يبدو هذا الاستفهام عاما فضفاضا لكنه يحمل شروط تجدده كلما عرفت المنطقة أحداثا هامة سواء على مستوى الأقاليم أو على مستوى الأمة ككل. نحن اليوم في مفترق طرق مركزي بعد تفعيل الانقلاب العسكري في السودان ومُضيّ الانقلاب التونسي قُدما في تركيز السلطات كلها في يد فرد واحد.
توجد مؤشرات أخرى كثيرة على طور التحوّل هذا الذي يبدو متجها نحو التصفية الكاملة لكل مكاسب الثورات وإعادة النظام الرسمي العربي إلى وضعه القائم قبل الانفجار التونسي الكبير أواخر سنة 2010.
رغم السياقات والخصوصيات التي يتميز بها كل قطر بشكل يجعل منه تجربة مختلفة عن غيره فإنه لا يمكن موضوعيا فصل التجارب والسياقات العربية عن بعضها البعض لأنها تنتهي كلها في سياق واحد محكوم بنفس القوانين والآليات. هذا فضلا عن قانون التأثير والتأثر المتبادل بين السياقات الإقليمية وتداخل الفواعل جميعها في سياق واحد غالبا.
ما هي مآلات المنطقة العربية بعد تصفية آخر قلاع الربيع العربي؟ هل يعني ذلك نهاية الثورة أو نهاية طورها الأول؟ ألا تجازف الأنظمة العربية بتجاهل المطالب الشعبية؟ هل يكفي القمع بالسلاح والانقلاب على المسارات لتحقيق الأمن والاستقرار؟
المآل الكارثي
لا يمكن البدء في قراءة مستقبل المنطقة دون التنصيص على أخطر المآلات التي تنتظرها وشعوبَها وإن كان الرأي العام العربي وحتى النخبوي منه السلطويّ والمعارض على حدّ سواء يسعى دوما إلى استعباد هذا المآل الخطير.
إن انسداد الأفق السياسي الذي ينتج عنه بصفة آلية انسداد الأفق الاجتماعي والاقتصادي سيؤدي في حال البلاد العربية إلى نتائج كارثية تتجاوز القطر الواحد لتشمل كامل المنطقة في مشهد يشبه مرحلة انكسار الأمة وتكالب القوى الاستعمارية عليها مع بدء انهيار الإمبراطورية العثمانية.
تعيش بلاد الشام بما فيها العراق وسوريا وفلسطين والأردن ولبنان أسوأ الأزمات الداخلية في تاريخها سواء كانت تحت الاحتلال مثلما هو الحال في سوريا والعراق وفلسطين أم لا. وهي المنطقة التي دفعت ثمنا باهظا بسبب تحجّر نظام الحكم ورفضه التداول على السلطة وإقرار حكم الفرد الواحد أو سيطرة الطائفة المسلحة على الحكم بشكل دشّن نهاية المؤسسات وتآكل دولة القانون وفتَح الباب واسعا أمام شبكات الفساد التي أنهت شروط الدولة.
في الخليج أهدرت الأنظمة الوراثية باستثناءات قليلة جدا فرصة تحويل النفط إلى رافعة اقتصادية وتنموية حقيقية بل استعملت ثروتها الهائلة في تدمير التجارب الديمقراطية وفي تفعيل الانقلابات ودفع مسار التطبيع مع الكيان المحتلّ. وهو الأمر الذي سيجعلها معرّضة على المستوى المتوسط إلى هزات اجتماعية وسياسية عنيفة رغم المحاولات اليائسة لامتصاص طاقات الشباب عبر برامج الترفيه البائسة هنا وهناك.
تقف المنطقة العربية اليوم إذن على مشارف طور جديد من أطوارها التاريخية بعد مصادرة الطور الثوري وإعادة المنطق الاستبدادي بقوة الانقلابات العسكرية وهو الأمر الذي ستكون له نتائج خطيرة وعميقة على كامل المنطقة وعلى جوارها الإقليمي.
أما في مصر وتونس والسودان فإن الانقلاب على الثورات الشعبية سيؤدي بهذه الدول الفاشلة إلى انهيار كارثي رغم كل المساحيق التي تحاول الأنظمة الانقلابية إيهام الناس بها. فالديْن المصري الذي يقدّر بمئات المليارات من الدولارات وانهيار القدرة الشرائية وارتفاع التضخم كلها مؤشرات تؤكد على أن الانقلاب يهرب إلى الأمام ولن يستطيع التقدّم كثيرا. وهو نفس الأمر الذي يحدث في تونس والسودان وإن اختلف السياق حيث كانت الأزمات المتعاقبة مقدّمة لانقضاض رجل واحد على كل السلطات في البلاد واستنساخ النظام الاستبدادي.
إن هذا الوضع الكارثي الذي تعيشه هذه الدول بمباركة النظام الرسمي العربي وقيادة جامعة الدول العربية ودول الخليج ليس إلا حصيلة طبيعية لرفض هذا النظام الاستجابة لحتمية التغيير التاريخية. وهو الأمر الذي يجعله يفضّل الذهاب إلى الكارثة بدل التنازل وتقديم التضحيات مثلما فعلت قيادات عربية (العراق وسوريا مثلا) جازفت بالدفع بالبلاد نحو الهاوية بدل تقديم التنازلات وحقن الدماء ومنع انهيار الدولة والنظام معا.
تجدد الثورات
يعدّ هذا المآل أقلّ الاحتمالات كارثية لأنه سيسمح بإيجاد حلول داخلية نابعة من المنطقة نفسها بدل الوقوع مرة أخرى تحت أنياب المؤسسات الاستعمارية الدولية. صحيح أن الثورات المضادة قد حققت انتصارا كاسحا بالانقلاب على الثورات الشعبية وإسقاطها في الفوضى والحروب الأهلية لكنها ستكون عاجزة عن دفن شروط هذه الثورات المتمثلة في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية. بالتالي فإنّ جواب القمع عن المطالب الشعبية لن يؤدي إلى حلّ المشكل بل إنه سيعمل على تفاقمه إذ إن النظام الرسمي العربي لا يُحسن غير جواب القمع وهو نظام لا يملك حلولا تنموية واقتصادية حقيقية للمشاكل التي تتخبط فيها مجتمعاته.
لكنّ الأمر الخطير في هذا الاحتمال الثاني هو أنه سيكون مكلفا من جوانب عديدة لأنه سيستبطن ما حدث خلال الموجة الثورية الأولى ولن تكون السلمية خيار الجماهير الثائرة التي دفعت ثمنها باهظا جدا. لن يكون الحوار كذلك ممكنا مع الأطراف التي دمّرت التجربة الثورية الأولى ولن تكون الخيارات الديمقراطية التي راهنت عليها مصر وتونس والسودان مثلا قائمة لأن التجربة أثبتت أن أعداء الحرية لا يؤمنون بالحوار وتقاسم السلطة.
ليس توقّع تجدد الثورات ترفا تحليليا أو نظرة مستقبلية حالمة بل هو الخيار الوحيد الممكن أمام شعوب هذه المنطقة ونخبها لمنع الانهيار الكبير الذي تتجه نحوه دول المنطقة بخطى متسارعة. ثم إن بقاء الأسباب التي دفعت إلى الثورات قائمة -بل وازدادت حدّة- يجعل من توقع الانفجار أمرا حتميا مهما كانت محاولات وأده واحتوائه قوية.
لن يكون هناك خيار ثالث ممكن، لأنّ تعويل النظام الرسمي العربي على استعادة المشهد الذي كان قبل 2010 وفرض استمراره بالقوة المادية أمر مستحيل منطقيا بسبب تغير الوعي الجماهيري القاعدي وبسبب ثورة التواصل الرقمية، وخاصة بسبب الوضع الاقتصادي والسكاني. إنّ تاريخ تعنّت السلطة العربية يؤكد أن الاحتمالين السابقين هما أكثر الاحتمالات إمكانا في المستقبل إلا إذا حدثت معجزة خارجية أو داخلية لفرض شروط نظام أكثر ديمقراطية.
تقف المنطقة العربية اليوم إذن على مشارف طور جديد من أطوارها التاريخية بعد مصادرة الطور الثوري وإعادة المنطق الاستبدادي بقوة الانقلابات العسكرية وهو الأمر الذي ستكون له نتائج خطيرة وعميقة على كامل المنطقة وعلى جوارها الإقليمي.