أثار فيلم "أصحاب ولا أعز" زوبعة لم تنته أصداؤها حتى هذه اللحظة. الفيلم مأخوذ من أصل إيطالي بالفورمات نفسها، وهذا تقليد عالمي معمول به؛ حيث إن بعض
الأفلام تروج بأكثر من نسخة. بالفعل أعتقد أن نسخة الفيلم المصرية هي الرقم عشرين، إن لم تكن هناك نسخ أخرى في بلاد أخرى.
الحقيقة أنا لم أشاهد الفيلم، ولكني شاهدت النسخة الإيطالية الأصلية، كما أني أُحطت علما بما تحتويه النسخة العربية. بالطبع هذا لا يكفي لأن نتعرض للفيلم بتقييمه جماليا، ولكن لي ملحوظتان على ما أثير حول الفيلم:
الأولى: كالعادة تعلو الأصوات التي تطالب بالمنع والحجب والمحاكمة. تستند هذه الأصوات على ثقافة التحريم والإلغاء والإقصاء، وكأننا أمام مؤامرة كونية كبيرة تستهدف مجتمعنا الصحي جدا والمسالم جدا والسعيد جدا.
الثانية: وهي بيت القصيد بالنسبة لي، وهي أكثر خطورة برغم خطورة الأولى؛ ألا وهي أصوات الليبراليين واليساريين والمتنورين وما شابه ذلك من قوى، التي تخرج من التواري لتشارك شكليا في الزوبعة، بينما تكون قبل ذلك متلطية ونائية لحد كبير عن إثارة القضايا الحساسة والمصيرية المسكوت عنها.
المفترض في هذه القوى أنها متحررة قلبا وقالبا، قوى تنتصر لقيم الحق والخير والجمال، وتتصدى لقوى القبح والجهل والتخلف بالفعل والفكر، ليكون لدينا مجتمع متوازن وسوي اجتماعيا وسياسيا؛ لأن التنظير يظل تنظيريا لا مكان له على أرض الواقع، إن لم يُفَعّل ويخض معارك حقيقية. هذه القوى تصمت كثيرا على سلبيات اجتماعية خطيرة، ولكنها تتكلم فقط ونسمع صوتها كهدير البحر في منع منتج فني أو أدبي فقط.
تصمت هذه القوى تماما أمام الكثير من التجاوزات الخطيرة، التي تجتاح حياتنا على المستويات كافة.
هذه القوى التنويرية الغاضبة المناوئة لقوى المحافظة والتخلف، لا نسمع صوتها الذي يثير المسكوت عنه في ابتزاز الأطفال والنساء مثلا.. لا تظهر تجليات أفكارها بنضج ووعي في تفعيل المشكلات العميقة.
برأيي أن إثارة الأمور الخاصة بالفن والإعلام وبما يُطلق عليها القوى الناعمة ضروري، ولا بد أن يكون لها هامش حقيقي في التعبير - وهذا ولا شك هدف سامٍ - ولكنه ليس الوحيد ولا الأخير.
القوى التنويرية لا يجب أن تكيل بمكيالين؛ تصمت هنا وتتكلم هناك؛ فالمبادئ واحده لا تتجزأ. فإذا دافعنا عن
الفن فلا بد أن نواجه السلبيات السياسية والاجتماعية؛ وإلا تفقد القوى التنويرية مشروعية وجودها كمعطى أساسي لوجود الإنسان في الحياة، وتنتقل من خانة المواجهة إلى خانة الاستئناس؛ ومن ثم يصبح واقع الحال برمته فيلما كوميديا "بايخ ودمه تقيل".