ثمة تراشق عبر وسائل التواصل والإعلام ومنصات بعض مراكز الأبحاث والمراكز الثقافية؛ بين الاتجاهات الحزبية والفكرية في العالم العربي حول أداء ومستقبل وتراجع وتقدم أي حزب أو جماعة فكرية. وهو ينطلق في أغلبه من الخصومة والتنافس، وربما العداء، ونقص المعلومات، والتسرع في التحليل والتقدير المستقبلي بناء على معلومات متناثرة في شبكة الإنترنت، مع أن عشرات بل مئات التقديرات خلال السنوات الثلاثين الماضية من هذا النوع لم تحظ بأي نسبة من التحقق إزاء كثير من التحولات في العالم العربي.
ولئن كانت الانفعالية والسرعة دون تثبت هما الغالب على هذه التقديرات والآراء، غير أن استمرار الأمر على هذا المنوال يجعل من الخصام والمعارك الداخلية قوة ضاغطة على المشهد السياسي والفكري والمجتمعي في بلادنا.
ومن نافلة القول أن الاهتمام بفشل الآخرين وتضخيمه حتى دون دقة إنما يشكل حالة مَرَضية في النخبة السياسية والفكرية العربية، والتي كان من المفترض أن تتوازن في توجيه المجتمع العربي وشبابه لتحقيق الأهداف العليا والكبرى للأمة بالنهضة والتقدم، وما يحتاجه ذلك من حشد القوة البشرية كاملة على أساس القواسم المشتركة لمختلف القوى، والمصالح العليا للبلاد قُطرياً وعربياً.
لئن كانت الانفعالية والسرعة دون تثبت هما الغالب على هذه التقديرات والآراء، غير أن استمرار الأمر على هذا المنوال يجعل من الخصام والمعارك الداخلية قوة ضاغطة على المشهد السياسي والفكري والمجتمعي في بلادنا
لذلك فإن هذه المقالة تهدف إلى إثارة المخاطر الناجمة عن هذه الظاهرة الضارّة بالمصلحة العربية عموماً، وكذلك اقتراح المعايير التقييمية الموضوعية لتحولات القوى السياسية والفكرية في مجتمعاتنا لتوفير ما يتطلبه هذا التحول ذاته من إجراءات وسياسات تحمي الأمة من أي تداعيات سلبية، سواء على المستوى القُطري أو القومي العام.
ونظراً لما تمثله ظاهرة تقدّم "حركات الإسلام السياسي" المستنيرة والسلمية في مجالات التأثير والاستقطاب الاجتماعي والفكري والسياسي منذ العام 1990 تحديداً، والذي تكرّس بقوة وفاعلية واقعية بعد ثورات الربيع العربي عام 2011 في عدد من الدول العربية، حيث لم تقتصر الظاهرة على العمليات السياسية المرتبطة بالحكم، بل تعدّتها الى العمل النقابي والطلابي والمدني العام في كل الأقطار. فقد شكّلت حالة تحول مهم لصالح هذه الحركات الإسلامية، الأمر الذي اعتبره المنافسون سياسياً والخصوم فكرياً مهدداً لمصالحهم وجمهورهم ونفوذهم السياسي والاجتماعي، مما يدفع العديد منهم للبحث عن فشل هنا وسقطة هناك وخطأ في مكان آخر، ويعتسفون أحياناً تقييم تجارب الحركات الإسلامية بمعايير محدودة وشعبوية أكثر منها معايير سياسية وفكرية متوازنة تستند إلى المصالح العليا للأمة، بل وينسبون فشل تجربة أو مرحلة، أو تراجع تصويتي، إلى انهيار الفكرة والمشروع الذي تحمله هذه الحركات.
ولعل الحالة التي تمثلها حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين على وجه الخصوص إنما تحرج مثل هذه التقييمات غير المنصفة للحركات الإسلامية، وتقطع الطريق عليها بسبب القدرة الكبيرة التي أبدتها والنتائج اللافتة التي حققتها هذه الحركات في مواجهة المشروع الصهيوني والكيان الصهيوني، والتي مثّلت معركة "سيف القدس" مشهدها الأبرز في أيار/ مايو عام 2021. ولذلك يحاول البعض فصل هذه الحركات الفلسطينية (حماس مثلاً) عن مسار الحركات الإسلامية الأخرى قُطرياً وقومياً في الوطن العربي، ويحاول البعض الضغط على حركات المقاومة ذاتها للانفكاك فكرياً وتنظيمياً عن الحركات الإسلامية في العالم العربي لإضعاف الطرفين معاً، وبطرح أسباب ودوافع غير مقنعة.
ثمة مقاربة ربما تشكّل حلاً مرحلياً لإحداث نقلة نوعية في البيئة العربية لصالح التقاربات، وليس التراشقات بين التيارات والأحزاب والجماعات السياسية والفكرية العربية، حيث أن التنافس "شبه الديمقراطي" في الانتخابات بمختلف أنواعها وأقطارها إنما يمثل حالة صحية في التدافع البرامجي بين القوى الوطنية والقوى القومية والإسلامية في كل الأقطار العربية
ولذلك فإن الأمة تقف اليوم أمام مرحلة مهمة في إعادة التموضع لهذه القوى السياسية والأيديولوجية المختلفة في إطار المصالح العليا وليس المصالح الفئوية والأيديولوجية المُنبتّة عن المصالح العليا للأمة. وثمة مقاربة ربما تشكّل حلاً مرحلياً لإحداث نقلة نوعية في البيئة العربية لصالح التقاربات، وليس التراشقات بين
التيارات والأحزاب والجماعات السياسية والفكرية العربية، حيث أن التنافس "شبه الديمقراطي" في
الانتخابات بمختلف أنواعها وأقطارها إنما يمثل حالة صحية في التدافع البرامجي بين القوى الوطنية والقوى القومية والإسلامية في كل الأقطار العربية، وإن تمكّن حزب أو جماعة من الحصول على قوة تصويتية تؤهله قانوناً للحكم إنما يحقق الهدف المنشود من التنافس الانتخابي فعلاً.
ولذلك فإن التقاط الأنفاس ممن لم يَحُز أغلبية كافية، وتعاونه مع الفائزين، واستعداده لوضع قوته وكفاءاته وإمكاناته لإنجاح الحكومة أو النقابة أو المؤسسة الاجتماعية بقيادتها الجديدة، والمحافظة على فرصة التنافس في الدورة الانتخابية التالية، إنما يشكّل لبنة مهمة على طريق التلاقي على الأهداف العامة حتى في ظل الاختلاف الأيديولوجي والسياسي، كما يشكّل حالة تحوّل باتجاه التسابق على تحقيق المصالح العليا والنهضة بدل الانشغال بعمليات الإفشال وإثبات الذات ضد الآخر.
ومن الإنصاف القول إنّ قدرة أي قوة سياسية أو اجتماعية على نيل رضى أغلبية شعبية نسبية في أيّ من هذه المواقع؛ إنما تعبّر عن تقاطعات بين توجهات وبرامج هذه الجماعات مع شرائح اجتماعية أساسية تتراوح بين الأغلبية والأقلية في العمليات الانتخابية بسبب التقييم الموضوعي للإنجاز عند انتهاء كل دورة انتخابية، الأمر الذي يعطي الجمهور الحق الكامل في إعادة الاختيار وفق معياره العام لأي طرف من المتنافسين، ما يجعل التراشق الإعلامي والاتهامات والتشفي وإنكار الإنجازات مساراً مضللاً للجمهور، وضارّاً بالمصالح العليا.
فعلى سبيل المثال، حين يتمكّن حزب أو جماعة من تحقيق أغلبية نسبية، ويشكل الحكومة بالتشارك، ثم يحافظ على هذه الحالة لعشر سنوات كاملة مثلاً، إنما يعدّ إنجازاً يستحق التوقف، وهو لافت للانتباه، وذلك حتى لو قرّر الجمهور تغيير هذه القيادة في الانتخاب في دورة لاحقة، سواء بهدف التغيير، أو إعطاء الفرص لآخرين، أو الاحتجاج على فشل القائمين على القيادة في إنجاز بعض البرامج، أو معالجة أزمات طارئة، واتخاذ سياسات يرفضها الجمهور، أو غيرها من الأسباب، ويشكل ذلك صلب المفهوم الديمقراطي الذي ينادي به الجميع علناً على الأقل.
تحقق قدرة أي جماعة أو حزب على كسب الجمهور وحصد تأييده فيجب أن يُقبل أولاً، ويخضع للتقييم الموضوعي ثانياً، أما محاولات اتهام الجمهور بالجهل، والبساطة، وعدم الإدراك، وأنه مغرّر به، فهي من التقييمات والأداءات القاتلة للجمهور، والناشرة للإحباط وعدم الثقة بالنفس لدى الأجيال، وهي تُضعِف الثقة بالعملية الانتخابية وبالآليات الديمقراطية
وأما تحقق قدرة أي جماعة أو حزب على كسب الجمهور وحصد تأييده فيجب أن يُقبل أولاً، ويخضع للتقييم الموضوعي ثانياً، أما محاولات اتهام الجمهور بالجهل، والبساطة، وعدم الإدراك، وأنه مغرّر به، فهي من التقييمات والأداءات القاتلة للجمهور، والناشرة للإحباط وعدم الثقة بالنفس لدى الأجيال، وهي تُضعِف الثقة بالعملية الانتخابية وبالآليات
الديمقراطية، ولذلك فإن احترام رأي ورغبة وتوجّه الجمهور يعدّ مدخلاً مهماً مستمراً ومتكرراً لترسيخ العملية الديمقراطية من جهة، ولاستجماع الطاقات الوطنية خلف من يفوز لتحقيق المصالح العليا من جهة ثانية، واحترام رأي الجمهور ودوره في الاختيار الحرّ للقيادة في أيّ مرحلة من جهة ثالثة.
كما أن التفكير الصفري بأن تكون أي قوة سياسية خيار الجمهور الدائم أو أنها لا شيء، فهو تفكير وهميّ غير واقعي، وغير قابل للتطبيق في العملية الديمقراطية، والنماذج الغربية في هذه المسألة، وهي بالعشرات، تقدّم مثلاً واقعياً يمكن الاستفادة منه، ما يدفع الفكر العربي إلى تشكيل حزام أمان للفائزين في الانتخاب لتحقيق أهداف البلاد والمؤسسة التي تمت فيها عملية الانتخاب، من برلمان، أو نقابة، أو بلدية، أو عمل طلابي، أو مؤسسة مجتمع مدني، وغيرها.
وفي ضوء ذلك، يفرض التفكير الأعمق في النتائج والمآلات للعمليات الديمقرطية العربية على المفكرين أولاً، وعلى السياسيين ثانياً، إعداد وتكريس ميثاق فكري وسياسي واجتماعي ينسجم مع فكر الأمة وقيمها العربية الإسلامية ليلتزم بها الفائزون وغير الفائزين، وذلك حرصاً على عملية التقدم والإنجاز في البلاد العربية، واستثمار مواردها، والحفاظ على معنوياتها ووحدتها، والتي يمكن أن تُحدِث تطويراً مهماً باتجاه النضهة الحضارية التي ينشدها كل أبناء الأمة وشعوبها.