عالم الاجتماع التونسي علي لبيب من أبرز الباحثين والخبراء التونسيين والعرب في ملف الهجرة منذ عقود، وهو من بين أهم من واكبوا عبر أبحاثه الميدانية داخل الدول العربية وأوروبيا تطوراته وتعقيداته الجديدة: من هجرة منظمة إلى هجرة غير قانونية فرضتها عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية عديدة..
الإعلامي والأكاديمي كمال بن يونس التقى علي لبيب وحاوره لـ "عربي21"، حول أبرز استنتاجاته ونظرته لملف أصبح بعض دول العالم، وخاصة بعض دول أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان، تعتبره "أخطر من معضلات الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل".
س ـ أستاذ علي لبيب، تكشف أبحاثك ودراساتك أن بعضها أجريته داخل بواخر نقل المسافرين بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط وفي الموانئ ومراكز تجمعات المهاجرين القانونيين وغير القانونيين.. فكيف تنظر اليوم إلى "تهويل" البعض لما سمي بـ "معضلات الهجرة غير القانونية" وما تتسبب فيه من أزمات في البلدان المصدرة للمهاجرين والبلدان التي يقصدونها؟
ـ في ظلّ الضعف المعرفي الجامعي والمؤسساتي السائد، انفردت المنابر الإعلامية بتداول ملف الهجرة واختزلته غالبا في "الهجرة غير القانونية المتوجّهة إلى أوروبا" والتي فرض الاتحاد الأوروبي على تونس ودول جنوب البحر المتوسط مراقبتها لتخليص شعوبه من تبعاتها.
وفي المقابل أغفلت المؤسسات الأكاديمية التونسية والمغاربية والعربية ذات العلاقة إغفالا تاما وغريبا مواكبة المتغيرات التي لديها علاقة بملف الهجرة بكل مكوناته.. في سياق متغيرات دفعتنا نحو "المأزق" "والمأساة".
متغيرات
س ـ لكن وسائل الإعلام وبعض مراكز الدراسات المستقلة والمؤسسات السياسية والأمنية التونسية والعربية تواكب عن كثب تطور ملف الهجرة غير القانونية بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط..
ـ أصبحت الهجرة غير القانونية شغلنا الشاغل لأن الاتحاد الأوروبي فرض علينا مراقبتها خدمة لمصالح دوله وشعوبه. لكن مؤسسات البحث الجامعية أهملت مواكبة التحولات الجذرية الأخرى التي طرأت وتطرأ على الهجرة الدولية والإقليمية وانعكاساتها على تونس.
تمر تونس اليوم بمرحلة من أدق مراحل تاريخها المعاصر، وما من شك في أن العوامل البشرية ومنها الهجرة تعتبر عوامل أساسية في "الدراما" الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها البلاد منذ 2011، نظرا للتأثر المباشر بمتغيرات الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية من ناحية، ولتأثيرها عليها من الناحية الأخرى.
وعلى الرغم من كون بعض التغيرات السياسية الاقتصادية والاجتماعية قد تكون ظرفية وقصيرة المدى، إلا أنّ تفاعلها مع ديناميكية السكان والهجرة يجعل تأثيرها هيكليا وطويل المدى، وقد يستمر لعدة أجيال متعاقبة...
واليوم هناك "خلط" في تونس والدول العربية والأوروبية بين "الهجرة المألوفة" و"الهجرة غير القانونية"، التي يسميها الشباب التونسي وبعض الباحثين "الحرقة" أو "الحرقان" و"الهجّة" و"الشّقف".. إلى غير ذلك من التسميات التي توحي ـ أخلاقيا ـ بعدم احترام آلاف البشر الذين يتعرّضون لمخاطر الغرق في البحر ثم لمخاطر أخرى في صورة وصولهم أحياء...
وهذه المعضلة أصبحت تهم مئات الآلاف من الشباب المحبطين في بلدانهم بسبب البطالة والفقر وظروف العيش وانسداد الآفاق الثقافية والاجتماعية والسياسية..
الهجرة ظاهرة دولية
س ـ عموما كيف تقيم الرؤية الرسمية والشعبية لملف ملايين المهاجرين العرب وملايين الشباب الذي يحلم بالهجرة أو بـ "الفرار" من بلده؟
طيلة ثلاثة عقود كانت الهجرة العربية والتونسية موضوع اهتمامي الأول، تابعتها وكتبت عنها بصفتي باحثا وجامعيا، وفي بعض المراحل بصفتي موظفا وخبيرا دوليا في الهجرة. لذلك أريد أن ألفت نظر أصحاب القرار اليوم إلى أمرين مهمّين يحجبان مخاطر الهجرة.
الأمر الأول هو أنّ الهجرة ملف يجب أن يدرس من قبل العلماء والمختصين لأنه موضوع علمي، وإذا وقع تغييب المختصين قصُر النظر وربما استحال الفهم.
الأمر الثاني، مُكمل للأول، ويتمثل في تقهقر الدراسات والبحوث حول ظاهرة الهجرة وضعف المؤسسات الحكومية والعمومية المختصة.
لا يجب أن يغيب عنا أن الهجرة ظاهرة دولية تتأثر وتؤثر في العلاقات الاجتماعية وتساهم في بناء النظام الاجتماعي على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي، الأمر الذي يجعل منها موضوعًا للرهانات والنزاعات والاستراتيجيات السياسية.
ولذلك نرى، على صعيد العلاقات الدولية، أن مسألة الهجرة لا تغيب من المفاوضات السياسية والاقتصادية التي تجمع بين البلدان المصدرة للمهاجرين وبلدان الاستقبال، مثلا بين بلدان المغرب العربي وبلدان الاتحاد الأوروبي، بين الولايات المتحدة والمكسيك، بين الإمارات العربية المتحدة والهند.
كما ترى الحكومات في الهجرة موضوعًا مشحونًا بالمخاطر أو دافعًا إلى الأمل ولذلك لا نراها تقف موقفًا محايدًا من الهجرة.
وتتغير إرادة الدول وقدرتها على مراقبة الهجرة بحسب تغير المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وبحسب طبيعة الهجرة وأصناف المهاجرين.
ولمّا كانت للهجرة أبعاد وطنية وإقليمية ودولية متداخلة فإن مقاربة الحكومات يفترض أن تعتمد على الإحصاءات والدراسات والبحوث والبيانات.
وقد كنت نشرت منذ أكثر من ثلاثين عاما دراستين عن الهجرة التونسية والهجرة العربية بيّنتا أن الهجرة التونسية، رغم ضعف حجمها مقارنة بغيرها، كانت الأكثر دراسة في العالم العربي وخُصصت لها ما لا يقلّ عن عشرين رسالة دكتوراه والعشرات من رسائل ختم الدروس والمئات من المقالات بمجلات متخصصة.
وأثبتت مؤسسة "ديوان التونسيين بالخارج" الحكومية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي كفاءة عالية عند إنجازه "المسح الموسّع للهجرة التونسية".
ويبقى إلى اليوم هذا المسح ـ ونظيره بمصرـ أكبر وأشمل مسح معروف حول الهجرة الدولية. وقد تابعنا الأمر ضمن وحدة البحوث والدراسات السكانية بجامعة الدول العربية.
في هذا المد المعرفي كان لمؤسسات الدولة التونسية عموما و"ديوان التونسيين بالخارج" و"مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية" خاصة دور كبير بفضل انفتاحها وما وفّرته من تسهيلات لباحثين تونسيين وأجانب.
وسمح هذا الانفتاح في تسهيل أبحاث عدد كبير من الباحثين وبروز نخبة من المختصين في ملف الهجرة.
غير أن هذا المدّ المعرفي قد توقّف منذ التسعينات بسبب فرض قيود إدارية كثيرة على البحوث الميدانية، أدّى إلى انقطاع اهتمام الجامعيين بقضايا الهجرة وتخلّيهم عن توجيه طلاّبهم للبحث وبالنتيجة تراجع عدد المختصين وأصبحت الدراسات نادرة وجزئية.
وهكذا لم تواكب تونس التحولات الجذرية التي عرفتها الهجرة الدولية.
وبفعل ندرة الأكفّاء تضرّرت المعرفة بموضوع الهجرة بأعمال "الباحثين العرضيين" و"السياسيين" وغيرهم من "الدخلاء" الجاهلين بالموضوع. وبعضهم قد لا يتردد في الخوض في قضايا الهجرة المعقدة بأسلوب غير علمي بدافع مادّي أو لمجرد المشاركة في ندوة أو حوار تلفزي أو إذاعي تختلط فيه المفاهيم والمسائل.
سلطة "مرتبكة"
س ـ كيف تنظر إلى تعامل السلطات في تونس اليوم مع ملف الهجرة عموما والهجرة غير القانونية خاصة؟
ـ بعد عقد من الثورة، من الطبيعي أن تصبح سلطة الإشراف "مرتبكة "وفاقدة للأدوات المناسبة لمقاربة هذه المسألة الشائكة وما معها من مستجدات ومتغيرات سريعة.
أولا تراجع دور ديوان التونسيين بالخارج بالمقارنة مع دوره في السبعينات والثمانينات ولم تتم إعادة هيكلته، بل أنشئت مؤسسة ثانية "موازية له" بعد ثورة 2011 هي "المرصد الوطني للهجرة"، بمبررات مجهولة وأهداف عامة غير واضحة.
في هذا المرصد مجلس علمي يتكوّن من 17 عضوا منهم 13 يمثلون مختلف الوزارات في الحكومة.
س ـ وبصرف النظر عن كفاءة ممثلي الوزارات وخبراتهم وقدراتهم صلب وزاراتهم ماذا يُنتظر منهم موضوعيا في خوض مسألة الهجرة؟
ـ كما يبدو دور المرصد الوطني للهجرة من خلال موقعه الإلكتروني أقرب إلى دور "المناول" أو "المساهم" في دراسات الآخرين من دور "صاحب رؤية وبرنامج" من منظور تونسي يمكن أن يفيد الدولة حسب الحاجة والأولويات.
من دولة عبور إلى دولة استقرار
س ـ تكشف تقارير الإعلام أن نسبة المهاجرين القانونيين وغير القانونين تضخمت في تونس بدورها بينها ليبيون وجزائريون وأفارقة من جنوب الصحراء..
ـ فعلا انتقلت تونس تدريجيا من "بلد عبور" إلى "بلد استقرار" للمهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء والقاصدين أوروبا ولم يسعفهم الحظ بالوصول إلى سواحلها.. لكن الجهات التونسية ذات العلاقة بالهجرة لم تول هذا التطور اهتماما يذكر، رغم أن الظاهرة مهمة جدا ولا تقتصر على تونس.
لقد بينت في دراسة لي "المغاربيون من العبور إلى الاستقرار في إيطاليا" أن المهاجرين يتحولون من عابرين إلى مستقرين حينما توصد أمامهم منافذ الوصول إلى الدول المقصودة، ويرفضون العودة إلى بلدانهم خوفا من تدهور أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية.
وهذا هو ما أجبر بلدانا أوربية، مثل إيطاليا في 1990 إلى تسوية وضعية 963.000 مهاجر غير قانوني دفعة واحدة مما أدى إلى ارتفاع عدد المغاربيين بإيطاليا من 55 ألفا إلى مئات الآلاف.
وارتفع عدد المهاجرين التونسيين في إيطاليا من 14.000 إلى 41.000 بينما يقدر عددهم في فرنسا وبقية الدول الأوربية والخليجية بأكثر من مليون أي حوالي عشر المواطنين.
س ـ قد تضطر تونس إلى خطوة تقنين وضعية عشرات آلاف المهاجرين الأفارقة. لكن هل سوف تقدر على ذلك رغم كثرة مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية؟ هناك من يقدر عدد المهاجرين غير القانونيين الأفارقة في تونس اليوم بأكثر من 60 ألفا، فهل لديها القدرة على استقبال المزيد في ظل اقتصاد منهار وبطالة فاتت المليون عاطل عن العمل وتوترات اجتماعية سياسية حاضرة في كل حين؟ إذا كان الجواب بلا، ما هي سياسة الدولة والإجراءات التي أخذتها للحد من تدفق المهاجرين بصفة شرعية أوغير شرعية؟
ـ إن التصدّي للهجرة الوافدة ليس فقط لإعطاء الأولوية للتونسيين في التشغيل وإنما لأنه من الثابت أن العمال الأجانب حين يحلون ببلد متأزم يكونون دائما أول ضحايا التوترات الاجتماعية. وسوف يحمّلهم المُجتمع إن عاجلا أم آجلا، مسؤولية تفاقم البطالة في صفوف المواطنين الأصليين.
وبالنتيجة سوف تتحمل الدولة التونسية مسؤولية ما قد يعرفه الوافدون من مصاعب وستتعرّض إلى ضغوطات دولية خاصة إذا تمادى تشغيل الأجانب على الطريقة الخليجية أي "عمال بدون حقوق".
مأساة هجرة الكفاءات
س ـ حسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (CNUCED)، تنفق البلدان الأفريقية 4 مليارات دولار سنويًا لتعويض كفاءاتها الوطنية المُهاجرة، ويكشف تقرير لصندوق النقد الدولي (2016) يتعلق بآفاق الاقتصاد العالمي عام 2050 بأن حوالي 35 مليونا من الكفاءات الأفريقية ستكون هاجرت إلى دول الشمال، وهو ما سوف يؤثر على التنمية الاقتصادية بالقارة. فماذا عن تونس؟
ـ هجرة الكفاءات التونسية أصبحت ظاهرة واضحة، وتتكون من صنفين: صنف مألوف ومهمل، وصنف موجود ولكنه غائب عن الإدراك.
يشمل الصنف المألوف هجرة الكفاءات التي يتم إعدادها داخل البلاد بالمال العام ثم تهاجر، بحثا عن آفاق مهنية وظروف عيش أفضل.
أما الصنف الثاني، فيشمل الطلاب الذين يدرسون في الخارج، سواء بالمال العام أو الخاص، ولا يعودون غالبا إلى تونس. عند هذه الفئة الجديدة والمتزايدة لم تعد الغاية من الدراسة في الخارج الحصول على شهادات جامعية بقدر ما هي "استراتيجية" لتنفيذ مشروع مصمّم مسبّقا للهجرة والاستقرار خارج البلاد. وبالتالي إذا عاد جزء من المهارات التونسية في العقود السابقة وساهم في تنمية البلاد، فإنّ الأمر تغيّر تماما اليوم.
للتقليص من هذا النزيف البشري والمالي يمكن تدارك الثغرة القانونية في ملف الدراسة في الخارج وجعل تونس دولة "استقطاب لطلاب العالم" الذي تتنافس عليه كل الدول المتقدمة والنامية.
من البديهي أن يؤثر استنزاف الكفاءات والمهارات على تنمية البلاد وأن تزدهر بفضلهم الشركات الأجنبية وبلدانها.
ومن المفارقات الكبيرة أن النقص في الخبراء الذي تسبب فيه هجرة الأدمغة والكفاءات يفرض على الدول العربية والإفريقية إعداد كفاءات ومهارات لتعويض من هاجروا، وهكذا تدخل في حلقة مفرغة وهدر مستمر لإمكاناتها البشرية والمادية. إن مأساه "هجرة الأدمغة والخبراء" مأساة كبرى تعرقل التنمية وفرص التقدم داخل البلاد.
ومن عواقبها أيضا، خسارة لأفكار المبدعين والمؤهلين لتطوير الاستثمار في التكنولوجيات الجديدة والخدمات العامة مثل الصحة والتعليم، وانخفاض إيرادات الضريبية للدولة. كما تتسبب في انخفاض القدرة التنافسية للشركات التونسية، وفي تراجع استقطاب الاستثمارات وتراجع ترتيب تونس في "مشروع ممارسة أنشطة الأعمال" الذي يصدره البنك الدولي "Doing business".
س ـ ما العمل؟
ـ الجواب ليس بسيطا ولكن من الضروري إعادة اهتمام الجامعيين وطلابهم بالهجرة وإعادة هيكلة المؤسسات ذات العلاقة في مؤسسة واحدة تكون نواتها من الأخصّائيين في الهجرة.