قضايا وآراء

في انتظار البرهان من السودان

1300x600
أكتب هذه الكلمات مساء الاثنين، ومن المفترض نشرها الأربعاء. وجب عليّ أن أخبر القارئ بهذا، فقد يحدث بين زمني الكتابة والقراءة، ما يجعل بعض ما سأذكره نافلا، لكنه في هذه اللحظة ضروري.

صحوت على حدث جلل يجري في السودان، لكنه كان متوقعا إلى حد بعيد؛ فإرهاصات الانقلاب في السودان كانت واضحة، لأن شهوة العسكريين في الاستحواذ على السلطة بالقوة كانت جلية للجميع، وممهداته تسارعت، فتشكل اعتصام مؤيد للجيش أمام القصر الرئاسي طالب بالإطاحة بالقادة المدنيين "الفاشلين"، في المقابل نظمت مظاهرة احتجاجية معاكسة، وخرجت حشود كبيرة دعماً للحكومة المدنية.

صحوت، إذا، على الحدث الجلل، المتوقع!

كيف يكون متوقعا، وجللا، في ذات الوقت؟

سألت نفسي، وأجبتها: هذه من مفارقات مرحلة التحول التاريخي الهائلة الجارية، من المحيط للخليج، والتي تبذل جهود جبارة لإجهاضها.

* * *

صحوت على نقرات "أخبار عاجلة"، فاستنفرت بوصلتي (أشبه ببوصلة الطير، يهتدي بها ليعبر المسافات الشاسعة)، بوصلة ثلاثية: ما علاقة ما يحدث بحرية الفكر والتعبير، بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني، بلقمة العيش؟

صنفت "النقرات" تصنيفا موضوعيا، ثم قيمتها، وعلقت عليها: فأولا، الأنباء الغفل (المحايدة الأوصاف). ثانيا، الموقف الصهيوني. ثالثا، موقف مصر وإثيوبيا. رابعا، موقف السعودية والإمارات. خامسا، موقف بعض الدول الكبرى. سادسا، موقف المنظمات الإقليمية والدولية.

* * *

أولا: عناصر من القوات المسلحة السودانية تحتل مباني حكومية وتعتقل عددا من المسؤولين المدنيين وقادة أحزاب؛ من بينهم رئيس الحكومة عبد الله حمدوك. القائد العسكري السوداني (رئيس مجلس السيادة) عبد الفتاح البرهان يعلن حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد وتعليق العمل بمواد من الوثيقة الدستورية، وحل مجلسي السيادة والوزراء. قوى مدنية سودانية تدعو الجماهير إلى التظاهر رفضا لما سمته "انقلابا عسكريا"، وتطالب بإطلاق سراح المسؤولين المدنيين.

التعليق: هذا انقلاب عسكري، بلا أدنى شك، لا بد من مقاومته وكسره. أخذني مقطع مصور لتظاهرة نسائية انطلقت منذ الصباح، وشعارهن الأخاذ: "سلم سلم يا برهان.. ورانا بلد عاوز بنيان".

* * *

ثانيا: انتظرت الموقف الصهيوني، وفي الانتظار، عدت لأرشيفي وقرأت تصريحات للبرهان، قبل عام بالتمام، مدافعا عن العلاقات مع إسرائيل: "أفضل أن أسميه صلحا بدلا من تطبيع".

وبينما كنت أقرأ باقي الخبر، كانت الشاشة تخبرني: الجيش يستولي على السلطة في السودان.. البرهان يعلن "الالتزام بالاتفاقيات الدولية الموقعة".

هكذا، إذا، التزام بالدولي، وتمزيق الاتفاق مع القوى السودانية، لكن أي "دولي" يعلن الالتزام به؟

عدت لخبر تشرين الأول/ أكتوبر 2020، وقرأت: سعى الزعيم العسكري للمجلس الحاكم في السودان اليوم الاثنين، للدفاع عن اتفاق تدعمه الولايات المتحدة لإقامة علاقات مع إسرائيل، قائلا: "إن الاتفاق لم يُبرم بعد ويمكن أن يعود بالنفع على السودان في وقت يواجه فيه أزمة اقتصادية عميقة". ثم قاطعتني أخبار أخرى من أيامها: "البرهان: ترامب لم يبتز السودان في مسألة التطبيع مع إسرائيل".. "حميدتي: لا علاقة بين شطب اسم السودان من قائمة الإرهاب وقرار التطبيع مع إسرائيل".. "البرهان: السلام مع إسرائيل يبعد عن السودان شبهة التمييز الديني والعنصري".

كان البرهان يعلق على اتفاق جرى، خلال اتصال هاتفي، بينه وبين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.. أعلنت قوى وأحزاب سودانية مشاركة في مجلس السيادة وفي الحكومة رفضها له. ذهب ترامب، وتبعه نتنياهو، وبقي البرهان!

الخبر كان ينقل بعض ما ذكره البرهان في مقابلة تلفزيونية (تشرين الأول/ أكتوبر 2020)، ومن أهم ما قاله: سنوقع مع الطرفين الآخرين، أمريكا وإسرائيل، على ما هي أوجه التعاون.

أنهيت القراءة وحضر الموقف الصهيوني: "إعلام إسرائيلي معلِّقاً على أحداث السودان: يجب دعم البرهان لدفع التطبيع".

فقد ذكرت صحيفة "إسرائيل اليوم" في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021؛ أن التطورات في السودان قد تمثل سبباً لقلق "إسرائيل" وإدارة جو بايدن على حد سواء، لأن واشنطن تعمل بهدف دفع الخرطوم لاستكمال عملية التطبيع، وإرسال ممثل سوداني رسمي دائم إلى إسرائيل، وبالطبع فتح ممثلية.

وأشارت الصحيفة إلى أنه يجب دعم الجيش والبرهان "لأن الأخير يميل لتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل أكثر من حمدوك". وأضافت أنه "من كل دول اتفاقيات أبراهام، السودان هو (الدولة) الوحيدة التي لم تقم بهذه الأعمال (فتح ممثلية..)، الدولة كلها عند مفترق طرق لأن علاقتها مع القدس تتأثر بهذا الجانب بنحو مباشر".

وأكدت الصحيفة أن مصدرا إسرائيليا صرح لها بأنه "في الوضع الحالي، يفضل دعم الجيش وقائده رئيس المجلس الانتقالي عبد الفتاح البرهان، لا رئيس الحكومة عبد الله حمدوك".

التعليق: بوصلتي قاطعة: ما زال موقفي من الصهيونية ومن "إسرائيل" ثابتا عند لاءات الخرطوم (لا تفاوض، لا صلح، لا اعتراف).

* * *

ثالثا: نشرت وزارة الخارجية المصرية على صفحتها الرسمية البيان التالي:

تتابع جمهورية مصر العربية عن كثب التطورات الأخيرة في جمهورية السودان الشقيق، مؤكدةً على أهمية تحقيق الاستقرار والأمن للشعب السوداني والحفاظ على مقدراته والتعامل مع التحديات الراهنة بالشكل الذي يضمن سلامة هذا البلد الشقيق، ومؤكدةً كذلك أن أمن واستقرار السودان جزء لا يتجزأ من أمن واستقرار مصر والمنطقة.

كما تدعو مصر كافة الأطراف السودانية الشقيقة، في إطار المسؤولية وضبط النفس، لتغليب المصلحة العليا للوطن والتوافق الوطني.

ونشرت وزارة الخارجية الإثيوبية على صفحتها الرسمية البيان التالي: إن "حكومة إثيوبيا.. تدعو جميع الأطراف إلى الهدوء ووقف التصعيد في السودان وبذل كل الجهود لإنهاء الأزمة بالطرق السلمية".

وأضافت: "تؤكد إثيوبيا مجددا على ضرورة احترام التطلعات السيادية لشعب السودان، وعدم تدخل جهات خارجية في شؤونه الداخلية".

التعليق: الحدث الجلل في السودان يزيد تعقيد ملف سد النهضة الإثيوبي. الموقف المصري أقرب لتأييد الإنقلاب. إثيوبيا، التي ساهم رئيس وزرائها أبي أحمد بصورة فاعلة؛ في التوصل لاتفاق الشراكة بين القوات المسلحة والقوى المدنية التي قادت الثورة على نظام الرئيس السابق عمر البشير، تستشعر الموقف المصري، وتتهيأ للاستفادة منه.

* * *

رابعا: أكدت وزارة الخارجية والتعاون الدولي الإماراتية، في بيان، أنها تتابع عن كثب التطورات الأخيرة في السودان، داعية إلى التهدئة وتفادي التصعيد، وأنها (الإمارات) حريصة على الاستقرار في السودان وبأسرع وقت ممكن، وبما يحقق مصلحة وطموحات الشعب السوداني في التنمية والازدهار. وشددت (الإمارات) على ضرورة الحفاظ على ما تحقق من مكتسبات سياسية واقتصادية وكل ما يهدف إلى حماية سيادة ووحدة السودان، مؤكدة وقوفها إلى جانب الشعب السوداني الشقيق.

أما وزارة الخارجية السعودية فدعت "إلى التهدئة في السودان، وعدم التصعيد، والحفاظ على المكتسبات السياسية والاقتصادية". وأوضح (البيان) أن المملكة تتابع بقلق واهتمام بالغ الأحداث الجارية في السودان، داعية إلى أهمية ضبط النفس والتهدئة. ودعت (المملكة) للحفاظ على كل ما تحقق من مكتسبات سياسية واقتصادية وكل ما يهدف إلى حماية وحدة الصف بين جميع المكونات السياسية في السودان. وأكد، البيان، استمرار وقوف المملكة إلى جانب الشعب السوداني، ودعمها لكل ما يحقق الأمن والاستقرار والنماء والازدهار للسودان وشعبه.

التعليق: الإمارات والسعودية أكثر وضوحا من مصر في تأييد الانقلاب، فأي دعوة إلى "التهدئة" عقب خطوات البرهان، لن تفهم إلا على أنها موجهة إلى الداعين لرفضها ومواجهتها. هذا تأييد صريح وقاطع للانقلاب على اتفاق المرحلة الانتقالية، ودعم له، وتلويح بمزيد من الدعم إن ذهب إلى ما هو أبعد.

* * *

خامسا: مواقف القوى الكبرى: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، مواقفها متقاربة، ظاهريا، وهي لا تظهر في دلالاتها العميقة إلا بعرضها إزاء الموقف الروسي.

فلنقرأ أولا موقف الدول "الغربية" الأربع، فقد قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيير: "إن الحكومة الأمريكية تشعر بقلق عميق من التقارير حول سيطرة الجيش على السلطة، وهو ما يتعارض مع إرادة الشعب السوداني.. نرفض إجراءات الجيش وندعو إلى الإفراج الفوري عن رئيس الوزراء والآخرين الذين وضعوا قيد الإقامة الجبرية".

المبعوث البريطاني للسودان، روبرت فيرويذر، قال: أي خطوة لاعتقال أعضاء الحكومة ستمثل خيانة للثورة وللانتقال وللشعب السوداني.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أدان المحاولة الانقلابية في السودان، ودعا إلى إطلاق سراح الساسة المدنيين على الفور.

وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، قال: يجب إدانة أي انقلاب جديد في السودان على نحو واضح.

الموقف الروسي كان صارخا بواقع التكالب على توجيه الأحداث ناحية الاستفادة القصوى من الصراع داخل السودان، فلنقرأ الموقف الروسي، ثم سيأتي التعليق.

وصفت وزارة الخارجية الروسية الأحداث التي يشهدها السودان بأنها دليل على أزمة حادة ناجمة عن اتباع سياسة فاشلة على مدى عامين؛ حيث تجاهلت السلطات الانتقالية ورعاتها ومستشاروها الأجانب حالة اليأس والبؤس التي عانت منها الغالبية العظمى من السكان".

وقال البيان: "أدى التدخل الأجنبي واسع النطاق في الشؤون الداخلية للبلاد إلى فقدان ثقة مواطني السودان بالسلطات الانتقالية، ما تسبب باندلاع احتجاجات متكررة وأثار حالة من عدم الاستقرار العام في البلاد، بما في ذلك الانعزال الفعلي لعدد من مناطقها".

وأضاف البيان: "نحن مقتنعون بأن بإمكان السودانيين، بل ويتعين عليهم حل المشاكل الداخلية بأنفسهم وتحديد اتجاه التنمية السيادية لبلدهم انطلاقا من المصالح الوطنية. ستواصل روسيا احترام خيار الشعب السوداني الصديق وتقديم كل المساعدة اللازمة له".

التعليق: ظاهر في الموقف الروسي معاكسته للموقف الغربي، فهو يستبطن عرضا، واضحا للانقلابيين، وينتقد بحدة الميل للانحياز للغرب. موقف الولايات المتحدة يمثل ضغطا ظاهرا، يستبطن الضغط على الجميع، عسكر ومدنيين، كي يجير الموقف النهائي في صالح "إسرائيل".

* * *

التعليق: مواقف المنظمات العربية والإسلامية والإقليمية والدولية مواقف إجرائية متوقعة، لا خروج لها عن المألوف في مثل هذه الأحداث.

فقد أعرب الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، عن "بالغ القلق إزاء تطورات الأوضاع في السودان"، مطالبا "جميع الأطراف السودانية بالتقيد الكامل بالوثيقة الدستورية التي تم توقيعها في آب/ أغسطس 2019 بمشاركة المجتمع الدولي والجامعة العربية، وكذلك باتفاق جوبا للسلام لعام 2020".

أما منظمة التعاون الإسلامي، فأعربت عن "قلقها إزاء الوضع في السودان، وتدعو جميع الأطراف إلى الالتزام بالوثيقة الدستورية واتفاقات الفترة الانتقالية".

وأكد رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فقي محمد، في بيان رسمي، على أنه "يجب إطلاق سراح القادة السياسيين السودانيين واحترام حقوق الإنسان.. أدعو إلى الاستئناف الفوري للمشاورات بين المدنيين والعسكريين.. رئيس المفوضية يؤكد مجددا أن الحوار والتوافق هما السبيل الوحيد المناسب لإنقاذ البلاد وانتقالها الديمقراطي".

ودعا جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، في بيان: "ندعو قوات الأمن للإفراج فورا عن الذين تحتجزهم بصورة غير قانونية.. إجراءات الجيش تمثل خيانة للثورة والتحول والمطالبات المشروعة للشعب السوداني بالسلام والعدالة والتنمية الاقتصادية".

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، كتب على "تويتر": "أندد بالانقلاب العسكري الجاري في السودان. يجب الإفراج فورا عن رئيس الوزراء حمدوك وكل المسؤولين الآخرين. يجب أن يكون هناك احترام كامل للميثاق الدستوري لحماية التحول السياسي الذي تحقق بصعوبة. ستواصل الأمم المتحدة الوقوف مع شعب السودان".

* * *

تعليق إجمالي: هذه قراءة أولية، اعتمدت بالأساس على مواقف اللحظات الأولى، أغلبها إجرائي متوقع، وهي ترسم "خطوط المواجهة والصراع"، صراع داخل السودان، بين مختلف القوى الداخلية؛ قوى الثورة التي تطمح لبناء سودان حديث وديمقراطي ومستقل، وقوى الانقلاب التي تريد استعادة السيطرة والهيمنة على الشعب الثائر. هناك بلا شك قوى داعمة للانقلاب، لكنها أضعف من أن تنجح في لجم الثائرين مهما كانت التكلفة، لكن قوى الثورة متنوعة، وهذا صحي وضروري، ومفهوم. وهو، أيضا، صراع على السودان بين قوى إقليمية ودولية، إنها لحظة كاشفة، فكل من يقف مع الانقلاب سيكون بلا ريب واقفا في صف مشروع إلحاق السودان بركب التبعية الإقليمي، الذي لا يرى مستقبلا له إلا في ظل قيادة الصهيونية، التي يعتبرها طوق نجاة.

الأربعاء المقبل نتابع ما يتوالى من أحداث، لا يقين لدي ما ستكون طبيعتها، لكني أوضحت بوصلتي وانحيازي، وأنتظر من السودان البرهان على صوابها.