منذ أن وجّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إهانته للأمة الجزائرية وأنكر وجودها قبل الاحتلال الفرنسي، والخيّرون في هذا البلد يطالبون بتجاوز التنديدات والردود الكلامية، والمرور إلى ردودٍ عملية تؤلم فرنسا وتوقفها عند حدّها، ومنها خفض مستوى التعاملات الاقتصادية معها وتكثيفها مع بقيّة العالم، ورفع التجميد عن مقترح قانون تجريم الاستعمار، وكذا رفع التجميد غير المعلن عن قانون تعميم استعمال اللغة العربية.
اليوم بدأت السلطات تستجيب لهذه الأصوات المتصاعدة؛ فهناك حديثٌ عن قرب رفع التجميد عن مقترح قانون تجريم الاستعمار الذي تقدّم به عددٌ من النواب منذ سنوات عديدة، ونأمل أن نرى قريبا هذا المقترح يُقدَّم للمجلس الشعبي الوطني لإثرائه وتحيينه والتصديق عليه، كما قررت وزارتا التكوين المهني والشباب والرياضة تعريب وثائقهما ومراسلاتهما، ونرجو أن يكون ذلك بداية لرفع التجميد غير المعلن لقانون التعريب على يد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في أواخر سنة 1999.
وكان قانون تعميم استعمال اللغة العربية قد صدر رسميا في 16 جانفي 1991، وينصّ على تعريب الإدارات والهيئات والمؤسسات والشركات العمومية والخاصة والتعليم العالي والمحيط العامّ تدريجيا، على أن تكتمل العملية في 5 جويلية 1992، لكنّ ضباط فرنسا الذين حكموا البلاد بعد انقلاب 11 جانفي 1992 جمّدوا القانون. وبعد خمس سنوات، أصدر الرئيس اليامين زروال، وبنصيحة من مستشاره الجنرال بتشين، أمرا رئاسيا في 21 ديسمبر 1996 يقضي برفع التجميد عن قانون التعريب على أن يكتمل تطبيقُه في 5 جويلية 1998، وكلّف حكومةَ أحمد أويحيى بعملية التطبيق.
وقطع التعريبُ خطواتٍ مشجّعة أزعجت مجددا تيار الفرنكوش بالجزائر، فشنّوا عليه حملاتٍ شرسة، وكادوا له لإفشاله مجددا، واغتيل معطوب الوناس في ظروفٍ غامضة في 25 جوان 1998؛ أي قبل 10 أيام فقط من نهاية الآجال التي حددها الرئيس زروال، وخرجت مظاهراتٌ في بلكور تنادي بتجميد القانون مجددا وتعميم الأمازيغية، فأوقف زروال تطبيقه مضطرًّا، ثمّ غادر الحكم بعد ذلك، وحدثت ردّةٌ كبيرة في عهد خلفه بوتفليقة؛ فعادت الفرنسية بقوّة إلى مختلف مؤسسات الدولة والمحيط العامّ، وحققت في عهده ما لم تحقّقه طيلة 132 سنة من الاحتلال الفرنسي نفسه، فخلّف ذلك إحباطا كبيرا في نفوس الأغلبية الشعبية، ويأسا عميقا من إمكانية استعادة البلاد سيادتها اللغوية.
اليوم، عاد بصيصٌ من الأمل مع قرار وزارتي الرياضة والتكوين المهني تعريب مصالحهما، وهو خطوةٌ إيجابية بلا شكّ وينبغي تثمينُها بقوّة، ولكنّ نتمنى أن تكون بمثابة البداية الحقيقية لعملية تعريبٍ شاملة، وليس مجرّد خطوة جزئية وظرفية أملتها تصريحات ماكرون فحسب.. نتمنى أن تكون بدايةَ العودة إلى الذات، والانتصار للعربية في عقر دارها، وأن تتبعها خطواتٌ أخرى متدرّجة ومتواصلة لتعريب باقي الوزارات والهيئات والمؤسسات والشركات… وأن تتميّز بالثبات وتوفُّرِ الإرادة السياسية؛ فقد علّمتنا التجارب أنّ غياب الإرادة السياسية كان السبب الرئيس لقطع التعريب في كل مرّة خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء، والأدلة كثيرة، آخرها أنّ البلاد قرّرت منذ نحو عامين فقط التدريس بالانجليزية تدريجيا في التعليم العالي، ونشرت الوزارة المعنية استبيانا وافق عليه 95 بالمائة من الطلاب الجامعيين، لكنّ العملية لم تقطع أيّ خطوة باستثناء قرار السلطات منذ أيام التدريس بالانجليزية في المدرسة العليا للإعلام الآلي والمدرسة العليا للذكاء الاصطناعي، وقد كان بالإمكان أن تعرف العملية خطواتٍ أكبر بكثير.
لذلك نقول إن قرار وزارتي الرياضة والتكوين المهني، يعيد بعض الأمل في إمكانية تعميم التعريب في بلادنا واستعادة الجزائر سيادتها اللغوية بعد قرابة 60 سنة من هيمنة الفرنسية، بشرط أن تتوفّر إرادةٌ سياسية قويّة وثابتة هذه المرّة، وأن توضَع خطّةٌ لتحيين قانونِ تعميم التعريب وتطبيقِه تدريجيا في آجال لا تتعدّى نهاية عام 2022 أو منتصف 2023 على الأكثر.
(الشروق الجزائرية)