تقول بعض كلمات أغنية سودانية رائجة على لسان المحب، إنه لا يجد الراحة في قرب المحبوب ولا في بعده عنه، وعليه فهو ضائع "في الحالتين"؛ ورئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك يعيش اليوم في حالة تيه سياسي جعلته يعلن اعتزامه تقديم استقالته من منصبه قبل أيام قليلة، وبالتحديد بعد شهر من عودته إلى منصبه الذي فقده لقرابة الشهر إثر انقلاب عسكري نفذه عبد الفتاح البرهان، الذي كان يشغل أرفع منصب دستوري (رئيس مجلس السيادة) في الحكومة التي انقلب عليها.
لعل حمدوك كان يراهن عند قبوله العودة إلى منصبه استنادا إلى اتفاق مكتوب بينه وبين البرهان، على أنه ما زال مسنودا بنفس القوى المدنية التي ساندته منذ تولي منصبه لأول مرة في آب (أغسطس) 2019، ثم اكتشف انه ضيع اللبن بالصيف، فها هو ومنذ أكثر من شهر يجد نفسه عاجزا عن أداء المهمة الوحيدة التي سمح له البرهان وصحبه بإنجازها حسب رؤاه، وهي اختيار طاقم وزاري جديد، فقد اكتشف أن معظم الكيانات السياسية لا تود التعامل معه طالما أنه يستمد صلاحياته من البرهان الذي يطرح نفسه كمصدر وحيد للقوانين وواهبٍ للسلطات، كما اكتشف أن يداه مغلولتان حتى في شأن اختيار أعضاء هذا الطاقم إذ أوضح البرهان أن حلفاءه الذين نالوا نصيبا طيبا من كعكة الحكم بموجب اتفاق سلام ابرم في تشرين أول/ أكتوبر 2020 لديهم حصانة من الزحزحة من المناصب الوزارية التي شغلوها قبل الانقلاب.
وحديث حمدوك صراحة عن عزمه الاستقالة قد يفسره البعض بأنه ابتزاز عاطفي لمن كانوا يؤيدونه ثم انفضوا عنه عندما رأوه قائما في محراب البرهان، باستحضار صوت عمرو بن معد يكرب "ذَهَبَ الذين أُحِبُّهم / وبقيتُ مثلَ السيفِ فَردا"، بينما يرى فيه البعض إدراكا من حمدوك أنه أخطأ بالتوقيع على اتفاق معيب مع قائد الانقلاب البرهان، يجعل منه (من حمدوك) في واقع الأمر مجرد نادل واجبه الأساسي تلبية "الطلبات" التي يتم إعدادها في مطبخ الانقلاب.
ولا سبيل لإنكار أن تلميح ـ وإن شئت قل تهديد ـ حمدوك بالاستقالة أحدث هزة حتى في أوساط من انفضوا من حوله خلال الأسابيع القليلة الماضية واتهموه بالتواطؤ والتناغم والتماهي مع الانقلاب، فخروجه من المشهد قد يعني من ناحية أن تبقى السلطة خالصة للعسكر الانقلابيين، فيتسنى لهم تعقيد المشهد بالمزيد من القرارات التي يصدرونها على أهوائهم، ولكنه وبالمقابل قد يؤدي إلى عزلة تامة للعسكر ويعزز موقف القوى المدنية الرافضة للانقلاب بحيث تصبح معالم المعركة وغاياتها محددة ومكشوفة: إبعاد العسكر من هياكل الحكم تماما، ولكن ثمن ذلك سيكون فادحا لأن كل السوابق والشواهد تؤكد ان العسكر لن يتورعوا عن الإعمال قتلا وفتكا بكل من يعترض طريق طموحات كبيرهم البرهان والكورال المكون من كذا جنرال.
يجد حمدوك أنه لا هنا ولا هناك، فلا هو يستطيع أن يعلن صراحة أنه متوافق مع الانقلاب، ولن يصدق كثيرون أنه يرفع لواء الحكم المدني، فهو جزء من "النظام" القائم الذي يقمع القوى المدنية الرافضة للانقلاب بعنف شرس، وهو في نفس الوقت الرجل الذي اختارته القوى المدنية عام 2019 ليكون رئيسا للوزراء، وهكذا فلسان حاله يقول: تعسا لي إذا فعلتها وتعسا لي إذا لم أفعلها
في التاسع عشر من الشهر الجاري شهدت العاصمة السودانية مواكب عجزت الشوارع الرئيسية عن استيعاب المشاركين فيها، واضطر مئات الآلاف إلى التحرك في طرق فرعية أفعوانية، وكعادة العسكر كلما تم الإعلان عن حراك شعبي يستنكر أفاعيلهم، قاموا منذ صباح ذلك اليوم الباكر بإغلاق كافة الجسور التي تربط بين مدن العاصمة الثلاث (الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان) بالأسلاك الشائكة والعربات المجنزرة وأرتال من الجند لمنع مواكبها من التلاحم خاصة، وأن الغاية المعلنة كانت الوصول الى القصر الرئاسي بشعار تحرير الخرطوم، ولكن الجماهير اجتاحت تلك الجسور والحواجز ودخلت ساحة القصر مستعيدة ذكرى تحرير الخرطوم من الحكم التركي، ودخول قوات "الثورة المهدية" قصر الحكم في يناير من عام 1885.
امتص العسكر هزيمتهم على الجسور في ذلك اليوم ثم رصوا الصفوف وهجموا على المحتشدين في سوح القصر وأمطروهم بأطنان من قنابل الغاز التي شكلت سحائب تتعذر الرؤية من خلالها، ثم تعرض من ابتعدوا عن محيط القصر لأفظع ألوان الاعتداء الجسماني كما تعرضت فتيات للاغتصاب الجماعي من قبل جنود نظاميين، ومارس أفراد مليشيا الجنجويد المتحالفة مع البرهان أعمال السطو التي درجوا عليها فنهبوا هواتف وساعات كل من استطاعوا الاستفراد به من ضحايا الغاز.
ويوافق اليوم السبت 25 كانون أول/ ديسمبر ذكرى خروج أكبر موكب في الخرطوم للمطالبة بإسقاط نظام عمر البشير في عام 2018، ومن المقرر أيضا أن يشهد هذا اليوم تسونامي بشريا يطالب بخروج العسكر من جميع هياكل الحكم وقيام نظام مدني خالص، ويليه موكب مماثل في الثلاثين من هذا الشهر، وبعدها يتم التصعيد ضد العسكر بفعاليات من بينها العصيان المدني.
وهكذا يجد حمدوك أنه لا هنا ولا هناك، فلا هو يستطيع أن يعلن صراحة أنه متوافق مع الانقلاب، ولن يصدق كثيرون أنه يرفع لواء الحكم المدني، فهو جزء من "النظام" القائم الذي يقمع القوى المدنية الرافضة للانقلاب بعنف شرس، وهو في نفس الوقت الرجل الذي اختارته القوى المدنية عام 2019 ليكون رئيسا للوزراء، وهكذا فلسان حاله يقول: تعسا لي إذا فعلتها وتعسا لي إذا لم أفعلها Damned if I do; damned if I don’t.
وهي عبارة صارت مثلا دارجا بين الناطقين بالإنجليزية بعد ورودها في أغنية لفرقة "أول تايم لو" الأمريكية عام 2009، وتماثل في المعنى "أمران أحلاهما مُر".