تميّزت الحرب الأخيرة بين إقليم
التيغراي والجيش الفيدرالي في إثيوبيا بسرعة تحولات موازين القوة من طرف إلى آخر، ففي الشهور الأولى من الحرب كانت الأمور تميل لصالح الجيش الفيدرالي وحلفائه، لكن سرعان ما تحولت عناصر القوة إلى قوات التيغراي، والتي مكّنتها من السيطرة على الإقليم مرة أخرى والتقدم على الأقاليم الأخرى للضغط على الحكومة الفيدرالية، وفي المرحلة الثالثة فإن موازين القوة مرة أخرى تنتقل إلى الجيش الفيدرالي ولو مؤقتا. وهنا يتساءل المراقبون عن العوامل التي تقف وراء هذه التبدلات السريعة لعوامل القوة والضعف من هذا الطرف إلى الآخر، هل يعود ذلك إلى عوامل ذاتية وموضوعية داخلية؟ أم إلى أخطاء استراتيجية ارتكبها كل طرف في المعركة؟ أم إلى العوامل الخارجية المساندة لطرف دون الآخر؟
وبالعودة إلى بداية الحرب، فإنّ مجموعة التيغراي كانت قد أُخرجت من السلطة، بعد حكمها للبلاد لـ28 عاما، بقبضة من حديد، دون إشراك حقيقي للقوميات الأخرى في الحكم، فعند إبعاد جبهة التيغراي من مشهد الحكم كانت مكشوفة الظهر ولم يتبق لها حليف من القوميات الإثيوبية الأخرى. وخارجيا كانت علاقاتها مع دول الجوار متوترة وخاصة مع إرتريا والصومال.
وفي المقابل، كان آبي أحمد يتمتّع بقبول من القوى الإقليمية والدولية آنذاك، ويجد منها الدعم المعنوي والمادي، من ضمنها حصوله على سلاح الطائرات المسيّرة التي كان لها الدور الكبير في حسم المعركة في الجولة الأولى. فآبي أحمد وانطلاقا من معطيات الترحيب به من المجتمع الدولي ومستثمرا في نقاط الضعف للطرف المناوئ له (التيغراي)، ضرب على الإقليم خناقا داخليا وحصارا خارجيا من دول الجوار. وبعدها أعلن الحرب ضد قوات الإقليم، وفي وقت وجيز استولى الجيش الفيدرالي على المدن الرئيسية في إقليم التيغراي، مسنودا بالقوات الإرترية ومليشيات الأمهرة.
لكن استراتيجية آبي أحمد نفسها كانت تعاني من أخطاء استراتيجية، فباستعانته بالقوات الإرترية وبميلشيات الأمهرة، حوّل
الصراع بالأولى إلى صراع إقليمي، وبالثانية إلى صراع بين القوميتين اللتين يسود بينهما عداء تاريخي. ومثله أيضا ما تعرض له التيغراويون من تشويه عبر الوسائط الإعلامية الإثيوبية المختلفة، دون تمييز بين شعب التيغراي والمجموعة التي كانت تعتبرها الحكومة الفيدرالية خارجة عن القانون، أضف إلى ذلك قطع الإقليم من التواصل الخارجي، بمنعه وصول الوسائل الإعلامية والمنظمات الدولية الأخرى، ورفضه لفتح ممرات آمنة للمدنيين ووصول المواد الغذائية إليهم. كل هذه الأمور أشعرت التيغراوييين بأنّ الصراع الدائر هو صراع وجود لا صراع نخبة في النفوذ وبين الأمرين فرق كبير.
وهنا بدأت تتحولت عناصر القوة من الحكومة الفيدرالية إلى التيغراي بعد أن استطاعت جبهة تحرير التيغراي توحيد القومية في جبهة واحدة، وقامت خلال ثمانية أشهر فقط بإعادة تنظيم قوتها، فبدأت بالهجوم الكاسح من عدة محاور، وخلال فترة وجيزة استطاعت تحقيق نصر عسكري سريع وسيطرت على الإقليم.
ويعود انتصارها إلى عاملين أساسيين؛ داخلي وآخر خارجي. فالداخلي يعود إلى قوة التيغراي الذاتية المتمثلة في التضاريس الجغرافية والدعم الشعبي الجارف من التيغراي، وتوفر السلاح والخبرة في الحرب، ومعرفة تفصيلات العدو والاستثمار الجيد لنقاط ضعف العدو محليا. وخارجيا استطاعت جبهة التيغراي إقناع المجتمع الدولي بأن الإقليم يتعرض لإبادة عرقية من القوات الإرترية ومن مليشيات الأمهرة والجيش الفيدرالي الذي طرد منه التيغراويون، وتم تزويد المنظمات الدولية بأدلة أولية حول ذلك، الأمر الذي جعل القوى الدولية تمارس الضغط الشديد على الحكومة الفيدرالية وحلفائها من القوات الإرترية ومليشيات الأمهرة للانسحاب من الأقليم فوراً، والسماح للمنظمات الإنسانية لتقديم المعونات للسكان والحقوقية للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبت في الإقليم. هذه الأمور وغيرها مجتمعة جعلت تتحول عناصر القوة إلى التيغراي في الجولة الثانية من المعركة.
ويبدو أنّ استراتيجية التيغراي قائمة على توسيع نطاق المعركة إلى الأقاليم الأخرى، لتنهي الحصار عليها أولا وإزاحة آبي أحمد من السلطة ثانيا، وبناء عليه تقدمت إلى الإقليمين العفري والأمهري، وحققت اختراقات كبيرة في البداية وخاصة في إقليم الأمهرة، حتى وصلت إلى مناطق تبعد عن أديس أبابا حوالي 220 كيلومترا. لكن في إقليم عفر واجهت مقاومة شديدة من القوات العفرية المدعومة من الحكومة الفيدرالية، إلى أن دحرت قوات التيغراي في الإقليم العفري بالكامل. وشن الجيش الفيدرالي أيضا هجوما مضادا على قوات التيغراي التي كانت تزحف إلى أديس أبابا وتم إلحاق الهزيمة بها في إقليم الأمهرة حسب إفادات قيادات الجيش الفيدرالي. وأمّا قيادات التيغراي فتقول إن الإنسحاب من تلك المناطق كان انسحابا استراتيجيا.
ومهما يكن من ادعاءات الطرفين، انهزاما أو انسحابا استراتيجيا، فإنّ الشيء المؤكد حتى الآن أن هناك مدنا مهمة من إقليم الأمهرة عادت لأيدي الجيش الفيدرالي، وأنّ قوات التيغراي قد تشن هجوما مضادا تحقق فيه انتصارا أو تتعرض فيه إلى انكسار.
على العموم، إن جبهة التيغراي لم تستطع حتى الآن كسر الحصار المفروض على الإقليم، وكلما طال أمد الحرب دون الحسم سيخصم من رصيدها وسيكون لصالح الحكومة الفيدرالية لأنّها تملك الكثافة السكانية والموارد المالية. ومن هنا يبدو مرة أخرى أن موازين القوة تتحول من التيغراي إلى طرف الحكومة الفيدرالية وحلفائها طبقا لتغيّرات الواقع في أرض المعركة.
ومما سبق يفهم أنّ طرفي الصراع في إثيوبيا ما زالا يتبنيان المعادلة الصفرية، ويسعى كل طرف منهما لحسم الصراع عسكريا دون الالتفات إلى الحلول السياسية. والمتتبع لتطورات الأحداث في إثيوبيا عبر التاريخ يجد أن هذه المعادلة صعبة الحصول، ومن ثمّ تبدو الأمور في إثيوبيا تتجه نحو احتمالين: احتمال أن يصل الطرفان إلى التوازن السلبي، بعبارة أخرى أن يضعف الطرفات فيجنحان إلى التفاوض السلمي، والاحتمال الثاني أن تنزلق الأمور إلى حروب عرقية واسعة النطاق في إثيوبيا.