على وقع أحداث الخميس الدامي المؤلم بكل ما فيه؛ من الموقع في الطيونة- عين الرمانة حيث الذاكرة المطوية للحرب الأهلية، وصولا إلى المشاهد القاسية التي عاشها أهل تلك المناطق وكل
اللبنانيين عبر الشاشات إلى أرواح الشهداء الذين سقطوا، فالمعادلة تقول: كل الدم اللبناني حرام، لأي جهة انتمى، والاقتتال الداخلي باب للفتنة والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها!!
إن الملفت في تلك الأحداث، أنها خلقت جبهة جديدة على غرار أيام الحرب الأهلية، تقصف بالإعلام أشد من عصف المدافع، في وقت يحتاج لبنان وأهله إلى التبصر والحكمة والتعقل مع كثرة الملفات المفتوحة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وماليا، حيث الفقراء إلى تزايد والأفق السياسي مغلق، حتى الانتهاء من قضية المحقق العدلي واجتماع مجلس الوزراء. فقضية الطيونة لم تطو وتحقيقاتها لا تزال مفتوحة على مصراعيها على مختلف الصعد، رؤساء ووزراء ومحللين وأمنيين، ولكل وجهة نظره، لكن المحصلة لا تفيد إلا بمزيد من التشرذم والطاسة ضائعة.
أما اقتصاديا وماليا، فالحال أردى وأقسى مع دولار تعوّد أن يبقى جاثما على قلوب الناس فوق العشرين ألف ليرة للدولار الواحد، وعليه طارت أسعار المحروقات بزيادة تقارب 30 في المائة لتلامس صفيحة البنزين 312 ألف ليرة، وهي مرشحة للزيادة بفعل ارتفاع برميل النفط عالميا من جهة، ومزيد من تحليق الدولار محليا. والسؤال الجديد القديم: هل بات اليوم قريبا لتساوي صفيحة البنزين الواحدة الحد الأدنى للأجور كاملا، علما أنها تكاد تكون نصف الراتب اليوم، حيث الحد الأدنى للأجر يلامس 675 ألف ليرة؟!!
كل هذا يدور واجتماعات السرايا المالية قائمة، ولكن لا حديث جوهريا وعمليا وفعليا قادر على التبلور للخطة الإنقاذية مع البنك الدولي، حيث لا زالت فجوة الخسائر غير محددة وغير متفق على كيفية تقسيمها في لجنة يقال؛ إنها ما برحت أغنيتها المفضلة: كلٌّ يغني على ليلاه وأنا على ليلى أغني!!
من هنا، في ظل هذا التخبط، أطل الموفد الأمريكي الهوية والتمثيل، والإسرائيلي الهوى، أموس هوكشتين، لبث الروح في المفاوضات العالقة بين لبنان والعدو
الإسرائيلي حول ترسيم
الحدود البحرية في لحظة حساسة لبنانيا على مختلف الصعد، عسى أن تأتي باستفادة لكي ينتهي هذا الملف، خاصة بعد المطالبات المتزايدة للعودة إلى النقطة 29 ولتوقيع المرسوم 6433 لتوسيع الرقعة المتفاوض عليها من قبل الوفد العسكري التقني اللبناني؛ الذي بات الحديث عن بداية التفكير في تغييره، خاصة بعد تقاعد رئيسه منذ أسابيع قليلة.
ولا بد من وضع مقاربة لبنانية جديدة وموحّدة تؤدي إلى تحريك المياه الراكدة، إذ ليس خافيا الحاجة اللبنانية الماسّة إلى ثروته النفطية والغازية، وهي في المطلق عامل أساس في إعادة إطلاق للعجلة الاقتصادية، لا سيما بعد الأزمة التي خنقت البلد، ولا تزال تداعياتها قابضة على أعناق اللبنانيين.
وعليه، فإنّ أحدا لا يتوهّم أنّ الإفادة من تلك الثروة تتم بين ليلة وضحاها؛ وهي التي تحتاج من إلى أعوام من العمل الدؤوب تفاوضيا ولوجستيا وعملانيا كحد أدنى، لكن لا بدّ من إطلاق هذا المسار وإنما ليس بأي ثمن. وهنا السؤال: من أي نقطة وكيف سبيل العمل؟ هل على الطريقة الأمريكية؟ حيث ترجّح مصادر معنية أن تكون نقطة الأساس في المسار التفاوضي الجديد العودة إلى الخطوط العقلانية، بمعنى إعادة الاعتبار إلى الخط 23، وهذا ما أشار إليه رئيس الحكومة وغمز منه رئيس مجلس النواب. ويقال إن الاتجاه إلى فريق استشاري تقني ليرسم الحدود. ولكن ماذا عن الأطراف الأخرى التي تصر عند النقطة 29؟!!
يمكن تصنيف وساطة هوكشتاين الحالية بالأخطر على مسار الترسيم من وجهة النظر اللبنانية القانونية. فعداك عن إسقاطه الخط 29 من القوائم لمصلحة خطوط "مشوّهة"، يريد خلق "خط وهمي" يفصل المنطقة "المتنازع عليها" إلى قسمين، ويسمح لكل طرفٍ بالتنقيب ضمن نطاق محدد، أي بمعنى آخر إسقاط وصف "المنطقة الاقتصادية الخالصة الوطنية للبنان" على المنطقة السيادية اللبنانية، وإتاحة العمل ضمنها للشركات بمعزل عن القرار الرسمي السيادي اللبناني؛ من جهة، ومن ناحية أخرى أنهى نظريا العمل بالتعديلات على المرسوم 6433. واقتراحه يخلق مشكلة داخلية حول الطبيعة القانونية لتلك العلاقة "الملتبسة"، التي يريد من خلالها أن يؤسّس لدخول شركات أمريكية تعمل تنقيبا وإنتاجا مع الكونسورتيوم القائم (توتال- إيني-نوفاتك)، على أن تأتي تقسيم العوائد على الطريقة الأمريكية!
إن الواقع الحالي ينتظر الرؤية الأمريكية الجديدة مع الوقائع اللبنانية المأسوية اقتصاديا"، التي تتفاقم يوما بعد يوم ليرسم حالة تدفع بالطقم السياسي اللبناني للسعي إلى حلول، خاصة في ظل ما يحكى عن الآلية الجديدة التي ينوي المسؤول الأمريكي اعتمادها في التفاوض غير المباشر، التي تقوم على الديبلوماسية المكوكية، وهي عبارة عن زيارات سريعة يقوم بها بين بيروت وتل أبيب، حاملا طروحات وأجوبة وهواجس متبادلة، بغرض تكوين تفاهمات تراكمية مشتركة تؤدي لاحقا إلى اتفاق متكامل، علما أن الرئيس بري نفى ذلك، معتقدا أن العودة هي إلى المفاوضات غير المباشرة في الناقورة. وللتذكير، فقد عمل الموفد الأمريكي ساترفيلد بالطريقة نفسها دون جدوى.
بين الحاجة اللبنانية للاستثمار في الثروات الأحفورية والمطامع الدولية في كل غاز شرق المتوسط ولبنان ومرافئه البحرية كأولوية في هذا الميدان، يبقى لبنان أسير اللعبة الداخلية الإقليمية- الدولية، فالحال يشي بخطورة الأيام القادمة على الأرض، حيث لبنان تائه داخليا بين وجهتي السيد والحكيم، واستعصاء الحلول برؤية الأمريكية في ملف الترسيم.
صورة إيضاحية للخطين 23 و29