بحلول الحادي عشر من شباط/ فبراير 2022، يطوي ربيع
اليمن عامه الحادي عشر، وهي فترة طويلة لا تزال
الثورة معها تقاوم بضراوة، رغم كل الضربات التي وُجِّهتْ إليها، والظل الثقيل والسيئ للرئيس
هادي الذي أوصلته الثورة إلى سدة السلطة فكافأها بالتخادم المفتوح ضدها مع القوى الإقليمية والدولية، ولذلك قصة نعرض جانباً منها في هذا المقال.
كان يمكن للإمكانيات الهائلة التي سخرتها دول الثورة المضادة في الإقليم أن تُحدث أثرها ضد ربيع اليمن، لكن ذلك كان سيأخذ وقتاً طويلاً جداً، فالثورة كانت ستكتسبُ منعتها من الإجماع الوطني حولها، ومن رغبة اليمنيين في طي صفحة دكتاتورية الرئيس علي عبد الله صالح التي اتسمت بالفوضوية والعبثية، وبالتكريس الجهوي الحاد للسلطة، خصوصاً أدواتها الخشنة: العسكرية والأمنية، وما استتبعه من تسخير لثروات البلاد واقتصادها لخدمة الأقلية السلطوية.
سأودع صالح عند هذه النقطة، رغم أنه لعب دوراً مؤثراً في تأليب شريحة من السكان وشبكة ولاءاته السياسية والقبلية، وتأثيره المعنوي على أجهزة الدولة، لدعم الانقلاب على السلطة الانتقالية، الذي تصدرته جماعة الحوثي المسلحة، مستفيدة من عرض سخي تلقته من دول الثورة المضادة لتنفيذ الانقلاب رغم الخطوات المهمة التي أحرزتها عملية الانتقال السياسي، بدعم كبير من دولتي التحالف.
كان الرئيس السابق علي عبد الله صالح يفتقر إلى السلاح الدستوري الموجود لدى خلفه الرئيس عبد منصور هادي، والذي استخدمه بشكل سيئ للغاية للفتك بثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011 ورجالها وشبابها وحواملها السياسية، منذ أن انتقلت إليه مهام الرئاسة فعلياً في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، أي في اليوم الذي تم فيه توقيع اتفاق المبادرة الخليجية
ومع ذلك كان الرئيس السابق علي عبد الله صالح يفتقر إلى السلاح الدستوري الموجود لدى خلفه الرئيس عبد منصور هادي، والذي استخدمه بشكل سيئ للغاية للفتك بثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011 ورجالها وشبابها وحواملها السياسية، منذ أن انتقلت إليه مهام الرئاسة فعلياً في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، أي في اليوم الذي تم فيه توقيع اتفاق المبادرة الخليجية بما اشتمل عليه من قبول بالتنازل عن السلطة من جانب سلفه علي عبد الله صالح، حيث تشكلت حكومة الوفاق وأدت اليمين أمام هادي الذي كان لا يزال نائباً لكن بصلاحيات رئاسية كاملة، قبل أن يصبح رئيساً توافقياً إثر انتخابه في 21 شباط/ فبراير 2012.
مثَّل صيف العام 2014 خاتمةَ المطاف بالنسبة للعملية السياسية التي أدارها الرئيس هادي بتواطؤ خفي وظاهر، حيث تلقف الإملاءات الخارجية الإقليمية والدولية بحماس كبير، وباشر في إدارة الاتفاقات التي بدأت بإجلاء سلفيي معهد دماج بصعدة، مروراً بالتمكين التدريجي المسلح للحوثيين الذي كان يزداد مع كل تقدم يحرزونه باتجاه صنعاء، بتأثير الاتفاقات المبرمة بينهم وبين خصومهم من القبائل والجيش والسلطات المحلية، عبر اللجان العسكرية والأمنية المشكلة من قبل الرئيس هادي.
كانت حرب عمران هي المؤشر الأبرز على الوقوف الفعلي للرئيس إلى جانب
الحوثيين، والانتصار لمشروعهم الذي كان يعني بالضرورة تهديد سلطة الرئيس وتقويضها، كنتيجة طبيعية لوصولهم إلى صنعاء، وهو هدف لم ينتظره الحوثيون طويلاً فقد حصلوا عليه بعد أن تمكنوا من إسقاط عمران في تموز/ يوليو 2014، وهو الإنجاز الذي باركه الرئيس هادي عندما زار عاصمة المحافظة غداة سقوطها بيد الحوثيين وخروجها من سلطة الدولة، لكنه مع ذلك أكد بوضوح أن محافظة عمران عادت إلى حضن الدولة.
كان هادي يرى قائد اللواء 310 العميد الركن حميد القشيبي قائداً غير مطيع، لأنه رفض تسليم المحافظة للحوثيين، وهي رغبة الرئيس وداعميه الإقليميين، وكان يريد من العميد الشهيد أن ينفذ رغبته الرئاسية ورغبة داعميه الإقليميين دون أن يضطره إلى تغييره وتعيين قائد جديد، لأن إجراء كهذا كان سيفضح هذا الرئيس مبكراً بينما كان لا تزال أمامه أشياء أخرى يريد إنجازها للإطاحة بثورة شباط/ فبراير ومعسكرها السياسي.
تقدم الحوثيون سريعاً صوب صنعاء ودخلوها؛ تساندهم مدفعية الحرس الجمهوري الرابضة في الجبال المحيطة بصنعاء من كل الاتجاهات. كان الرئيس هادي بمباركة السعودية يرغب في إدخال التجمع اليمني للإصلاح ورجاله في مواجهة عسكرية مفتوحة، وهو الهدف الذي فشل في تحقيقه، وكان عليه بعدها أن يتعايش مع الوضع الجديد.
فبعد تأكيداته بأن صنعاء لم تسقط، كان هادي يرى الحوثيين يستحثون الخطى للإجهاز على سلطته، ومع ذلك، مارس نفوذه للتضييق على سلفه الرئيس صالح، الذي أنهى هيمنته على اللواء الثالث حماية رئاسية، القوي والمتحكم بالمنشآت السيادية في العاصمة وبالمواقع الأكثر حساسية في محيطها.
لم يكن يهتم أكثر من رؤية حزب التجمع اليمني للإصلاح مهزوماً ومحطماً وخارج المعادلة السياسية، وهو هدف تشاركه آنذاك مع أطراف إقليمية ودولية أبدت ارتياحاً لدخول الحوثيين صنعاء، انطلاقاً من مواقف متشددة إلى حد كبير تجاه الربيع العربي وحوامله السياسية
أغلق القناة التلفزيونية الخاصة بالرئيس السابق، وحزبه المؤتمر الشعبي العام، وكان ذلك جزء من إجراءات تأديبية نفذها الرئيس هادي بتشجيع من السعودية، التي قطعت بشكل كامل مع الرئيس السابق ورفضت كل العروض التي قدمها لإنهاء الوضع الناشئ في صنعاء، خصوصاً بعد أن تنامى النفوذ الإيراني بشكل متسارع وازداد خطورة.
في الفترة الممتدة من أيلول/ سبتمبر2014 وحتى 20 كانون الثاني/ يناير 2015، انكفأ الرئيس هادي في منزله، مفسحاً المجال للحوثيين لتسوية الأرضية في صنعاء، يتعاطى القات هو وأبناوه وحراسته، إذ لم يكن يهتم أكثر من رؤية حزب التجمع اليمني للإصلاح مهزوماً ومحطماً وخارج المعادلة السياسية، وهو هدف تشاركه آنذاك مع أطراف إقليمية ودولية أبدت ارتياحاً لدخول الحوثيين صنعاء، انطلاقاً من مواقف متشددة إلى حد كبير تجاه الربيع العربي وحوامله السياسية، ومخاوف من إمكانية تأسيس نماذج سياسية وطنية عصية على الإخضاع، ورسوخ الهوية العقدية الغالبة للشعوب.
توفرت أدلة قوية على أن الحوثيين لم يقتحموا منزل الرئيس هادي ولم يقتلوا أياً من أقاربه، قبل 21 شباط/ فبراير 2015، حتى بعد أن قدم استقالته في 20 كانون الثاني/ يناير من نفس العام؛ ليحول دون إجباره على إصدار قرار جمهوري بتعيين نائب له كان الحوثيون قد رشحوا صالح الصماد لهذا المنصب، ما حمل بعض القادة السياسيين إلى الاعتقاد بأن الرئيس هادي ليس خائناً ولا متواطئاً.
وفي الحقيقة كان الرئيس هادي يتلقى استشارات متواصلة من أجهزة الاستخبارات والسفارات التي تعمل في صنعاء بصورة مستمرة وترشده إلى اتخاذ القرارات المناسبة، ومنها قرار الاستقالة، لأنه لو كان لبّى مطالب الحوثيين لكانوا أقدموا على الفور على التخلص منه، لحماية المنصب الذي حصلوا عليه وترقيته إلى درجة التحكم الكامل بالقرار السيادي.
كان الرئيس هادي يتلقى استشارات متواصلة من أجهزة الاستخبارات والسفارات التي تعمل في صنعاء بصورة مستمرة وترشده إلى اتخاذ القرارات المناسبة، ومنها قرار الاستقالة، لأنه لو كان لبّى مطالب الحوثيين لكانوا أقدموا على الفور على التخلص منه
وعليه، فإن الرئيس لم يفعل أكثر من أنه أبقى على رأسه سليماً وأجبر الحوثيين على التغاضي عن عملية خروجه من منزله ومغادرة صنعاء بصورة نهائية، بعد أن أمّنوا له الحراسة طيلة وجوده في منزله مقابل 600 ألف ريال يومياً؛ كان يدفعها هادي مقابل هذه الحراسة التي كان يشرف عليها محمد علي الحوثي، قائد ما يسمى "اللجنة الثورية" آنذاك.
وهي عملية يحرص الرئيس على تغطيتها بسردية مملة وغير منطقية، تظهره بطلاً يتغلب على أكبر المخاطر، ومع ذلك كان يمكن لهروبه من صنعاء أن يكون مبرراً لو تمكن من تحصين وجوده في عدن التي باشر فيها مهامه الرئاسية؛ بعد أن أبلغ في 22 شباط/ فبراير 2015 مجلس النوب بعدوله عن الاستقالة.
ولكنه وجد نفسه مضطراً لخوض رحلة هروب أخرى هذه المرة باتجاه الرياض التي لم يعد منها إلى اليوم. خرج وحيداً وسط حشود من المسلحين الجنوبيين المراوغين الذي تجمعوا ظاهرياً في عدن لنصرته، ليتبين فيما بعد أنهم كانوا تجمعات مسلحة فوضوية بلا رأس، حتى إن حراسته الخاصة قامت بنهب ما غلا ثمنه من مقتنيات قصر معاشيق، قبل مغادرة القصر، فيما عاد أنصاره المخادعون بكميات كبيرة من الأسلحة إلى قراهم في محافظتي أبين وشبوة ولحج، لتعود ثورة شباط/ فبراير ومعسكرها الكبير من جديد إلى التموضع في خندق المواجهة مع الانقلابيين، وإضفاء المعنى الحقيقي لمنصب الرئيس الذي يتولاه هادي عن بعد دون أن يفي باستحقاقاته السيادية والسياسية والأخلاقية للأسف الشديد.
twitter.com/yaseentamimi68