أخيراً، أدرجت منظمة أممية رسمية، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، فن التطريز الفلسطيني على لائحتها للتراث الثقافي العالمي غير المادي. وهو خبر سار بالتأكيد. بالإضافة إلى التقدير المستحق بهذا الفن الوطني والاعتراف به وتمييزه، تضيف هذه الخطوة إلى تسجيل فلسطين في العالَم كهوية ذات سمات وعلامات وتاريخ عريق. ويساعد هذا معركة البقاء أمام الهجمة الشرسة المتواصلة التي يشنها الاستعمار الصهيوني وداعموه لإلغاء الهوية الفلسطينية وعلاماتها.
كان من آخر مظاهر سطو الكيان الصهيوني على التطريز الفلسطيني ارتداء المشاركات في مسابقة «ملكة جمال الكون» التي أقامها الكيان مؤخراً ثياباً فلسطينية، واستخدام صورهن للترويج السياحي، على أساس أن هذا الثوب علامة «إسرائيلية». وهذا السطو على كل شيء فلسطيني، من الأرض والبيوت، إلى الأطباق والأزياء والفن، وحتى الآثار والطرز المعمارية، هو محاولة لمنح هوية وتراث لـ»شعب» مختلق بالاستيلاء على هوية شعب حقيقي. ونتذكر وزيرة الثقافة في الكيان، ميري ريغيف، حين ارتدت في مهرجان «كان» السينمائي فستانا رُسمت على ذيله البلدة القديمة في القدس الشرقية المحتلة مع أسوار القدس، وقبة الصخرة.
في الحقيقة، قلما يوجد في العالَم زي وطني بمثل جمال وتميز الثوب النسائي الفلسطيني. إنه ليس زيا واحدا بالضبط كما هي الأزياء الوطنية لمعظم الشعوب، لكنه زي واحد أيضا. إنه تكوين بالغ التنوع في إطار الوحدة. وتختلف تفريعاته في الألوان والتفصيلة وأشكال التطريز بحيث يعرف على المنطقة التي تأتي منها صاحبته. ثمة ثوب نابلس، وثوب رام الله، وثوب جنين، وثوب القدس، وثوب طولكرم، وثوب بيت لحم، وثوب بئر السبع… وهكذا. لكنها كلها «الثوب الفلسطيني».
ولا يُصنع الثوب الفلسطيني بمجرد قص القماش وحياكة قطعه معاً كمعظم الأثواب في العالم. ولم يكُن يُشترى جاهزاً من السوق. كانت البنات يتعلمن التطريز من أمهاتهن كجزء من تكوينهن ومهاراتهن الحياتية. وكانت معظم القويات الفلسطينيات يصنعن أثوابهن بأنفسهن، ويستغرقن في تطريزها وقتا طويلا وبدقة معجزة. لن يختلف مقاس وردة أو سنبلة أو عصفور أو أي شكل في العشرات من هذه الوحدات الفنية المتكررة في الثوب عن الأخرى حتى ولو بـ»غرزة» واحدة. وبذلك، كانت الفلسطينيات فنانات بالتكوين عندما يتعلق الأمر بصناعة هذه القطع الفنية المميزة وارتدائها.
ما تزال الفلسطينيات في كل مكان في العالم يحتفظن بالأثواب التراثية في خزائنهن كجزء من لوازم فلسطينيتهن. وليست هذه الأثواب ذات قيمة عاطفية وتراثية فحسب. إنها جديرة بالارتداء في أي مناسبات وهي «موضة لكل مناسبة ووقت». وقد تطورت الأشكال التقليدية من الثوب الفلسطينية وأصبح التطريز يُستخدم على «موديلات» وتصميمات عصرية مختلفة من الأثواب النسائية. كما أصبح التطريز الفلسطيني يستخدم في اللوحات والمفارش وعشرات الاستعمالات لتزيين المنازل والأشياء. وفي كل شيء يحمل التطريز الفلسطيني، لا تخطئ العين في تحديد فلسطينية هذا الفن المتفرد.
للأسف، يختفي تدريجياً جيل الأمهات اللواتي كُن يرتدين الثوب الفلسطيني المطرز باليد كل الوقت، خاصة خارج فلسطين المحتلة. وأصبحت الصبايا يرتدينه في المناسبات فقط. لكن هذا الثوب يستحق إعادته بكثافة إلى المجال العالم وارتداؤه حيثما أمكن كعلامة ليس ثمة ما هو أوضح على الوجود الفلسطيني القوي والمستمر في العالَم. وفي الحقيقة، مهما يكن ما يظهر من الأثواب الفلسطينية العصرية والأشكال «المطرزة» بالرسوم أو بماكينات الخياطة، فإن لأثواب الأمهات الأصلية اللواتي طرزنها بأيديهن تلك الروح الخاصة التي تميز العمل اليدوي وتتصل عضوياً بالتاريخ الفلسطيني.
تتوالى الاعترافات بعناصر الهوية الفلسطينية، ويتضح أن من المستحيل تجاهل الشعب الفلسطيني وإخراجه من الوجود، كما أمل عرابو المشروع الاستعماري-الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. ومهما يبدو المشهد الفلسطيني قاتماً، فإن تاريخ وعراقة فلسطين ينتصران على كل عوامل الإلغاء ويتميزان عن التكوين المضطرب اللاتاريخي والمفتعل للعدو الصهيوني. وقد أثبتت العقود الطويلة من الصراع أن الهوية الفلسطينية عصية على الطمس بسبب أصالتها وغنى مكوناتها. وهو صراع لن يصمد فيه المنافس الهش والسائب الذي تديمه الأموال والأسلحة والظلم وقوة الداعمين الخارجيين، ولا تديمه المؤهلات الذاتية التي لا يمتكلها. وسيظل كل شيء بشري أو طبيعي في فلسطين يضج بفلسطينيته ويذكر الغريب بأنه لا ينتمي إلى الأشياء هناك ولا تنتمي إليه.