في نهار الأول من تشرين الأول/ أكتوبر قبل عامين، كانت مناوأة الطبقة السياسية
العراقية تكتنف زعيم التيار
الصدري مقتدى الصدر ولا تستثنيه، حينها نُصبت الخيام في ساحة التحرير وسط بغداد وعَلَتْها رايات خطّ فيها شبّان عراقيون "شلع قلع.. واللي قالها وياهم"، في إشارة إلى رفضهم للجميع حتى الذين يناورون بدعاية "الإصلاح". في هذا الشعار تصوغ الأكثرية المغلوب على أمرها سخرية الأمر الواقع في العراق؛ فـ"شلع قلع" هي كلمات الصدر الشريك في السلطة والمعارض لها في الآن ذاته، وهي الآن تصدح من حناجر أصحابها بالدم والنسب.
تيّار الصدر ليس مستمراً، هو متناوب بطريقة تعثرَ الباحثون في مسكِ أطراف خيوطه واستشراف مسارات مروره، وقد يكون اضطرابه هذا عاملاً في صموده وصعوده مسنوداً بمتانة قاعدته الجماهيرية الموزعة جغرافياً على طول مقاعد مجلس النواب التي حصدها في انتخابات تشرين الأخيرة.
بشكل رسمي، أحرز الصدر 73 مقعداً في مجلس النواب، متجاوزاً الكتل السياسية كافة، وموجهاً ضربة قاضية إلى بعض نظرائه الشيعة، آزره في ذلك قانون الانتخابات الجديد لسنة 2020 الذي كِيلت له اتهامات كثيرة بسبب "مقاسه" المُلائم لمناطق انتشار لفيف الناخبين الملتزمين بالتصويت لهذه الجهة السياسية أو تلك، بناءً على عقود انتخاب زبائنية.
قيل في قانون الانتخابات هذا، إن بنيته التي اعتمدت الدوائر الصغيرة لكل 100 ألف نسمة، مُشيّدة وفق خارطة قواعد الناخبين لكل من التيار الصدري وحزب تقدم الذي يرأسه رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي؛ ولذلك أجاد الصدر والحلبوسي توزيع مرشحيهما بصورة تضمن حصد أعلى الأصوات في كل دائرة، وهو ما حدث بالفعل.
الخطأ الفادح الذي وقع فيه المتظاهرون أيضاً، أن حدود الفهم لطبيعة إشكالية السلطة توقفت عند آلية اختيار من يُمسك بزمام الحكم، ولم تصل إلى مرحلة مراجعة الدستور وتعديل هيئة النظام التي تمنح فرصة "التوافق" بين عدد من الأحزاب السياسية على بسط نفوذها في مجلس النواب، والاستئثار بتشكيل الحكومة
في تلك الأوقات التي كانت ميادين التظاهرات تغلي فيها على نيران الغضب واليأس، كان المتظاهرون ينقسمون إلى جبهتين في الرأي والتوجه، وخُنِقت المطالب الواضحة بين مناصري الإصلاح السياسي الاقتصادي والساعين بسخطٍ إلى إسقاط النظام كله. في ظل التشوّش الذي اعترى الوعي الجمعي، بادرت بعض ساحات التظاهر إلى إعلان مطالب على منصاتها، في مقدمتها تعديل نظام الانتخابات ليقوم على مبدأ الانتخاب الفردي، ويعتمد الدوائر الانتخابية المتعددة، فاستجاب مجلس النواب آنذاك لهذا المُبتغى.
يُشكل على تظاهرات تشرين فقدانها للمنظرين، أو بالأحرى المخططين الذين يرسمون الصورة الكاملة للمطالب بدقة عالية اتكالاً على فهمٍ يُحيط بتضاريس العملية السياسية والفواعل فيها والمؤثرات عليها؛ ولهذا كان القانون في الظروف السياسية والاجتماعية الراهنة مقوضاً لآمال المتظاهرين.
سلوك الأحزاب السياسية التي تربعت على السلطة بعد 2003، وتقاسمت موارد الدولة بينها، أفقد العراقيين الثقة بطبيعة النظام وديمقراطيته المُقنّعة؛ وأسهم في عزوفهم عن المشاركة ومنح ثقتهم لصالح تنظيمات سياسية ناشئة من ساحات التظاهر، وهنا تكمُن المعضلة التي لم ينتبه لها المتظاهرون وظنوا أن القانون الانتخابي الجديد كفيل بإحداث تغيير في موازين القوى.
الخطأ الفادح الذي وقع فيه المتظاهرون أيضاً، أن حدود الفهم لطبيعة إشكالية السلطة توقفت عند آلية اختيار من يُمسك بزمام الحكم، ولم تصل إلى مرحلة مراجعة الدستور وتعديل هيئة النظام التي تمنح فرصة "التوافق" بين عدد من الأحزاب السياسية على بسط نفوذها في مجلس النواب، والاستئثار بتشكيل الحكومة، ومشاطرتها لموارد الدولة، وتسلب المواطن حق الرقابة والمحاسبة في لحظة أداء النائب المُنتخب اليمين الدستوري تحت قبة البرلمان.
تكاد تقترب الأحزاب السياسية في العراق من بعضها بعضاً في النفوذ والسطوة، وهذه الحالة تحتم عليها التحصّن بما سمّاه العراقيون "محاصصة" السلطة، لدرء أي صراعات مصيرية قد تؤدي إلى فنائها
بواقعية، تكاد تقترب الأحزاب السياسية في العراق من بعضها بعضاً في النفوذ والسطوة، وهذه الحالة تحتم عليها التحصّن بما سمّاه العراقيون "محاصصة" السلطة، لدرء أي صراعات مصيرية قد تؤدي إلى فنائها. وإضافة إلى هذا، فإن جمود دائرة الناخبين التي تحيط بهذه الأحزاب سواء في حالة كسب المزيد من المؤيدين أو خسارة بعضهم، بسبب طبيعة العلاقة الزبائنية بين الحزب وناخبيه الثابتين، يضع الأحزاب بمعظمها في صف واحد متساوٍ، لكن القانون الانتخابي الجديد غيّر قليلا من هذه المعادلة، ومالت كفة ميزان الصدر على حساب قوى أخرى، منها تيار الحكمة وتحالف الفتح.
المسار الذي أوصل الصدر إلى الصدارة هذه المرة، قادر على إيصال غيره في المرات المقبلة، طالما بقيَ النظام السياسي متداخلاً في مؤسساته وقوانينه بدعم من الدستور الذي خطتَ بنوده نفس الأحزاب السياسية البارزة في المشهد.