ذاكر عبد الكريم نايك هو شخصية دعوية مثيرة للجدل، فهناك من ينظر إليه على أنه واعظ سلفي يتبنى المنهج السلفي، وهناك من ينظر إليه على أنه مُناظِرٌ عقلاني يتبنى المنهج العقلي، وهناك من ينظر إليه على أن منهجه الدعوي مزيج من الطريقة السلفية والعقلانية، وهناك تيار ثالث يُخرجه من هذا كله وينظر إليه على أنه متطفل على الدعوة ومتسلق في مجال مقارنة الأديان وأنه صنيعة أحمد ديدات، فليس فيما يقوله ويكتبه أي جديد يُذكر إلا ما أخذه عن شيخه و”وليّ نعمته” أحمد ديدات رحمه الله، فكل ما في الأمر –حسب هؤلاء- أن ذاكر قد أحسن إضافة بعض “التوابل” إلى ميراث أحمد ديدات بفضل ما يتمتع به من حضور البديهة وقوة الذاكرة.
استمعتُ إلى مناظرات ذاكر عبد الكريم نايك فلم أجد فيها –كمتخصص في مقارنة الأديان- شيئا أكثر مما أجده في كلام العوامّ، ولكن ما يميزه عن غيره هو قوة الذاكرة وصلابة الشخصية وإيمانه الراسخ بصحّة العقيدة التي يؤمن بها، وهذه هي الصفات التي نفتقدها في كثير من المتخصصين في مقارنة الأديان؛ فقد تجد أحدَهم ملمًّا بتاريخ الإسلام وتاريخ الأديان ولكنه في مجال الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه ضد شبهات المغرضين كمن ختم الله على سمعه وبصره إذ يفضل الانزواء والوقوف في الحياد أو يلج ميدان المناظرة على استحياء ثم يسقط عند أول مقابلة أو يقدّم العقيدة الإسلامية بطريقةٍ مشوّهة مبتذلة يجد خصمُه من خلالها ثغرا يتسلل منه لتدعيم دعواه ومهاجمة الإسلام ونقض عراه.
ليس ذاكر صاحب علم غزير ولا بحث عميق في مجال مقارنة الأديان ولكنه شخصية دعوية، عاش في بيئة هندية تعشّش فيها الخرافات، يعبد أهلها البقر ويعرضون عن عبادة رب البشر وينحنون لآلهتهم التي صنعوها بأيديهم حتى إذا حلت كارثة أو وقعت نازلة أو فاجأهم طوفانٌ عارم حملوها على أكتافهم. عاش ذاكر نايك وسط هذا الدجل الاعتقادي فازدادت قناعته بأنه على الهدى والطريقة المثلى واستطاع أن يجلب إلى صفه كثيرا من ضحايا هذا الدجل في البلاد الهندية.
يمكن لكل من يستمتع إلى ذاكر، حتى من غير المتخصصين في مقارنة الأديان، أن يدرك بأن شخصية أحمد ديدات رابضة في داخله وكامنة في مخيلته، ومستقرّة في فكره، فهو يحاكيه في مناظراته وحتى في نظراته وإشاراته وحركاته، ولكن ما يميِّز ذاكر عن ديدات أنه يتطرف قليلا في تفسير بعض النصوص، وهو ما جعله عرضة للنقد العنيف والسهام التي لا ترحم ويبحث أصحابُها عن أي مبرر لإفراغ ما في جعبتها من حقدٍ دفين على الإسلام وكراهيةٍ لنبيِّه. ولم يقفوا عند هذا الحد، بل ائتمروا به وألصقوا به من التهم ما ظهر منها وما بطن واتهموه بمعاداة التنوير والدعوة إلى التكفير، وأصبح الرجل لاجئا مطارَدا، وهذا أمرٌ لا يعنيني في شيء بل يعنيه بالدرجة الأولى ويعني الجهات التي تتهمه بذلك وإنما أذكره بناء على ما قرأته في الجرائد وعلى ما أوردته وسائل الإعلام، ولكن مع ذلك أتمنّى أن ينصفه خصومُه وألا تتغلب ثقافة الانتقام على عدالة الأحكام، وألا تفضي ثقافة محاربة الكراهية التي يرفعون شعارها إلى كراهية ظاهرة، إذ لا يُقبل من الإنسان أخلاقيا أن ينهى عن خُلقٍ ويأتي مثله.
هناك جانبٌ قويٌّ في شخصية ذاكر عبد الكريم نايك جعله يحقق شهرة كبيرة في عالم المناظرة، ومن ذلك استخدامه للغة الإنجليزية بدلا من اللغة الأردية المحلية لأن الجمهور الذي يستهدفه يتوزع في العالم كله، ولذلك فأنسبُ اللغات لمخاطبته هي اللغة الإنجليزية لأنها اللغة الأكثر استعمالا، وهذا الميزة يفتقدها –للأسف- كثيرٌ من الدعاة وكثيرٌ من المتخصِّصين في مقارنة الأديان، فهم -على غناهم المعرفي- يعانون فقرا لغويا، فبعضهم أحادي اللغة، وبعضهم الآخر لا يُحسن حتى اللغة الأمّ ويلحن فيها ولا يكاد يبين، وهذا ما يجعله غير مؤهَّل لمناظرة الآخرين أو حضور موائدهم المستديرة أو ندواتهم الفكرية لأنّ فقره اللغوي يحول بينه وبين ذلك. وهناك جانبٌ قويٌّ آخر في شخصية ذاكر وهو توظيفه للمعارف الطبية التي اكتسبها لولوج عالم المناظرة الدينية، وهو عالمٌ يحتاج بيقين إلى هذا الصنف، وليس ذاكر أول من تميّز بذلك، بل سبقه إليه رحمت الله الهندي وموريس بوكاي وغيرهما، إن بعض النصوص في القرآن الكريم وبعض الأحداث في التوراة والإنجيل كحادثة الخَلق وغيرها لا يمكن أن يتصدى له إلا أمثال هؤلاء، فلكلِّ علم أهله ولكل قوس باريها، وأتذكر في هذا الصدد حاجتنا في قسم مقارنة الأديان عند تشكيل لجنة مناقشة أطروحة الدكتوراه التي تقدَّم بها أخونا الفقيد الراحل الفاضل العربي بن الشيخ رحمه الله بعنوان: “قصة الخَلق: دراسة مقارنة بين التوراة والإنجيل” إلى متخصص في الطب والبيولوجيا لسببٍ وجيه وهو أن المادة الطبية والبيولوجية تمثل عنصرا غالبا في الأطروحة وصاحبها ضليعٌ بهذا العلم ولا يمكن لأمثالي أن يناقش فيما ليس له به علم فيظلم الطالبَ أو يأتي بالعجائب، لأن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.
لم يعد لذاكر ظهورٌ قوي في وسائل الإعلام بسبب التضييق عليه للأسباب التي ذكرتها آنفا، ولكنه رغم ذلك لم يفقد جمهوره ونجوميته، ولا يزال يمثل لكثيرين قطبا في المناظرة الدينية، ولا تزال مناظراته تُسمع ويُرجع إليها حتى داخل الهند، ولكن خفية خوفا من بطش السلطات ومشاقّ المتابعات.
رغم تأسيس ذاكر لقناة “السلام” التي أرادها أن تكون البوّابة التي يتواصل من خلالها مع جمهوره والتي يلج منها مستمعوه من المِلل الأخرى إلى رحاب الإسلام، إلا أن هذا لم يشفع له لدى بعض الجهات التي تتهمه بـ”معاداة السلام” و”نشر ثقافة الكراهية”، وأعتقد أنه من المفيد دعويا –ليس خوفا من خصوم الإسلام بل خوفا على توقف صوت من أصوات الدعوة إلى الله- أن يخفّف ذاكر من لهجته قليلا، فالإمعان في ثقافة الازدراء واحتواء الآخر قد تدفعه إلى العناد، ولذلك ليس هناك أفضل من هذا المنهج الرباني الذي ارتضاه لنبيِّه وخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم: “.. ادعُ إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين”. لا يعني هذا البتة أن ذاكر تعوزه الحكمة والموعظة الحسنة، ولكن لدى الرجل بيقين تطرّفا في الخطاب قد يضرّ أكثر مما ينفع. يوصف ذاكر عبد الكريم نايك بأنه “ديدات بليس Deedat Plus” بمعنى أنه صورة مستنسَخة من شخصية أحمد ديدات رحمه الله، وليس في ذلك ما يُضير أو يُنقص من قيمته، فمن شابه أباه فما ظلم ومن شابه معلمه فما ظلم، والإمام الشافعي رضي الله عنه -على علوِّ كعبه في الفقه- لم يُخفِ أنه ثمرة من ثمار الإمام مالك، وديدات رحمه الله لم يُخفِ أخذه لأصول نقد حجج الخصم مما كتبه السابقون وعلى رأسهم رحمت الله الهندي في كتابه “إظهار الحق”، فالعلمُ رحمٌ بين أهله وتركة متوارثة، يرثها الخلف عن السلف.
فرّ ذاكر من الهند بعد اتهامه بـ”التحريض على الإرهاب” عقب أحداث دكا، وآوته ماليزيا ولم تستجب هذه الأخيرة لمطالبات الحكومة الهندية بتسليمه للمحاكمة، ولكنه في ماليزيا ارتكب خطأ فادحا حينما اعتبر “أنّ الهندوس الماليزيين أكثر ولاءً لناريندرا مودي (رئيس وزراء الهند) أكثر من ولائهم لبلدهم ماليزيا”، فوُجِّهت له تهمة “التحريض على الكراهية العنصرية والدينية” وطالب بعض النواب الماليزيين بطرده من البلاد.
نصيحتي لذاكر وغيره من الدعاة وخاصة ممن يحتكون بأهل الأديان أن ينأوا بأنفسهم عن الخوض فيما يثير حساسية الآخرين مما يمكن أن يفسَّر على أنه دعوة طائفية وأن يعرضوا عقيدة الإسلام عرضا يجلب الآخرين إلى الإسلام ولا ينفّرهم منه، فالرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قدوتنا جميعا، لم يدعُ إلى الطائفية ولا إلى القبلية ولم يستخفّ بعرق أو جنس، ولم يتعصَّب لبني هاشم أو قريش ضد غيرهم، بل كان نبيا هاديا، يبلّغ رسالات ربه ويمكِّن لعقيدته، فللدعوة ضوابط تنضبط بها لتكون دعوة ربانية رسالية، وإلا فإنها دعوة استعراضية انتقامية، ينتصر فيها الإنسانُ لنفسه بأي طريقة فينتهي وتنتهي دعوته.
(الشروق الجزائرية)