البحر وغزة، جسد وروح لا يستطيع أحدهما العيش بعيدا بمنأى عن الآخر، حيث ارتبطت مدينة غزة ارتباطاً وثيقا ومنذ القدم بالبحر وخاصة المنطقة الغربية الجنوبية، حيث يوجد باب البحر وما يعرف باسم "باب مايوماس" أو ميماس أحد الأبواب الثمانية لواحدة من أقدم مدن العالم.
وتروي غزة على أرضها حكايات وقصصاً عشقها الساكن فيها، فقد بنيت على هذه الطريقة المعمارية منذ زمن بعيد، لتبقى لوحة مسكونة بخطوات من مروا عليها عبر الزمن وأقاموا فيها من أقوام وشعوب، غزة العتيقة تحمل عبق آلاف السنين من معمار أثري، يحرسها شاطئ البحر من الناحية الغربية ليكون جزءا من تاريخها وحضارتها ويكون حاضرا في كل الحقب التاريخية.
أطلت غزة على بحرها من ثمانية أبواب سميت بأسماء المنطقة المطلة عليها، والتي كان من أهمها ميناء "مايوماس" الذي احتلته القوات الإسرائيلية إبان عدوان عام 1967م في محاولة لطمس الهوية والسطو على آثاره.
وحاولت قوات الاحتلال فرض "مخطط بازيلكيا" مربع الشكل على هذا الميناء التاريخي وذلك لإثبات أنه نظام معماري لكنيس يهودي، وقامت هذه القوات بتفكيك وسرقة الفسيفساء من مكانها الطبيعي وإعادة بنائها بما يتوافق مع أطماع المحتل.
يقول الدكتور جمال أبو ريدة، مدير الإدارة العامة للآثار والتراث الثقافي في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية: "يقع ميناء مايوماس عند مزار الشيخ شعبان في البلدة القديمة من مدينة غزة، وتبلغ مساحته حاليا معظم مساحة ميناء غزة القديم، ويدخل تحت منطقة الشاطئ الغربي لغزة وشارع الكورنيش والمناطق المحاذية له الى الشرق والجنوب الشرقي من مدينة غزة في المنطقة الساحلية".
ويضيف أبو ريدة لـ "عربي21": "يعد موقع مايوماس الأثري ثاني أهم ميناء بحري في تاريخ غزة بعد ميناء الأنثيدون الذي كان أواخر العصر الروماني والعصر البيزنطي، وكان مأهولا بالسكان بصورة دائمة، وأصبح مدينة ساحلية مزدهرة ومتطورة خلال الفترة الرومانية البيزنطية".
وأشار إلى أن التجارة البحرية ازدهرت في العهود القديمة لوجود الموانئ التي تطل عليها، وتدر عليها الأموال، مؤكدا على أنه كان من أبرزها ميناء الأنثيدون في العهد اليوناني ـ الهلنستي، وميناء مايوماس في العهد الروماني البيزنطي، والذي ظل استخدامه حتى العهد الإسلامي.
وأوضح أنه خلال العصر الروماني كانت المنطقة جمعاء تعرف باسم ميناء غزة، وكان هذا الميناء خاصا بتصدير البهارات، حيث كانت التجارة تتم فيها، مثل تجارة الأعشاب العطرية والبهارات والبخور والأقمشة والزجاج والمواد الغذائية.
وأكد على أن البضائع كانت تصل إلى ميناء مايوماس على ظهور الجمال من جنوب شبه الجزيرة العربية "مملكة سبأ" عبر البتراء، وادي عربة عبورا لصحراء النقب ثم إلى غزة، وتصدر عن طريق البحر من خلال ميناء مايوماس.
وأوضح المسؤول الفلسطيني أن موقع مايوماس لم تجرِ له أي عمليات ترميم أو تنقيب بالرغم من أنه يضم أهم المواقع الأثرية المتمثل في موقع الكنيسة البيزنطية غرب غزة والتي سرق الاحتلال أرضيتها الفسيفسائية قبل خروج قواته العسكرية من القطاع عام 1994م.
وحذر مدير الإدارة العامة للآثار والتراث الثقافي في وزارة السياحة والآثار من أن المد الحضري والعمراني باتت يهدد موقع ميناء مايوماس ويحاصره من جميع الجهات، كما أن الجزء الغربي المواجه لشاطئ البحر يتعرض لعوامل انجراف مياه البحر له بسبب تغييرات حدثت على ساحل بحر مدينة غزة.
ومن جانبه أوضح الباحث في التاريخ طارق العف أن أصل كلمة "مايوماس" هو تسمية باللغة اليونانية القديمة والتي تعني "مكان المرفأ" أو "إله الماء".
وذُكر أن أصل كلمة "مايوماس" مشتق من كلمة مصرية، ومعناها "المكان البحري".
وقال العف لـ "عربي21": "في فترة الإمبراطورية البيزنطية عرف ميناء مايوماس باسم قسطنديا تيمنا باسم أخت الإمبراطور الروماني قسطنطين الذي اعترف بالديانة المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية".
وأضاف: "كانت مايوماس مركزًا مبكرًا لانتشار المسيحية، ما قد يفسر معاملة قسطنطين وجوليان لوضعها حيث تم اعتبارها من المدن التي نالت شرف اهتمام الإمبراطورية الرومانية".
طارق العف.. باحث فلسطيني
وأشار إلى أن قاطني وسكان ميناء مايوماس كانوا أكثر قابلية لانتشار المسيحية فيها فقد اعتنقوا النصرانية منتصف القرن الرابع الميلادي، وتكريماً لهم قام الإمبراطور قسطنطين الكبير برفع درجة البلدة إلى مدينة police واعطاها أسمه اذ أصبح اسمها قسطنطينية.
وقال العف: "بلغت التجارة أوجها في الميناء البحري وجمع أهلها الجمارك والرسوم كعوائد من الميناء للسلع ونهضت العديد من المصانع التي كانت في الريف للإنتاج الزراعي، لكن عاد الوثنين بقيادة الإمبراطور جوليان (361- 363)م، الملقب بالمرتد من السيطرة على مدينة مايوماس وعادت لمنزلتها القديمة نهاية القرن السادس الميلادي".
وأضاف: "ارتقت العمارة الدينية في مايوماس نهاية القرن الخامس الميلادي وبداية السادس، فقد كانت عامرة بالأديرة والكنائس والمزينة بالفسيفساء على النظام البازيلكي".
وأوضح أن مايوماس كانت مقابلة لكنسية القديس فيكتور حسب ما مثلت في الخريطة مأدبة وحملت الكنيسة درجة أسقفية.
وقال العف: "في العام 2015 استخرجت وزارة السياحة والآثار طاحونة أثرية من داخل ميناء غزة مصنوعة من البازلت، كانت تستخدم لطحن الحبوب تعود لمدينة مايوماس ومينائها البحري وهي معروضة حاليا ضمن المقتنيات الأثرية بمتحف قصر الباشا".
بدوره أكد الكاتب والصحفي أمجد ياغي على أهمية الحفاظ على هذا المواقع الأثرية بشكل عام وموقع مايوماس بشكل خاص لأهميته التاريخية، وإبراز دورها الهام ليس في غزة وحدها بل في فلسطين عامة وجمعها سواء كانت قطع أثرية منقولة، أو عمائر ثابتة اكتشفت فيه.
أمجد ياغي.. صحفي فلسطيني
وقال ياغي لـ"عربي21": "إن دور الإعلام في إبراز الآثار الفلسطينية لا يرتقي إلى جيد جدا، وذلك لاقتصاره على التقارير بالعموميات دون التخصص بشرح عميق لطبيعة الاثار الفلسطينية وارتباطاتها التاريخية".
وأضاف: "ينقصنا كصحفيين المصادر باللغات الإنجليزية والإسبانية والفرنسية وذلك لعدم وجود مختصين في هذا المجال، وذلك لتمكين دور الصحافة في تعزيز المصادر الرسمية، وعدم الاكتفاء بآراء المختصين دون الرجوع للمصادر الرئيسية".
وبين ياغي أن السيطرة الحزبية على الإعلام واقتصاره على إبراز القضايا الحزبية وأنشطتها، والمناكفات فيما بينهم يعتبر من أهم الصعوبات التي تواجه الإعلاميين في إبراز قضايا التاريخ والآثار الفلسطينية على الصعيد المحلي.
وأكد أن عدم وجود تقاريرمختصة في التاريخ والآثار الفلسطينية أوجدت فجوة كبيرة من خلال تعزيز دور الصحافة الفلسطينية في الكتابة عن الآثار الفلسطينية.
وشدد ياغي على ضرورة توفير الإمكانيات للصحفيين للتغطية والكتابة من مترجمين مختصين في هذا المجال والتي من أقلها الأرشيف الفلسطيني لتلك المواقع وبلغات عدة.
وطالب الكاتب والصحفي بالتواصل مع كافة الجهات المعنية سواء الرسمية أو غير الرسمية، وإخبارها بالأهمية التاريخية والحضارية للمواقع الأثرية.
"الوعد" للفنون الشعبية الفلسطينية.. حين تغني للهوية والوطن
مخيم الدهيشة "المؤقت" يحلم بالحرية و"اليونسكو"
الشاعر فائق فريد عنبتاوي.. هوية فلسطينية في ميادين النضال