الحركة التي وُلِدَت في صيغتها المقاوِمة، مع
الانتفاضة
الفلسطينية الأولى، تقف اليوم في صدارة الحركة الوطنية الفلسطينية، لا
من جهة تقاسمها مع حركة فتح الشأن السياسي العام فحسب، ولكن، وهو الأهمّ، في كونها
الفصيل الفلسطيني المقاوم الأكبر، والذي يعني من جهة ما، أنها اليوم، من حيث حجمها
ودورها، وريثة حركات
المقاومة والتحرر الفلسطيني منذ النكبة وحتّى هذه اللحظة، وهو
الأمر الذي يزيد من العبء الأخلاقي على "
حماس"، كما يزيد من عبء الإحساس
بالرافعة الأهمّ لهذا الموقع، وهو دورها المقاوم.
وفي حين أخذت الجماهير الفلسطينية، في كلّ مكان وُجِد
فيه فلسطينيون، تهتف لرموز المقاومة في حماس، في معركة "سيف القدس"،
وتعود استطلاعات الرأي لتمنحها مكانة متقدّمة، حتى تلك الاستطلاعات التي تصدرها
مؤسسات لا يُعرف عنها التعاطف مع حماس، وذلك بعد غباش الصورة طوال سنوات الانقسام
الملتبسة على كثيرين، وبعد عقبات الحكم والإدارة وما انتصب منها بفعل الحصار
وعمليات الإفشال أو بفعل حداثة التجربة والإخفاقات الذاتية، فإنّ الجماهير نفسها
تنزاح عن الحركة المنافسة الأخرى، "فتح"، التي مثّلت وجه الفاعلية
الفلسطينية، والعمود الفقري للكفاح الفلسطيني لعقود طويلة، وذلك بالقدر نفسه الذي
تخففت فيه هذه الحركة من رافعتها النضالية، وتبنت فيه برنامجا سلطويّا متجرّدا من
الوعود الوطنية الجادّة، وهو ما ينعكس اليوم في ممارسات تستهدف الفعل النضالي في
ساحة الضفّة الغربية بأطرافه المتعددة، وبما ينمّ عن إحساس عميق بافتقاد مطّرد
للشرعيات التأسيسية.
اليوم، من حيث حجمها ودورها، وريثة حركات المقاومة والتحرر الفلسطيني منذ النكبة وحتّى هذه اللحظة، وهو الأمر الذي يزيد من العبء الأخلاقي على "حماس"، كما يزيد من عبء الإحساس بالرافعة الأهمّ لهذا الموقع، وهو دورها المقاوم
وإذا كانت حماس قد وَجَدَت نفسها شريكا أساسيّا إلى
جانب قوى منظمة التحرير الفلسطينية في إطار الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ومن موقع
مستقلّ منافس لـ"القيادة الوطنية الموحدة" التي تمثّلت فيها تلك القوى
في الانتفاضة، وعلى نحو عرّض الحركة لمحاولات إقصاء وتهميش وإفشال لفعالياتها
النضالية، في امتداد لمراحل صعود التيار الإسلامي الفلسطيني داخل الأرض المحتلّة،
منذ أواخر السبعينيات، وما تعرّض له هذا التيار من محاولات الإلغاء، وفي الوقت
نفسه كانت ضرورة تاريخية لمحاولة صدّ تردّي الخيارات السياسية لقيادة المنظمة، والحدّ
من استنزاف المشروع الوطني الفلسطيني الذي أخذ ينزف منذ النصف الأول من سبعينيات
القرن الماضي، فإنّها اليوم تكاد تتفرّد في موقعها، وإن لم تكن الوحيدة فيه،
ولكنّه التقييم، بالنسبة للوزن والدور.
ثمّة نقد لم يزل يُوجّه لحماس لكونها اختارت
الاستقلال عن القيادة الوطنية الموحدة، في الانتفاضة الأولى، لكن هذا النقد لا
يلاحِظ أنّ هذا الاستقلال احتفظ للحركة بحرّيتها خارج أدوات القيادة المتنفّذة
لمنظمة التحرير، فتدبّرت - أي حماس - مواردها، وشقّت مساراتها، ودافعت عن خياراتها،
بما لم يتوفّر لفصائل المنظمة التي عارضت نهج قيادة فتح، التي هي قيادة المنظمة،
دون أن تتمكن تلك الفصائل من تدبّر مكانة مؤثّرة لها؛ تخلق التوازن المطلوب،
ولكنها ظلّت تذوي، مع امتلاك القيادة المتنفّذة أدوات الابتزاز والإضعاف.
إنّ انحياز الحركة عن مشروع السلطة منذ تأسيسها وحتى
العام 2006، وتمسّكها ببرنامجها وخطّها طوال تلك الفترة.. احتفظ لها بمسافة، وسرديّة،
منحتها التأييد الجماهيري الكبير في انتخابات العام 2006. وبالرغم من كون هذا
الخيار الأخير الذي أفضى إلى الفوز بالانتخابات بمآلات ذلك كلّه، لم يزل، بدوره،
محلّ تقييم وتباين في الرأي، فإنّه لم يقطع عن حماس روافد أهمّيتها وضرورتها
التاريخية، والأدوار التي يمكن أن تضطلع بها، وذلك لأنّها ظلّت محتفظة برؤيتها الأساس،
احتفاظا عمليّا استمرّت في مراكمته، من خلال بنيتها المقاوِمة التي تُعدّ أكثر ما
تقدّمه حماس اليوم دليلا على مصداقيتها، ورافعة لا لمكانتها الشعبية فحسب، بل
للمجموع الوطني، ومقولة صلبة في وجه المآلات المأساوية لمشروع التسوية.
ثمة نقد لم يزل يُوجّه لحماس لكونها اختارت الاستقلال عن القيادة الوطنية الموحدة، في الانتفاضة الأولى، لكن هذا النقد لا يلاحِظ أنّ هذا الاستقلال احتفظ للحركة بحرّيتها خارج أدوات القيادة المتنفّذة لمنظمة التحرير، فتدبّرت - أي حماس - مواردها، وشقّت مساراتها، ودافعت عن خياراتها
إنّ قوّة حماس ومقاومتها اليوم، وقدرتها النسبية على
مزاحمة قيادة منظمة التحرير في تدبير الشأن السياسي العام.. تحمي الشعب الفلسطيني
من ادعاء الحديث باسمه لصالح مشروع التسوية، ويفرض مقولة لها تجلّياتها العملية
والواقعية في دفع مشروع التسوية، ويوفّر روافع تعبويّة لجماهير الشعب في سنوات
تجريف العمل العام، وتردّي الخطاب السياسي، وتفكيك الحركة الوطنية، وهو ادّعاء
أثبتته التجربة، حينما انعكست مواجهات المقاومة وحروبها في قطاع غزّة، تعبويّا على
جماهير الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية.
تبدو مسؤولية حماس التاريخية اليوم أثقل ممّا كانت
عليه في بداية تأسيسها، أو في مراحل السلطة الفلسطينية الأولى عبورا بانتفاضة
الأقصى، وذلك لشدّة المأزق الذي تعانيه القضية الفلسطينية اليوم، ومحدودية إمكانات
المناورة السياسية، لا سيما مع استمرار الحصار على قطاع غزّة، وتورّط حركة فتح
بالكامل حزبا للسلطة، بلا احتمال ظاهر لتحوّلها عمّا هي عليه واقترابها نحو بقية
القوى الوطنيّة على أسس برنامج وطني جذري، يقطع مع مشروع التسوية ومنطلقاته
ودوافعه، وبما أنّ مقاومة حماس وأخواتها وحدَها التي صنعت الفارق، وصاغت الروافع
المعنوية، والكوابح المادية في وجه حالة التردّي، فإنّ هذا هو المشروع الوحيد الذي
يحافظ على هذه المسؤولية التاريخية.
هذه المسؤولية التاريخية، وإن كانت تتطلب المزيد من
مراجعة المسارات السياسية، والتحوّط إزاء بعض المسارات التي أضحت كالحلقة المفرغة
التي تستنزف الطاقات والمعنويات، وقد تفضي إلى نتائج معاكسة لما ترجوه حماس، فإنّ
الأفق الوطنيّ والسياسيّ العامّ يتحكم فيه العديد من الفاعلين، بما يجعل المنافذ
فيه محدودة، بينما يفترض بالأفق الخاصّ، الداخليّ، أن يكون أكثر إتاحة لممكنات
المراجعة، وإعادة النظر، وذلك في ما يتعلق بالبنى التنظيمية وأدوات العمل وحدود
الإنجاز والتكاملية والاستثمار الأقصى للكفاءات، وتعزيز صمود المندرجين في الخطّ، وتعظيم
روح الأخوّة، والعدالة الداخلية من جميع جوانبها، وتوفير هوامش من اللا مركزية
للإبداع والاقتراح، ومنابر للنقاش الحرّ والنقد الذاتي بلا مصادرة على كلّ من بذل
قطرة عرق في هذا المشروع الكبير.
twitter.com/sariorabi