والاقتصادية في هذه المرحلة بالذات، غير قراءة واقعية لمسار جيوسياسي واقتصادي قيد التشكل لمرحلة ما بعد الحرب بأوكرانيا يجعل من الغاز، كما كان البترول، مسألة دولية لم يعد للأقطار المنتجة ترف الانفراد بالتحكم فيه.
نجاح المغرب المتواصل في بسط أوراقه التفاوضية واللعب على تناقضات التوازنات الدولية، يضع الجزائر في الزاوية بعيدا عن حالة "الإجماع" التي صارت تتشكل وراء الطرح المغربي في الدول العربية وفي أفريقيا وأوروبا، وبقية المناطق التي كانت ذات زمان مناطق نفوذ الديبلوماسية الجزائرية في غياب التأثير المغربي. الاختباء وراء "الابتزاز" المغربي حجة ضد مروجيها، فما المانع من أن تمارس الجزائر "ابتزاز" المواقف المؤيدة لطروحاتها، وهي المالكة للنفوذ والوزن الدوليين باعتبارها "قوة ضاربة" على رأي الرئيس عبد المجيد تبون؟
يبدو أن إشكالية السياسة الخارجية الجزائرية تتلخص في عدم قدرتها الخروج من حالة إنكار التغيرات التي شهدها العالم بعد سقوط جدار برلين، فمحبرة البيانات هي نفسها، والألفاظ المستخدمة بقيت صامدة في وجه الزمن، والأساليب المستخدمة كما هي لا تتغير. وفي وضع انحسار كهذا، تبقى المغامرة هي الحل الوحيد أمام المنحسرين، لعل ذلك يسهم في خلط الأوراق. جربت الجزائر ذلك بقطع العلاقات والإيعاز لقيادة البوليساريو بتصوير أفلام الحرب، على الحدود على أن يتكفل التلفزيون الجزائري ببثها والوكالة الرسمية بنقل أخبارها/أكاذيبها. لقد جربت وفشلت حتى الآن، لكن لا أحد يضمن ما في جعبتها من مفاجآت.
اليوم تعود السفيرة المغربية كريمة بنيعيش لسفارتها في مدريد، بعد أن انتهت مرحلة التشاور التي استعيت لأجلها إلى الرباط، وفي الآن ذاته يعود السفير الجزائري سعيد موسى إلى بلاده للتشاور في انتظار عودة أكيدة، نتطلع لمعرفة شروطها وسياقاتها؛ فباب "المساومة" و"الابتزاز" مفتوح.
اتفاقية بودابست 1994.. الحياد لم يكن ليحمي أوكرانيا من العدوان الروسي
هل ورّط بوتين روسيا في أوكرانيا؟