سياسة دولية

"MEE": بايدن نسي درس تجربة نيكسون مع الصين

دبلوماسي إيطالي سابق: إدارة بايدن للأمور حتى الآن لم تزل مخيبة للآمال- جيتي

نشر موقع "ميدل إيست آي" البريطاني (Middle East Eye)، مقالا للدبلوماسي الإيطالي السابق ومبعوث بلاده للسلام في سوريا والشرق الأوسط، ماركو كارنيلوس، ربط فيه بين السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي جو بايدن، خاصة في أزمتي أوكرانيا وتايوان، وتجربة الرئيس نيكسون مع الصين قبل خمسين عاما.

 

وقال كارنيلوس، في المقال الذي ترجمته "عربي21"، إن إدارة بايدن للأمور حتى الآن لم تزل مخيبة للآمال؛ فأوروبا فيما يبدو تقف على شفا هاوية حرب حول أوكرانيا، وبلغت التوترات بشأن تايوان وبحر جنوب الصين أوجا جديدا لها، بينما كان الانسحاب من أفغانستان كارثيا بكل ما تعنيه الكلمة، ولم يتم التنسيق له مع الحلفاء الكبار.

 

وأضاف: "رغم أنه ليس من الإنصاف تحميل المسؤولية عن هذه الفوضى على عاتق بايدن وحده، لكن من غير المعقول اعتبار الغرب ضحية للسياسات التي ينتهجها دكتاتوريون في روسيا والصين".

 

وتاليا نص المقال: 

 

قبل خمسين عاما، في الحادي والعشرين من شباط/ فبراير من عام 1972، وصل نيكسون إلى بيجينغ، فكان وصوله مؤشرا على حدوث تحول تاريخي في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. كانت زيارته هي الأولى التي يقوم بها رئيس أمريكي إلى الصين الشيوعية. كانت النتائج الجغرافية لذلك الحدث عظيمة.  
 
كانت تلك هي ذروة المناورة الدبلوماسية الذكية التي قام بها هنري كيسنغر لتسهيل خروج الولايات المتحدة من حرب فيتنام واستغلال الانقسامات العميقة التي كانت قائمة بين الاتحاد السوفياتي والصين ضمن إطار الحرب الباردة.
 
وضعت تلك المفاتحات الأمريكية تجاه الصين الأساسات التي قامت عليها التحولات التأريخية في فترة الانتقال من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين، وعلى رأسها انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة ونهوض الصين. بينما أكد التحول الأول مكانة الولايات المتحدة وهيمنتها على العالم بدون منازع فإن التحول الثاني هو الذي يعمل حالياً على تقويض تلك المكانة وينال من تلك الهيمنة.
 
بعد خمسين عاماً، تغير المشهد الاستراتيجي لدرجة أنه لم يعد بالإمكان التعرف عليه. فالصين وروسيا الآن متحالفان بقوة ويتحديان معاً النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة بناء على قواعد هي التي أرستها، بينما تبدو الولايات المتحدة قوة متقهقرة، مصداقيتها مهترئة، مرهقة عسكرياً – وقد أضعفتها الحروب الطويلة التي تشن بلا طائل – مثقلة بالديون، وتعاني داخلياً من حالة من الاستقطاب العميق، وتجهد بصعوبة بالغة للتعافي من وعكة داخلية توشك أن تتحول إلى أزمة دستورية. وأخيراً وليس آخراً، مازالت تجد صعوبة بالغة في التعامل مع التداعيات الصحية والاقتصادية الشديدة التي نجمت عن جائحة كوفيد-19.  
 
ثمة نزاع الآن في الولايات المتحدة حول ما شهدته عقود من العولمة، والتي اعتبرت في البداية نظاماً عالمياً جديداً، ثم تبين أنها قائمة على سلاسل التوريد والتجارة الأمريكية الصينية. وها هما، واشنطن وبيجينغ، تتجهان نحو الفصل المكلف والمؤلم لسلاسل التوريد والتجارة بينهما، وغدتا تتنافسان تقريباً على كل شيء، وبشكل خاص داخل القطاعات التي تدخل فيها التقنيات العالية.
 
كما تجدهما على طرفي نقيض إزاء القضايا المتعلقة بتايوان وهونغ كونغ وبحر جنوب الصين والأمن السيبراني. وعادت الولايات المتحدة وروسيا إلى خوض حرب باردة شرسة، حتى باتا في مواجهة بعضهما البعض، وبشكل بالغ الخطورة، حول توسيع إطار الناتو شرقاً وحول مستقبل أوكرانيا، وكذلك إزاء مستقبل الهيكلة الأمنية لأوروبا. أما الاتحاد الأوروبي، فيبدو تائهاً، يبحث بإلحاح عن سبب يبرر وجوده، بينما يعاني من انقسام عميق حول كيفية التجاوب مع هذه التوترات.
 
نهاية الهيمنة الأمريكية
 
تم الآن بشكل رمزي إغلاق نوافذ الاختراق الدبلوماسي التاريخي التي فتحتها زيارة نيكسون – بل وحصل تراجع فعلي عن ذلك الإنجاز عندما شهدت بيجينغ في الرابع من فبراير / شباط 2022 إصدار الزعيمين الصيني والروسي، شي جين بينغ وفلاديمير بوتين، بياناً مشتركاً غير مسبوق يتكون مما يقرب من ستة آلاف كلمة يتحديان فيه كل الفرضيات التي تأسس عليها النظام العالمي الحالي بزعامة الولايات المتحدة وبناء على قواعد هي التي وضعتها.
 
قدم البيان رؤية راديكالية بديلة لنظام عالمي متعدد الأقطاب ومتحرر من الزعامة الأمريكية.
 
إليكم ههنا مقتطفات من البيان، تم فك شفرتها بعناية:
 
"يمر العالم بتغيرات جليلة ... تحول تركيبة الحكم العالمي والنظام الدولي ... وبروز توجه نحو إعادة توزيع القوة في العالم."
 
ترجمة ذلك: لقد انتهت الهيمنة الأمريكية الغربية على العالم.
 
"الديمقراطية قيمة إنسانية عالمية وليست امتيازاً لعدد محدود من الدول، ونشرها وحمايتها مسؤولية مشتركة تناط بالمجتمع العالمي بأسره."
 
ترجمة ذلك: ليس بإمكان الولايات المتحدة والبلدان الغربية أن تقرر بمفردها ما هي الديمقراطية وليس بإمكانها الترويج لها بناء على رؤاها الخاصة بها.
 
"الديمقراطية وسيلة يشارك من خلالها المواطنون في حكم بلدهم بهدف تحسين الظروف المعيشية لسكان البلد."
 
ترجمة ذلك: الديمقراطية أكثر من مجرد إجراء الانتخابات وحماية حقوق الإنسان.
 
"لا يوجد نموذج يناسب جميع المقاسات لتوجيه البلدان نحو إقامة الديمقراطية."
 
ترجمة ذلك: النموذج الغربي النيوليبرالي ليس عالمياً ولا يحق له ادعاء ذلك.
 
والخلاصة هي أن الوثيقة لم تترك قضية من القضايا الدولية الرئيسية إلا ومرت عليها. والآن تساند الصين وروسيا كلا منهما الآخر في أزمتين رئيسيتين: أوكرانيا وتايوان. وتعارضان المحاولات الأمريكية والغربية لدعم الثورات الملونة وتغيير الأنظمة الحاكمة وإحاطتهما بمنظومة من التحالفات.
 
وهما على ثقة بأن العوامل الرئيسية التي ستدفع قدماً نحو الأمام ستكون في أوراسيا بغض النظر عما تؤمن به الولايات المتحدة أو لا تؤمن به.
 
خطأ استراتيجي في التقدير
 

فيما لو، وحينما، وكيفما تنتقل روسيا والصين من الكلمات إلى الأعمال في تطبيق رؤيتهما، ربما نشهد اللحظات الجيوسياسية الحاسمة التي ستميز القرن الحادي والعشرين. هناك جدل حامي الوطيس في الغرب حول من ينبغي أن يوجه إليه اللوم على حدوث مثل هذا التحول الدراماتيكي في الأحداث.
 
بعد فترة دونالد ترامب المرتبكة وسياساته غير الناضجة وغير الفعالة بالمجمل، أدت إدارة جديدة في الولايات المتحدة القسم في يناير من العام الماضي وهي تفاخر بما لديها من خبرات ومؤهلات، فالرئيس هو السياسي المخضرم جو بايدن ومساعدوه هم من أصحاب الخبرات المشهود لهم في السياسة الخارجية مثل أنتوني بلينكن وجيك سوليفان. حينذاك تبددت أشباح مايك بومبيو وجون بولتون.
 
ادعى بايدن أن أمريكا عادت، إلا أن إدارته للأمور حتى الآن لم تزل مخيبة للآمال. فأوروبا فيما يبدو تقف على شفا هاوية حرب حول أوكرانيا، وبلغت التوترات بشأن تايوان وبحر جنوب الصين أوجاً جديداً لها، بينما كان الانسحاب من أفغانستان كارثياً بكل ما تعنيه الكلمة ولم يتم التنسيق له مع الحلفاء الكبار.
 
رغم أنه ليس من الإنصاف تحميل المسؤولية عن هذه الفوضى على عاتق بايدن وحده، ولكن من غير المعقول اعتبار الغرب ضحية للسياسات التي ينتهجها دكتاتوريون في روسيا والصين.
 
تثبت أوكرانيا، إذا لم تفعل ذلك جورجيا من قبل، أن توسع النيتو شرقاً خطأ استراتيجي فادح في التقدير. سواء أحببت ذلك أم لا، تعتقد روسيا (والصين كذلك) أن لهم الحق في رسم الخطوط الحمراء المتعلقة بأمنهما. إذا كان ذلك يعني الاعتراف بدوائر نفوذ محددة، لا ينبغي أن يعتبر ذلك شائناً جداً إذا كان الهدف هو خدمة السلام والحفاظ على الاستقرار.
 
في نهاية المطاف، وبغض النظر عما أعلن عنه بلينكن بفظاظة مؤخراً، مازالت الولايات المتحدة تحتفظ بدوائر نفوذها العالمية، والتي تشتمل على كل القارة الأمريكية وأوروبا والشرق الأوسط ومنطقة ما بين المحيطين الهندي والهادي.
 
في المقابل تتحدث روسيا والصين عن مناطق تقع في جوارهما المباشر وتعتبر حيوية بالنسبة لخطوط الإمداد التابعة لهما. تعود قضية تايوان إلى العام 1949 وتعود قضية أوكرانيا إلى العام 1999، عندما نفذ الناتو أول عملية توسع له. بمعنى آخر، لم تنشأ هذه القضايا من فراغ.
 
مقاربة رديئة
 
فيما يخص أوكرانيا والعديد من القضايا الأخرى، لم يلبث بوتين يصدر التحذيرات تلو التحذيرات منذ عام 2007، ولم يزل المسؤولون الأمريكيون المتنفذون يفعلون الشيء ذاته.
 
في شباط/فبراير من عام 2008 أرسل الدبلوماسي المخضرم وسفير أمريكا في موسكو، بيل بيرنز، مذكرة سرية إلى وزيرة الخارجية كونداليزا رايس، أشرك فيه بعد ذلك وزير الدفاع روبرت غيتس ومستشار الأمن القومي ستيفن هادلي.
 
قال فيها متنبئاً: "يمثل دخول أوكرانيا إلى الناتو أشد الخطوط حمرة بالنسبة للنخبة الروسية (وليس فقط بالنسبة لبوتين). طوال ما يزيد عن عامين ونصف من المحادثات مع أهم اللاعبين الروس ... لم أجد بعد من لا يعتبر دخول أوكرانيا في الناتو تحدياً مباشراً للمصالح الروسية ... بل سوف يوجد ذلك الأرضية الخصبة للروس كي يتدخلوا في شبه جزيرة القرم وفي شرقي أوكرانيا."
 
لعله مما يثير السخرية أن بيل بيرنز يشغل اليوم منصب مدير المخابرات المركزية الأمريكية، عينه فيه الرئيس بايدن. من المؤكد أن رئيس الولايات المتحدة ليس مضطراً لأن يستمع إلى الرئيس الروسي، ولكن يحسن به أن يستمع إلى رئيس مخابراته والذي، بالمناسبة، يعرف روسيا بشكل جيد جداً.
 
فريق بايدن الذي يزعم الحرفية تجاهل الدرس القيم في الواقعية السياسية الذي قدمه فريق نيكسون قبل نصف قرن. وبدلاً من أن يوقع ما بين الصين وروسيا فينشغلان ببعضهما البعض فضل بتهور استعداءهما معاً، مما سرع من إبرام التحالف الخطير بينهما. كما قرر الفريق انتهاج تلك السياسة في وقت غدت فيه أمريكا في غاية الضعف، مما يفيد بأن النهج المتبع أقرب إلى صنع الهواة منه إلى صنع المحترفين.  
 
أزمة داخلية
 
والآن تعكف حكومة الولايات المتحدة بهلع منذ أسابيع على استنفار حلفائها ووسائل الإعلام الطيعة لديها، وتعمل على رص صفوف حلفائها الأوروبيين ضد روسيا حول موضوع أوكرانيا، مما رفع وتيرة التوتر إلى مستويات غدت محرجة حتى بالنسبة للسلطات في كييف.
 
يصعب تمييز أي حافز منطقي لهذا التصعيد غير الضروري والخطير. لربما كان أحد التفسيرات لذلك، كما يحدث كثيراً، هو أن الأمريكان ينتهي بهم المطاف إلى تصديق الدعاية التي تصدر عنهم، كما حدث في العراق في عام 2003.
 
ثمة تفسير بديل ومدهش قدمه في وقت مبكر من هذا الشهر دبلوماسي أمريكي مخضرم آخر هو جاك ماتلوك، آخر سفير أمريكي لدى الاتحاد السوفياتي، والذي كان قبل ذلك بسنين سفيراً للولايات المتحدة في موسكو أثناء أزمة الصواريخ الكوبية. كتب يقول: "لا يمكنني استبعاد الشك بأننا نشهد اختلاقاً بالغ التعقيد تعمل وسائل الإعلام الأمريكية على تضخيمه، غايته تحقيق مصلحة سياسية محلية. ففي مواجهة ارتفاع نسبة التضخم، والآثار المدمرة لجائحة كوفيد-19، واللوم (الذي في مجمله غير منصف) حول الانسحاب من أفغانستان، بالإضافة إلى الإخفاق في الحصول على تأييد كامل داخل حزبه لتشريع "إعادة البناء بشكل أفضل"، فإن إدارة الرئيس بايدن تشعر بالصدمة إزاء تراجع التأييد الشعبي لها في استطلاعات الرأي بينما تستعد لخوض انتخابات الكونغرس لهذا العام. ولما كانت "الانتصارات" البينة على المشاكل المحلية تبدو مستبعدة وبشكل متزايد، فلم لا تختلق انتصاراً يبدو من خلاله كما لو كان هو الذي حال دون غزو أوكرانيا، وذلك من خلال التصدي لفلاديمير بوتين."
 
قد يكون ذلك صدفة محضة، ولكن قناة سي بي إس وصحيفة نيويورك تايمز كلاهما نقلا عن مصادر في المخابرات الأمريكية الزعم بأن الكريملين أصدر الأمر للوحدات العسكرية الروسية بالمضي قدماً وغزو أوكرانيا. وطبقاً لهذه المصادر فقد حفز ذلك التحرك الرئيس بايدن على إعلان أن الرئيس الروسي قد اتخذ قراراً بالهجوم.
 
في نهاية الأمر، ما من أزمة في السياسة الخارجية إلا وهو انعكاس لأزمة داخلية.