الوضع الذي انتهى إليه العالم العربي بعد تعثرات الثورات العربية، صار يسائل مستقبل الديمقراطية، وهل هناك إمكانية لتوطينها، ولو في الحد الأدنى الذي تمثله التوافقات حول الانتقال الديمقراطي.
التجربة الوحيدة التي صمدت من تجارب الانتقال الديمقراطي عقب ثورات الشعوب العربية هي التجربة التونسية، لكن، التحولات التي تعرفها تونس اليوم، بعد تعليق قيس سعيد عمل البرلمان، وتحويله التدابير الاستثنائية إلى مرجعية تسمو على الوثيقة الدستورية، لم تبق أي سابقة يمكن البناء عليها لتصور إمكانية توطين الديمقراطية في العالم العربي.
القوى الديمقراطية لتسويغ عدم وجود أي خيار لتحرر الشعوب غير الديمقراطية، تستعين بفلاسفة الانتقال الديمقراطي، للحديث عن أن خط الانتقال إلى الديمقراطية ليس بالضرورة خطا صاعدا، وإنما قد يأخذ شكلا متموجا لولبيا بحسب طبيعة التدافع مع قوى النكوص الديمقراطي، لكن هذه الحجة، تكون قوية، إذا استمرت هذه القوى بنفس الثقل في موازين القوى، لا يتراجع وضعها، فتصير في هامش المعادلات السياسية المؤثرة.
المعادلة التي كانت عليها موازين القوى السياسية قبل الثورات العربية، كانت محكومة بقوة الإسلاميين وتصدرهم للمشهد السياسي، وصراع على التجذر الشعبي بين الإسلاميين والقوى الديمقراطية، مع ميل السلطوية إلى تدبير تحالفاتها بالشكل الذي يمنع حصول أي تحالف موضوعي بين القوى التواقة نحو الديمقراطية (كتلة تاريخية مثلا).
في حين، صارت معادلة ما بعد خريف الديمقراطية في العالم العربي، في أحسن الأحوال هي تقوية السلطوية وإنهاك القوى الإصلاحية والديمقراطية (حالة تونس ومصر)، وفي أسوئها، انفراط شروط التعاقد السياسي أو عدم تحققه بعد، وفتح الباب أمام المجهول بالنسبة لعدد من البلدان (اليمن، سوريا، العراق، ليبيا)، وذلك بسبب الوقوع في دائرة صراع الإرادات الدولية والإقليمية.
هذا التحول في المعادلة السياسية، بدأ يسائل بشكل كبير مستقبل الديمقراطية، وهل تعتبر سفينة النجاة بالنسبة للعالم العربي، أم أن الرهان عليها، زاد من تعميق الصراع حول السلطة، وزلزل التعاقدات السياسية التقليدية، دون أن ينجح في بناء تعاقدات جديدة، وعرض الدول إلى أزمة السيادة، وأدخل القوى الدولية والإقليمية إلى دائرة التأثير في القرار وتحديد مصير البلد، في الوقت الذي كانت فيه مجرد أدوات للضغط أو مجرد تحديات يتم إنتاج أشكال وصيغ للاستجابة إليها دون الاضطرار إلى التفاوض معها على السيادة.
لماذا الديمقراطية معضلة في العالم العربي؟
بعض القوى الديمقراطية، ترى أن مجرد جعل الديمقراطية محل تساؤل، يعني التموقع في خانة القوى الممانعة للديمقراطية والتحرر، بل يعني في عرفها الاتهام مباشرة بخدمة السلطوية.
لكن هل مساءلة الديمقراطية يعني مساءلة مضمونها، أم التشكيك في واقعيتها وعدم قابليتها للتطبيق في العالم العربي.
في نقد القوى الديمقراطية والعلمانية للإسلاميين، كانت دائما تدفع بحجة التطبيق والسوابق. ففي الحالة التي يتم فيها التأكيد على عدم وجود سابقة، أو على وجود سوابق فاشلة، يتم استنتاج خلاصة جوهرية مفادها طوباوية الحل الإسلامي ومعياريته وتاريخيته.
لكن هذه القوى ترفض أن تطبق حجتها على الديمقراطية، وتنتج حجة جديدة، تستلهمها من موجات الانتقال الديمقراطي في العالم، الأولى والثانية والثالثة، وتستعين بحجة التموج واللولبية في مسارات الانتقال إلى الديمقراطية، ثم حجة اختلاف أشكال هذا الانتقال من تجربة لأخرى، لتبرهن على أن الموجة الرابعة، وإن تأخرت، أو تعثرت، فهي قادمة بشكل حتمي لا تشكيك فيه، وأن الحتمية الديمقراطية العربية، مسألة لا تقبل النقاش.
الواقع، أن الحجج التي تستعملها القوى الديمقراطية هي نفسها التي كانت ترفضها حين كان يستعملها الإسلاميون، حين كانوا يبشرون بحتمية عودة الإسلام، وأن عدم نجاح التجارب المحدودة، لا يعني عدم إمكانية التطبيق، وأن التمكين للفكرة الإسلامية، دونه مقاومات، وأن التعثرات لا تعني بالضرورة، نهاية المعركة، بل هي صعوبات تدل على صحة الطريق، وصوابية الاختيار!
لا نريد بهذه المساجلة الجزئية أن نتورط في ثنائية غير مقصودة في هذا المقال، فالقصد هو إزالة المصادرات والمسبقات الجاهزة، حتى يتم توفير شرط الاستماع إلى الأفكار الجديدة.
لفهم معضلة الديمقراطية في العالم العربي، يتطلب الأمر تعريف الديمقراطية في سياقها الوظيفي، أي الوظيفة التي قامت بها في سياق تاريخي. فالديمقراطية، كفلسفة للحكم، نشأت في السياق الغربي، كتركيب، أو كتسوية للصراع بين القوى والتشكيلات الاجتماعية المتصارعة، فتعرفت وظيفيا بكونها آلية تعاقدية لتدبير الصراعات، ومنع تحولها إلى حرب، فالصراع الذي احتدم بين النخب الاقتصادية في السياق الغربي، والذي كان يوشك أن يتحول إلى حروب أهلية طاحنة، لم يكن هناك من خيار لتدبيره سوى بتسوية، كانت الديمقراطية هي آليتها المركزية، سواء في بعدها السياسي (المشاركة السياسية، الحسم بالأغلبية، وحماية حقوق الأقليات، وضمان مبدأ التعددية، والتداول على الحكم) أو في بعدها الفكري الفلسفي (الحريات والحقوق).
ملخص التعريف الوظيفي للديمقراطية كما ارتسم في سياق تاريخي، أنها نشأت في بنية مجتمعية محكومة بالصراع والتناقض، وأنها وضعت بالأساس لتدبير النزاع، ودمج التناقضات في تركيب، يجعل من الصراع المحكوم بقواعد اللعبة الديمقراطية، أداة لتنمية المجتمع وتقدمه.
سؤال فعالية الديمقراطية في الوطن العربي، يبدأ من تحديد طبيعة المجتمع العربي، وهل بنيته المجتمعية محكومة بمنطق التناقض أم بمنطق الوحدة، وهل هذه الطبيعة تقبل أن تجعل من الصراع وتدبير التناقضات أداة لترقية المجتمع، أم أن إدخال الصراع على بنية قائمة في الأساس على منطق الوحدة، سيجعل من البنية الجديدة أداة لهدم هذه الوحدة؟
لم تستطع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تحمل صعود الإسلاميين للحكم، واضطرت إلى أن تتبنى سياسة جعل استمرارهم في الحكم مستحيلا، بعد أن خاضت مسارات كثيرة لترشيدهم، ودفعهم لمربع الاعتدال، والتبشير بمحوريتهم في الانتقال الديمقراطي.
ما من شك أن هذه الأسئلة، ستثير حفيظة القوى الديمقراطية، وسيتم الاعتراض عليها بمساءلة بنية المجتمع، والتشكيك في أطروحة قيامها على الوحدة، والتأصيل لفكرة جوهرية الصراع، وأنه قانون يحكم المادة، كما يحكم البنى والتشكيلات الاجتماعية.
في ملاحظة ابن خلدون الاجتماعية للعالم العربي، أو على الأقل، للعرب كما كان يسميهم، انطلق من قاعدة التوحش، والتي كان يقصد بها عدم الانضباط للسلطة، ثم ثناها بقاعدة طبيعة التنافس على الرئاسة في النفسية العربية، وانتهى بذلك إلى تركيب، رأى فيه أن العرب، لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية. تعليل ابن خلدون للخلاصة الذي انتهى إليه، أن غياب الانقياد يرجع بالأساس إلى عدم إسلام البعض للآخر بالرئاسة بسبب أن كل طرف يرى أنه أحق بها من الآخر، وأن الانقياد الوحيد الممكن، هو ما كان من خلال رابطة دينية.
الاستدلال بابن خلدون، في هذا السياق مشوش، فالبعض يمكن أن يفهم منه تسويغ فكرة الشرعية الدينية للحكم، مما يعتبر أمرا خلافيا بين مكونات الطيف السياسي لاسيما الإسلامي والعلماني، لكن المقصود هو غير ذلك، لأن جوهر كلام ابن خلدون، ينصرف إلى شيء آخر، فإذا كان التوافق السياسي من خلال الديمقراطية، قد حل في العالم الغربي صراع النخب الاقتصادية وألزمها بقواعد تدبير خلافاتها، فإن المعادلة مقلوبة في العالم العربي، إذ الصراع يبدأ في الجوهر في مربع السياسة، فيكف يكون التوافق السياسي مدخلا لحل أنماط من الصراعات الأخرى، وهو نفسه، منطقة التوتر التي تحتاج ابتداء إلى حل قبل المضي إلى المستويات الأخرى من الصراع؟
خلاصة ابن خلدون جوهرية، لأنها تنطلق من افتراض فعالية بناء الوحدة السياسية كأصل مرجعي، يمكن من خلاله، تدبير مختلف الأنماط من الصراعات الأخرى. ولذلك، كانت ملاحظته، في سياق الشروط التاريخية التي كان يعيش فيها، أن ما يوفر هذه الوحدة السياسية، ويقضي على أسباب الصراع على الحكم والرئاسة هو الرابطة الدينية.
ولذلك، فالاستنتاج الذي يمكن أن نقرأ من خلاله ملاحظة ابن خلدون، هو مركزية الوحدة السياسية، وأسبقيتها، وفعاليتها في تدبير الصراعات الأخرى، وأنه يستحيل بالمطلق، أن يتم البدء في العالم العربي، بورش تدبير النزاع حول السلطة بالآلية الديمقراطية، للرهان عليها لتسوية مختلف النزاعات التي تنشب بين النخب، خصوصا منها الاقتصادية، لأن هذا الورش، سيقوض الوحدة السياسية، ويجعلها غير ممكنة الحصول، وسيدفع بالصراعات الأخرى، لتفتح على مصراعيها، وسيكون الصراع على السلطة بين الأطراف المتصارعة سببا في استدعاء القوى الإقليمية والدولية.
لماذا الديمقراطية غير ممكنة عربيا؟
ثمة خمس حجج تجعل الديمقراطية غير ممكنة عربيا:
أولها، أن فلسفتها السياسية تقوم على الإزاحة، والتداول السياسي، وهو ما يجعل آليتها الرئيسة هي الصراع. فالنخب السياسية التي تريد الوصول إلى السلطة، تمارس مختلف آليات الصراع السياسية لإزاحة النخب الحاكمة، بحيث ينضبط الصراع لقواعد لعبة، يتم احترامها من لدن مختلف الفاعلين السياسيين، ويكون القانون هو الحاكم، ويتم الاحتكام إلى سلطته (القضاء) للحسم في مختلف النزاعات بين القوى السياسية، كما تنشأ مؤسسات دستورية، بوظيفة إحداث التوازنات السياسية، حتى لا يتم تغول سلطة على أخرى.
التجربة الغربية ليست نموذجية في تطبيق قواعد اللعبة، وإن كانت نجحت من حيث الظاهر في تأمين التداول السلمي على السلطة، فالمؤسسات داخل الدولة الغربية، لا تشتغل بحيادية، كما هو التأثيث الديمقراطي لها، والقضاء نفسه، ليس سلطة بعيدة عن نفوذ السلطة التنفيذية، وإن ظهر في كثير من القضايا بهذا المظهر المحايد المستقل.
في العالم العربي، تبرز الديمقراطية كمعضلة من جهة وظيفتها، أي الإزاحة لنخب الحكم، وتنصيب أخرى في محلها، كما يطرح تنزيلها سؤال حيادية المؤسسات، ومدى وجود قواعد لعبة في الأصل، فضلا عن احترامها.
تجارب الانقلابات في العالم العربي كثيرة ومطردة، وتبين أنه في اللحظة التي تصير الإزاحة ممكنة، يتم الجواب عنها بتغيير كامل في الحالة الدستورية أو القانونية (حالة الطوارئ) أو المؤسساتية (تعطيل مؤسسات الحكومة والبرلمان)، وربما تغيير في النظام السياسي (من برلماني أو من مختلط إلى رئاسي).
دون تجارب الانقلابات، هناك شكل آخر للاستجابة إلى ضغط الإزاحة، هو تحويل نخب الحكم مؤسسات الدولة إلى بنية تحكمية، تعطل وظائفها الحيادية، وتصير أداة لصنع شرعية هذه النخب، وإضعاف خصومها.
من جهة قواعد اللعبة، يمكن أن نكتفي ـ للتمثيل ـ بالقواعد التي تحكم العملية السياسية، سواء في البعد المرتبط بالإدماج، أو البعد المرتبط، بالإطار القانوني المكيف للتمثيلية، أو في ضمانات نزاهة الانتخابات.
في العالم العربي، تبرز الديمقراطية كمعضلة من جهة وظيفتها، أي الإزاحة لنخب الحكم، وتنصيب أخرى في محلها، كما يطرح تنزيلها سؤال حيادية المؤسسات، ومدى وجود قواعد لعبة في الأصل، فضلا عن احترامها.
في التجارب الديمقراطية الغربية، يعتبرون هذه القواعد مركزية وحاكمة، ولذلك تكون مؤطرة بقانون، فيحسم بالأغلبية، أو يتم التوافق عليه بين النخب السياسية بعد إشراك المجتمع والإعلام في نقاش عمومي حوله.
في العالم العربي، تتحكم السلطة في صناعة هذه القواعد، حتى دون أن تدري النخب، خلفياتها، فتتكلف السلطة بصلاحية التقطيع الانتخابي، وتملك صلاحية الإبقاء على اللوائح الانتخابية أو تعديلها، وتملك صلاحية التحول من نمط اقتراع إلى آخر، مع التحكم في العتبات والكوطات الانتخابية، وأشكال إدارة العملية الانتخابية، مما يعتبر جوهريا في صناعة الخارطة الانتخابية، كما تتحكم في الإدماج السياسي بنفسه، فترخص لبعض الأحزاب لاسيما منها الموالية، وتمنع الأخرى لاسيما منها المعارضة، وتملك من الصلاحيات الواسعة لتعليل ذلك، وربما لا تحتاج لتعليل، فقط لأنها تدرك أن هذه القواعد، جوهرية في فعل الإزاحة، ولذلك، تمسك بها، وتجعلها أداة لخدمة شرعيتها وإدامة موقعها في السلطة.
الحجة الثانية: أن آلياتها قائمة على الضغط، فالنخب السياسية في السياق الغربي، تكسب مواقعها من خلال شبكات الضغط التي تقوم بها، سواء من خلال تحالفاتها مع النخب السياسية أو الاقتصادية، أو المدنية، أو من خلال تعبيراتها في الإعلام، أو من خلال امتداداتها في البنية الإدارية، فالنخب السياسية الغربية تشتغل بنموذج اللوبيينغ، وكلما توسع نشاط هذا اللوبي المتعدد الواجهات، كلما استطاعت هذه النخب أن تحقق هدفها في الوصول إلى السلطة.
على أن هناك ضابطا مهما، يؤطر عمل ضغط هذه اللوبيات، وهو ألا يتجاوز السيادة، وألا يتم استدعاء القوى الخارجية سواء كانت إقليمية أو دولية، في معادلة الصراع الداخلي.
في العالم العربي، ترتبط النخب الاقتصادية والإعلامية بالسلطة، وتشكل البنى الإدارية للدولة امتدادا للنخب السلطوية، وثمة آليات، يتم اللجوء إليها خارج القانون، لمعاقبة النخب الاقتصادية والإعلامية، إذا فضلت الاشتغال بعيدا عن أجندة السلطة السياسية.
في العالم العربي، ليس مسموحا للنخب الاقتصادية أن يكون لها تعبيراتها الإعلامية التي تدافع عن مصلحتها باستقلال عن أجندة السلطة، وهي تشتغل أصلا، وتبرر وجودها، بالامتيازات التي تمنحها السلطة. ومن ثمة، فإن أي ضغط مفترض، يمكن أن يأتي من قبل النخب الاقتصادية، هو في حكم المستحيل، ما لم تأت شروط إقليمية ودولية عارمة، تضعف شرعية الحكم، وتدفع النخب الاقتصادية للخروج عن تحكمه.
الضغط الوحيد الذي تتعدد صوره في العالم العربي، هو الذي يأتي من قبل القوى الديمقراطية، أو الأحزاب الإسلامية، أو من خلال شبكات المجتمع المدني، أو من بعض التعبيرات الإعلامية المحدودة من حيث المؤسسات وأيضا من حيث الفاعلين.
في العالم العربي، ليس مسموحا للنخب الاقتصادية أن يكون لها تعبيراتها الإعلامية التي تدافع عن مصلحتها باستقلال عن أجندة السلطة، وهي تشتغل أصلا، وتبرر وجودها، بالامتيازات التي تمنحها السلطة.
مشكلة هذا الضغط أنه محدود، من جهة كون وزن الفاعلين فيه غير مؤثرين في العملية السياسية (محدودية الإدماج) وتملك فيه نخب الحكم خيارات للانفلات منه، كون شبكات المجتمع المدني، تستقوي فيه بالخارج ومنظماته السياسية والحقوقية، وكون نخب الحكم، تملك خيارات تقديم امتيازات للدول الأجنبية، حتى تصير معادلة دعم الأنظمة السياسية، أضمن لمصلحتها من معادلة دعم التحولات السياسية والديمقراطية.
النماذج العربية كثيرة، على قدرة الأنظمة على التحلل من الضغوطات، والنموذج المصري، يعتبر في هذا السياق من أقوى النماذج على ذلك.
الحجة الثالثة: الإعاقة الغربية: من الحجج القوية على أن حتمية الموجة الرابعة للديمقراطية غير أكيدة، أن مختلف الموجات الثلاث السابقة، وجدت من يدعمها ويساندها، ووفر المناخ الدولي شروطا لنجاحها، في حين، تقدم تجربة الربيع العربي، حجة إضافية على أن الإعاقة الديمقراطية في العالم العربي، تأتي من الدول التي تضغط على الدول العربية بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكي تكون في نهاية المطاف خصيمة للديمقراطية وحقوق الإنسان.
الدول الغربية لا تهمها ديمقراطية العالم العربي، أكثر من مصالحها، وحتى وهي تفكر في دعم التحولات الديمقراطية في العالم العربي، فإنما كانت تفعل ذلك، من جهة تقدير أن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة العربية مرتبطة بدعم التحولات، وفي الوقت الذي برزت لها معضلة الإسلاميين، وقعت في ضيق الاختيار، بين دعم تحولات سياسية تفضي إلى صعود طرف سياسي تنظر إلى وجوده في السلطة كتهديد لمصالحها، وبين الاستمرار في دعم الأنظمة الاستبدادية بما يهدد مصالحها ويوفر البيئة الخصبة لتناسل الخطر الإرهابي.
في المحصلة، لم تستطع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تحمل صعود الإسلاميين للحكم، واضطرت إلى أن تتبنى سياسة جعل استمرارهم في الحكم مستحيلا، بعد أن خاضت مسارات كثيرة لترشيدهم، ودفعهم لمربع الاعتدال، والتبشير بمحوريتهم في الانتقال الديمقراطي.
كانت فلسلفة الولايات المتحدة الأمريكية في دعم التحولات تفترض أن الذي سيتصدر العملية الانتخابية هي النخب الحليفة، لكنها أدركت من خلال قراءة المعادلة السياسية العربية، أن النخب الحليفة (النخب العلمانية) هي نخب أقلية هامشية، لا تتمتع بالقاعدة الجماهيرية التي تؤهلها للفوز بالانتخابات، ولذلك، غيرت تصورها لجهة الاستثمار في اعتدال الإسلاميين. لكنها في المحصلة، وجدت نفسها -كما دائما-أمام خيار الدفاع عن مصالحها التي تقتضي إزاحة الديمقراطية أو منع استمرار مخرجاتها.
الحجة الرابعة: عدم حياد المؤسسة العسكرية والأمنية: في الصيغة الديمقراطية الغربية، ثم قاعدة حاكمة، تأخذ حساسية شديدة، وتحظى بإجماع مختلف الفاعلين، وهي أن الجيش والقوات الأمنية، هي ذات وظائف للحماية والأمن داخليا وخارجيا، وأنها ليست طرفا في الصراع، ولا أداة بيد أحد الأطراف.
في التجربة الديمقراطية، تمت المحافظة على هذه القاعدة، وإلى اليوم، لم تعرف هذه التجارب خروجا أو انزياحا عنها، لأن مختلف الفاعلين السياسيين، يعتبرون أن إقحام هذه المؤسسات في اللعبة السياسية، وتوظيفها في الصراع السياسي، لا ينتج عنه فقط نسف الديمقراطية، بل سينتج عنه إدخال البلاد في حرب أهلية، أو العودة إلى مربع الاستبداد.
في العالم العربي، ورغم حرص الوثائق الدستورية على تأكيد حيادية هذه المؤسسات، وتكلفها بمهمة الأمن الداخلي والخارج للبلاد، إلا أن واقع الممارسة يؤكد أن أكبر عائق أمام توطين الديمقراطية في العالم العربي، هو سلطة القوة الذي تمتلكه النخب الحاكمة، تلك السلطة التي تستمدها من المؤسسة العسكرية والأمنية.
التجارب القريبة تؤكد ذلك، فالتجربة الديمقراطية في الجزائر تم إجهاضها في بداية التسعينيات من قبل مؤسسة الجيش، والتجربة الديمقراطية في مصر أجهضت بدور للمؤسسة العسكرية، والتجربة الديمقراطية في تونس، أجهضت بدور من المؤسسة الأمنية والعسكرية، وما يجري في السودان من تطورات يعزز هذه الحجة، بل ومن تواتر هذه التجربة، أصبحت تتعزز لدى كثير من المثقفين مقولة وجود دولة عميقة ترتكز على أركان متينة، على رأسها المؤسسة العسكرية والأمنية.
الحجة الخامسة: تطويع العوام: لقد أظهرت الطريقة التي تم اللجوء إليها في كل من مصر وتونس، أن أخطر عائق أمام توطين الديمقراطية في العالم العربي، هو قدرة السلطة على تطويع العوام، وتحريك اتجاهاتهم، وصناعة مواقفهم، وتأليبهم ضد النخب السياسية، من خلال التحكم في جملة العناصر التي تعتبر حيوية في معاشهم ومتطلباتهم اليومية، فقدرة السلطة على التحكم في إمداد وقطع خدمات الكهرباء وحده، يكفي لصناعة رأي عام معارض يسقط النخب التي تتحمل مسؤولية التدبير الحكومي، فما بالك إن كانت السلطة تمتلك الأزرار المتعددة، التي تستطيع بها التحكم في مزاج العوام، وتحريك مواقفهم، وتألبيهم ضد النخب السياسية، فهي التي تتحكم في التموين، وفي خدمات الماء والكهرباء، وهي التي تتحكم أيضا في تأمين الخدمات الصحية والتعليمية والبيئية (جميع النفايات)، وتملك أن تجعل من هذه السلطة أداة لتكييف الرأي العام وتطويع العوام، وخلق حالة هيجان موجهة ضد نخب في الحكم قصد إزاحتها أو معاقبتها انتخابيا.
في العالم العربي لا توجد قواعد للحياد، ولا توجد خطوط حمر تمنع السلطة من استثمار هذه الخدمات الحيوية، وجعل الجمهور أداة في يدها تهيجها ضد النخب وتستعملها من أجل إزاحتهم. في حين تعتبر أغلب هذه الخدمات في الغرب، غير ذات علاقة بالسلطة، وتحدد صلاحيات كل جهة بدقة، بحيث يصير قطع الإمداد من أي مادة حيوية، موجها للاحتجاج إلى الجهة المعنية، لا الجهة التي لا تملك الصلاحية، أو عطلت صلاحيتها، أو أعيقت عن تنفيذها.
هذه خمس حجج أولية، في النقاش، نقدمها بين يدي فكرة بدأت تتبلور حول مستقبل الديمقراطية في العالم العربي، ترى أن الجوهري في العالم العربي، على الأقل، في هذه المرحلة المشوبة بتحديات الاستقرار والأمن والتجزئة والأجندات الإقليمية والدولية، هو خلق وحدة سياسية، ورهان على الاستقرار، مع ضمان أوسع قدر من الحريات.
في العالم العربي لا توجد قواعد للحياد، ولا توجد خطوط حمر تمنع السلطة من استثمار هذه الخدمات الحيوية، وجعل الجمهور أداة في يدها تهيجها ضد النخب وتستعملها من أجل إزاحتهم.
التركيب الذي يمكن أن يجمع هذه النقاط، يتحقق في ظل الملكيات، حيث يكون الملك مصدر إجماع، ويتمتع بصلاحيات سياسية مركزية، وتشتغل الحكومات تحت سلطته، كما في النموذج المغربي أو الأردني.
نعم يمكن للنظم الرئاسية أن تسير في هذا المسار، لكن في المحصلة، ستكون الانتخابات، أشبه بما تكون باستفتاء تأكيدي على شرعية الرئيس لا أقل ولا أكثر.
من الممكن التفكير في سياق الصراعات حول ترتيب الوضع السياسي في عدد من البلدان الأخذ بعين الاعتبار لهذه الثوابت الثلاثة (خلق وحدة سياسية، ورهان على الاستقرار، مع ضمان أوسع قدر من الحريات) مع ترك الباب الواسع للتفكير في الصيغ، مع الميل إلى أنه كلما كان الإجماع خارج المنافسة الانتخابية، كلما توافرت أكثر شروط الوحدة السياسية.
"الإبراهيمية" دعوة دينية إنسانية أم تسويق مسيس للتطبيع؟
لماذا وقع التباين بين الفهمين الشعبي والغربي للديمقراطية؟
الملكية والإسلاميون بالمغرب.. قراءة في سردية العلاقة (1من2)