قوة العين عند السودانيين هي "البجاحة"، وهي في الأصل فصيحة لأنها من تبجّح، وتقال في من تكبَّر، وافتخر وتباهى في صلف وادّعاءٍ بما ليس فيه، وهي الجرأة على الحق، وليس في الحق، وعبد الفتاح البرهان ومنذ أن اهتبل السانحة في نيسان/ أبريل من عام 2019 كي يحقق طموحه الشخصي في حكم السودان ـ وكان ذلك إثر ثورة شعبية عارمة بدأت في كانون أول/ ديسمبر من عام 2018، يمارس بجاحة مكشوفة بالزعم المتكرر بأنه يعمل لـ "تحقيق غايات ثورة ديسمبر"، مع أن أول غايات تلك الثورة هو إرساء دعائم حكم مدني.
والبرهان مسؤول من دماء المئات الذين قتلوا غيلة وغدرا وهم صيام ونيام في 3 حزيران/ يونيو من عام 2019، وهو مسؤول عن أنهار الدم التي جرت وما تزال تجري منذ أن نفذ انقلابه الأخير على الحكم في 25 تشرين أول/ أكتوبر الماضي، ولكنه يتمتع بقوة عين تجعله يواصل الزعم بأنه والجيش الذي هو قائده أوصياء على الشعب و"الثورة"، والوصي يؤتمن على من هو وصي عليهم، ولكن البرهان يطلق جلاوزته وزبانيته للتنكيل بالشباب الذين صنعوا الثورة التي مكنته من تصدر المشهد.
ثم كان ما كان من أمر إصدار هذا الوصي على الشعب قرارا بمنح القوات النظامية ومن بينها جهاز المخابرات والأمن سلطات اعتقال الأشخاص والتفتيش والرقابة على الممتلكات والمنشآت، والحجز على الأموال وغيرها، وحظر أو تنظيم حركة الأشخاص، وكي ينتصب عمود النظام البوليسي المنشود، نص القرار على عدم اتخاذ أي إجراءات في مواجهة أفراد القوات النظامية التي تتولى تقدم على تلك الممارسات، وبهذا منح البرهان صكا مفتوحا للأجهزة الأمنية لتخرس معارضيه بأي أسلوب تختاره، بلا خوف من المساءلة والمحاسبة.
ويأخذ البرهان على معارضيه، وهم غالبية الشعب الذي يواصل الخروج بملايينه منددا بالانقلاب، أنهم يقيمون المتاريس في الشوارع كلما أعلنوا العصيان المدني، بينما ابتدع هو ومريدوه أسلوبا للتتريس لم يسبقهم إليه دكتاتور أو امبراطور، فما أن يتم الإعلان عن مواكب جماهيرية رافضة للانقلاب حتى يحرك جند البرهان الرافعات الثقيلة لسد منافذ الجسور والطرق الرئيسية في الخرطوم بالحاويات الضخمة، وهو أسلوب في قطع الطرق يصعب استدراكه إلا بتعطيل حركة المرور لعدة أيام.
وحرص المتظاهرون خلال مواكب كانون أول/ ديسمبر على الوصول إلى القصر الجمهوري، وقوبلوا بعنف أهوج، باعتبار أنهم يعتدون على موقع سيادي، بينما سمح البرهان بالاعتصام ونصب الخيام أمام القصر طوال شهر كامل للمجموعة التي كان دورها "المطالبة" باستلام الجيش للسلطة، ولم ير البرهان ورهطه بأسا في أن ينشر المعتصمون ملابسهم الداخلية بعد غسلها على أسوار القصر، ولا أن يحولوا الساحة إلى زريبة تسرح فيها الخراف التي كانت تذبح بأعداد كبيرة لاجتذاب الناس إلى الاعتصام لتناول الوجبات بحيث يبدو عددهم كبيرا.
يأخذ البرهان على معارضيه، وهم غالبية الشعب الذي يواصل الخروج بملايينه منددا بالانقلاب، أنهم يقيمون المتاريس في الشوارع كلما أعلنوا العصيان المدني، بينما ابتدع هو ومريدوه أسلوبا للتتريس لم يسبقهم إليه دكتاتور أو امبراطور، فما أن يتم الإعلان عن مواكب جماهيرية رافضة للانقلاب حتى يحرك جند البرهان الرافعات الثقيلة لسد منافذ الجسور والطرق الرئيسية
والبرهان يريد تصوير نفسه وكورال الجنرالات التابع له على أنهم مسؤولون عن أمن الوطن والمواطن، ولكن قوة العين تجعله يرسل آلاف الجنود للتصدي لكل موكب، ويوم الخميس الماضي (30 كانون أول/ ديسمبر) كانت هناك مسيرات ضخمة في عدد من المدن، فما كان من الانقلابيين إلا أن عسكروا العاصمة السودانية تماما، بنصب الحواجز الأمنية على الشوارع الرئيسية وإغلاق بعضها بالسلك الشائك، وما أن احتشد الآلاف في أم درمان حتى تبارى قناصة كانوا على سطح مستشفى حكومي على رمي المحتشدين بالرصاص فسقط على الفور أربعة قتلى، وهناك عشرات الجرحى، وبعضهم قد يفارق الحياة لاحقا متأثرا بالإصابة.
وإلى جانب الإفلاس الأخلاقي الذي ينضح به سلوك الانقلابيين، فإن فشل البرهان في استقطاب تأييد أفراد يسوقون مشروعه الانقلابي يجعله يستعين بضباط جيش متقاعدين يتم توزيعهم على القنوات التلفزيونية، فإذا بإفاداتهم المبثوثة تصبح مادة للتندر، بل ومثيرة للسؤال: كيف لهؤلاء أن يبقوا في الخدمة العسكرية ويبلغوا الرتب العليا فيها ما تكن الترقيات مكافأة على السطحية وقلة المعرفة بشؤون الحياة عموما.
أحد الجنرالات المتقاعدين الذين اضطلع بمهمة التطبيل للبرهان والانقلاب قال في لقاء تلفزيوني مؤخرا إن المطالبة بالحكم المدني ضرب من التخريف "لأنه لا وجود لحكومة مدنية في أي دولة من دول العالم الثالث، فالحكم المدني حصري فقط على الدول الغربية"، ثم فجر صاحب السعادة لغما في نفسه وفي البرهان عندما قال إن الحكم المدني قائم في الدول الغربية لأنها "راقية"، وبهذا قالها صريحة بأن الحكم العسكري قرين التخلف والانحطاط، مما حدا بأحد الكتاب الصحفيين إلى التساؤل: كم رتبة وقائد كبير فى جيشنا بعقلية هذا الرجل؟ وهل مؤسسة تنتج لنا مثل هذه العقول تؤتمن على حكم البلاد وامنه ومستقبله؟
العنف الأرعن الذي يمارسه جند البرهان بحق مواطنين عزل هو دليل خوف وضعف شديدين، ولا أدلّ على ذلك من أن مباني القيادة العامة للجيش صارت وكلما ذاع نبأ موكب جماهيري تحاط بحواجز تجعلها صنو المنطقة الخضراء في بغداد، حيث يعيش أهل الحكم محروسين بجنجويد أمريكا (مرتزقة شركة بلاك ووتر).
كانت أم درمان هي مسرح مجزرة الخميس الماضي عندما فتح قناصة البرهان النار على متظاهرين سلميين، ومعززين بصك الحصانة هجم عسس البرهان على المستشفيات التي تم نقل جرحى المجزرة إليها، واعتدوا على الجرحى والطواقم الطبية، وقامت مجموعة منهم باقتحام مكاتب قناتي العربية والحدث والاعتداء على العاملين فيهما، فجعلوا البرهان موضع شماتة معارضيه الذين يتهمون القناتين بممالأة البرهان، فإذا بجنده ينكلون بالعاملين فيهما.
العنف الأرعن الذي يمارسه جند البرهان بحق مواطنين عزل هو دليل خوف وضعف شديدين، ولا أدلّ على ذلك من أن مباني القيادة العامة للجيش صارت وكلما ذاع نبأ موكب جماهيري تحاط بحواجز تجعلها صنو المنطقة الخضراء في بغداد، حيث يعيش أهل الحكم محروسين بجنجويد أمريكا (مرتزقة شركة بلاك ووتر).
ولكن لا سبيل لإنكار أن البرهان كسب حليفا مهما في معركته للفوز بحق حكم السودان منفردا، فقد قدّم "السبت" لإسرائيل بل أن وعدها بتطبيع العلاقات معها، فقدمت له "الأحد" في شكل مياه زرقاء معالجة كيميائيا من إنتاج شركة أودورتك الإسرائيلية لقصف المتظاهرين بها فيسهل رصد واعتقال كل من تحمل ملابسه الصبغة الزرقاء لاحقا.
سبق للبرهان ورهطه قطع خدمة الأنترنت غداة تدبيرهم مجزرة القيادة العامة في حزيران/ يونيو 2019 وفي كل مرة يتم الإعلان فيها عن موكب جماهيري يبادرون على إيقاف الانترنت، وذلك قطعا كي لا يتسرب أمر الفظائع التي يخططون لها، وحقّ بالتالي القول إنهم يخافون من الأنترنت أكثر من خوفهم من الله .