انتخابات العراق لماذا التهافت؟
منذ أن أعلن الكاظمي عن موعد الانتخابات المبكرة في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، والتي تحدد لها السادس من حزيران/ يونيو من العام الجاري قبل أن تؤجل أكثر من مرة لتعقد في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، والأحزاب والسياسيون ومن مشى في دربهم على طريق العملية السياسية الذي مهده الاحتلال، يتهافتون على جذب الناخبين، بكل الطرق والوسائل، مشروعة كانت أو غير ذلك، مستخدمين في ذلك كل الوسائل؛ من ترغيب بالمال والوعد بالوظائف وتقديم الخدمات الجهوية أو العشائرية، وبالدين عبر الفتاوى وخطب الجمعة والتكبير في المساجد، إلى الترهيب عبر التهديد بالحرمان من الخدمات والمنع من التوظيف، وصولا للتهديد بالتضييق وبالاعتقال والتعذيب أو الإخفاء القسري، وهو ما حدث بالفعل قبل وأثناء الانتخابات، فكان جليا اعتقال الناشطين والصحفيين، وتزايدت عمليات الاغتيالات للناشطين وتكميم أفواه الثوار والصحفيين وإغلاق القنوات التلفزيونية، وكأنه تمهيد نيراني لفتح ثغرات تمرر منها الانتخابات من دون إزعاج ولا معترضين للعملية السياسية واستحقاقاتها.
مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري الذي أعلن عن مقاطعته الانتخابات، عاد وأعلن عودته للاستحقاق، لتتصدر قائمته النتائج حتى كتابة هذه السطور، وهو ما لفت الانتباه؛ لماذا انسحب، ولماذا عاد، والسؤال الأوسع: لماذا هذا التهافت من شركاء العملية السياسية وفي القلب منهم المليشيات المسلحة التي دخلت الانتخابات في الدورة السابقة، واحتلت مقاعد لا بأس بها، وترغب في زيادة حصتها في البرلمان الذي سيعلن عن تشكيلته خلال ساعات؟
بالنسبة للمرشحين، فإن راتب النائب في البرلمان يوازي راتب عشرين موظفا ويزيد، و"تزيد" عليه مخصصات المنصب ومخصصات السكن ومخصصات الشهادة الدراسية التي حصل عليها، ليصل ما يتقاضاه النائب في البرلمان العراقي لحوالي 13 مليون دينار عراقي، لكن كل هذا لا يقارن بالتربح من المنصب الذي وقع فيه أغلب من دخل البرلمان منذ تشكيل أو برلمان بعد الاحتلال وحتى الآن.
لكن بالنسبة للكتل والأحزاب وقياداتها، حتى تلك التي لم ترشح نفسها لكنها تتزعم حزبا أو تيارا يمثل في البرلمان، فإن العراق القادم الذي ينتظر تشكيله يجب أن يكون للتيار أو الحزب نصيب معتبر فيه، فالمنطقة تتشكل والعراق جزء مهم فيها، لذا فيجب على كل حزب أن ينفق ما استطاع ويدفع بكل قوته ليكون رقما مهما في العراق القادم.
العالم والانتخابات في العراق
العالم متمثلا في إعلامه ومراقبيه؛ يختلف تماما عن نفس العالم الذي ينظر من منظور الدولة والسياسة، فالعالم الذي ينظر لانتخابات العراق كتب في صفحاته عن نماذج كاشفة عن فهم حقيقي لما يحدث في العراق، وما تمثله تلك الانتخابات. فعلى سبيل المثال كتبت صحيفة لو أورينت الفرنسية: الانتخابات ستُعيد إنتاج نفس النظام الفاسد مع تغير الأسماء والوجوه، فيما كتبت صحيفة ذا إيكونوميك تايمز إن المليشيات الموالية لإيران تتحكم بمجلس النواب في العراق، أما الإيكونوميست فكتبت أن الانتخابات في العراق ستعزز نفوذ المليشيات وسطوتها.
هذه العينة من العناوين لصحف ومواقع غربية معتبرة، تظهر مدى إدراك العالم ما يحدث في العراق، لكن الأمر لا يُدار من الصحيفة أو الموقع، ولو كان انتشاره أكبر من انتشار المسيحية في أوروبا، فالأمور تدار من غرف صنع القرار سياسيا وأمنيا واستخباراتيا، ويؤثر فيها العامل الاقتصادي والاستثمارات المحتملة والفرص الممكنة.
في مقال "الشرق الأوسط الجديد الذي يرسمه بايدن"، تحدثنا عن شكل السياسة الخارجية التي يرسمها الرئيس الأمريكي وفريقه، وأنهم وضعوا أمام أعينهم عنوانا عريضا مفاده أن "لا مزيد من الدول الفاشلة في الشرق الأوسط"، ويريدون أن يوقفوا هدر الوقت والجهد الذي يبذلونه في الشرق الأوسط من خلال تصفير المشاكل حتى بين إيران والسعودية. ولعل ذلك قد تأكد من خلال مؤتمر بغداد الذي دعا له الكاظمي من واشنطن وعقد في الثامن والعشرين من آب/ أغسطس الماضي، والذي كتبنا عنه وعن أهدافه مقالا بعنوان "مؤتمر دول الجوار والرهان الخاسر"، لنخلص من المقالين إلى أن أمريكا بايدن تريد أن تتفرغ للمارد الخارج من قمقمه، والذي بدأ يتهدد تايوان بتوغل قياسي واستفزازي بستة وخمسين طائرة للجزيرة المحمية أمريكيا، والرسالة بعلم الوصول لواشنطن.
ساسة العراق وشركاء العملية السياسية، يريدون أن يكونوا جزءا من هذه التشكيلة للمنطقة برضى تام من واشنطن التي طالما فرضت على قادة مليشياتهم عقوبات وجمدت ودائع وممتلكات، والآن وبعد الوفاق الذي تسعى إليه الإدارة الأمريكية مع إيران من خلال الاستجداء لاتفاق مُرضٍ لطهران حول مشروعها النووي وصواريخها البالستية، فإن الطرق على رؤوس ساسة العراق ومليشياتها سيخفف من قبل أمريكا، وهي الفرصة الذهبية لتوسع إقليمي ودولي يضفي شرعية أكبر على المنظومة الحاكمة بأحزابها وبرلمانها ورئاسة وزرائها؛ لمشروعات أكثر إدرارا للدخل من المكاتب الاقتصادية في حواري المحافظات والمدن.
ثوار تشرين وانتخابات العراق
التمهيد لهذه الانتخابات لم يكن بالترغيب والترهيب - كما ذكرنا - فقط، ولكن كان أيضا باختراق صفوف الثوار الذين أطاحوا بعادل عبد المهدي، رئيس الوزراء السابق، من خلال إقناعهم بالنضال السياسي، وهو ما أكدنا على عدم جدواه في مقال بعنوان "النضال السياسي في دولة المليشيات"، فاستخدموا المال السياسي تارة ووسيلة الإقناع المنطقي أخرى لجر الثوار لكي يكملوا مسيرتهم عبر الانتخابات. وقد ساهم في خلق تلك القناعة لدى عدد من الثوار، حالة الإنهاك التي أصابت
الثورة والثوار خلال عامين؛ مورس عليهم فيهما كل أنواع القتل والتعذيب والاعتقال، بدءا بالقنص وانتهاء بتفجير البيوت، مرورا بالاعتقال في أماكن غير آدمية والإخفاء القسري.
طاف بعض المحسوبين على تشرين بعض المدن في العراق يبشرون بالنضال السياسي وحتمية دخول الانتخابات، ويقنعون الساحات والثوار الأوائل بوجوب الخوض في هذا الطريق وتجربته، وأن الثورة لا طاقة لهم بها، وأن لا قِبل لهم بالحكومة وقواتها الأمنية والمليشيات وعناصرها العسكرية، والتيارات وقبعاتها الزرقاوية، وأن عليهم أن يدخلوا البرلمان ويحققوا أهداف الثورة من خلاله، وأن ينتزعوا حقوق الشهداء والمصابين في الثورة عبر التشريعات ومحاسبة الفاسدين بالقانون، فالتظاهرات لم تجن إلا مزيدا من الشهداء والمصابين والمخفيين قسرا.
هذه الخدعة لم تنطل على أغلب ثوار تشرين، وإن صدقها بعض الرافضين للعملية السياسية وشركائهم من العوام من العراقيين، لا سيما وأن من روج للفكرة وجوه عرفها العراقيون ثائرة غاضبة من الساسة الفاسدين والمليشيات الحاقدين وآلاتهم الإعلامية
الطائفية التي تروج للكراهية والتمييز بين العراقيين، وإذ بهم يرونهم واقفين في نفس الصف مع من ناهضوهم بالأمس بحجة تطوير أدوات النضال.
لعل نتائج الانتخابات أظهرت حقيقة المقصود من الترويج عبر صفوف الثوار من وجوب خوض غمار الانتخابات وتدشين ما أسموه بالنضال السياسي من الداخل، حقيقة مفادها أن لا فائدة من تلك الطغمة الجاثمة على صدر العراق؛ سارقة خيراته من أجل عيون سادتها في طهران، وليجوع العراقيون ليشبع ملالي طهران تقربا وزلفى لمرشد إيران.
التغيير في العراق بين الثورة والانتخابات
يعرف علماء السياسة التغيير بأنه انتقال المجتمع أو الدولة من حال إلى حال، من الحاضر إلى المستقبل، وصولا إلى أن تصبح أو يصبح المجتمع طرفاً فاعلاً في الأحداث، ما يعني التحول الذي يدفع المجتمع بأفراده ومؤسساته وهيئاته إلى حالة أكثر إيجابية، تعطيه القوة والفاعلية لإدارة شئونه، وهو ما يفتقده العراق منذ الاحتلال الأمريكي للعراق. فالدستور وما نتج عنه من مؤسسات سياسية ومجتمعية لا يزال رهن قوتين هزمتا إرادة العراقيين وفرضت عليهم إملاءات رضخ لها الساسة ومن يديرون دفة البلاد.
ولما كان التغيير يتخذ أشكالاً عدة، تبدأ بالإصلاح الذي يتحمله الفلاسفة وعلماء الدين وعلماء الاجتماع لتهيئة المجتمع لحالة الاستقلال الحقيقي وإدارة شئونه وفق المصالح العليا لمواطنيه، مرورا بالنضال السياسي عبر الأدوات الديمقراطية المعروفة والمعترف بها في الأمم، وصولا إلى الثورة عندما تقف الطبقة المسيطرة على مقاليد الأمور أمام التغيير المنشود.. ولما كان عقلاء العراق وعلماء الدين والاجتماع والمصلحون فيه قد ضُيق عليهم لصالح جوقة تعزف أنغام النصر وقت الهزيمة لمن يقود البلاد في هذه المرحلة، ولما كان أغلبهم بين سجين ومكمم الفاه أو مهدد في رزقه أو هاجر خوفا من كل ما فات، فإن طريق الإصلاح موصد دون المصلحين للتغيير..
ولكن النضال السياسي خدعة في ظل سيطرة القلة الحاكمة على كل أدوات التغيير السلمي وتداول السلطة، بما في ذلك الإعلام وما يداخله من حق في حرية التعبير سواء عبره أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، وفي ظل إعلام مضاد يبث الكراهية والفرقة بين العراقيين، ويصنفهم بحسب انتماءاتهم، معارضين أم موالين، فالكل موالٍ طالما لم يخرج عن دائرة الأحزاب والتيارات، ولو لم يكن في الحكومة، كما أن الجهات الرقابية تعمل لصالح تلك الفئة الحاكمة فتخفي فسادها وتغطي عوارها. ويعمل في ذلك المضمار القضاء الذي تمت السيطرة عليه بتعيين أنصار ومريدي تلك الأحزاب والتيارات للقضاء بين الناس بما يراه ساداتهم ومن عينوهم، ما يعني أن العملية الديمقراطية مبتسرة، والمشارك فيها يجمل وجه النظام القبيح.
ولما كان ما كان، فإن الحل هو الثورة واستكمال ما بدئ، فإرادة الشعب فوق كل إرادة، وإذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب المجتمع الدولي ويندحر الرصاص أمام إرادة الشعب، والأدوات كثيرة لكن الطريق طويل..
تقول العرب في الإنسان إذا مرض آخر العلاج الكي، وتقول الشعوب في الوطن إذا مرض، آخر العلاج الثورة.