مقابلات

خبير تونسي لـ "عربي21": سعيّد ينفذ مشروعا شموليا خطيرا

شاكر الحوكي: الاستئصاليون" تحالفوا مؤقتا مع سعيد، لكنهم يعارضون مشروعه" التأسيسي" وسيتمردون عليه (عربي21)

الأكاديمي شاكر الحوكي أستاذ القانون الدستوري والفكر السياسي بكلية الحقوق والعلوم السياسية ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية والقانونية، تصدر قائمة الـ 6 آلاف شخصية تونسية وقعت عريضة، وصفت قرارات التونسي يوم 25 تموز (يوليو) الماضي بـ "الانقلاب على الدستور"، ومحاولة فرض تلك القرارات بـ "استخدام القوات المسلحة بطريقة غير قانونية".. كما انخرط في الحراك الذي نظم عدة مسيرات معارضة.

الإعلامي والأكاديمي كمال بن يونس التقى الخبير التونسي والدولي شاكر الحوكي في لقاء حصري لـ "عربي21" وأجرى معه الحوار التالي:

 
س ـ أستاذ شاكر الحوكي تزعمت مع نخبة من الخبراء في العلوم السياسية والقانونية والاجتماعية، عريضة تطالب بالتراجع عن قرارات الرئيس التونسي يوم 25 تموز (يوليو) الماضي، واعتبرتموها "انقلابا على الدستور" مع "توظيف" القوة العامة بصفة غير قانونية".. في المقابل يعتبر خصومكم ما حصل "قرارات فوق دستورية"، أملاها "الخطر الداهم" الذي يهدد البلاد. فلماذا تصرون على معارضة "المشروع السياسي الثوري" للرئيس قيس سعيد الذي كشف عنه قبل ترشحه في 2019؟


 ـ أسجل أولا أن الرئيس قيس سعيد ترشح للانتخابات الرئاسية وفق دستور 2014، وأقسم قبل مباشرته مهامه أمام البرلمان على نسخة من القرآن، أن يحترمه وقوانين البلاد.

لكن، بالنسبة لنا نحن الخبراء في العلوم السياسية والدستورية والقانونية، نعرف أن الأستاذ قيس سعيد كان منذ مدة طويلة من بين الذين يتبنون مقولات التيارات "الشمولية"، التي تقلل من شأن الديمقراطية التمثيلية وتعتبرها "شكلية" لذلك؛ أعلن في حوار صحفي قبل الانتخابات، أنه يفكر في حل مجلس النواب واستبدال الديمقراطية البرلمانية والنظام السياسي، الذي نص عليه الدستور بتمثيل "مجالسي" محليا وجهويا ووطنيا، عبر"التزكيات" و"التصعيد" و"الاقتراع"..إلخ.
 
هذا المشروع، يذكر بالنظام السياسي الذي اعتمده الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي ومرجعياته الفكرية والسياسية "شمولية" خطيرة جدا، وهي معادية للديمقراطية والتعددية على غرار "النازية" والشيوعية الستالينية"، وهي أسوأ من أنظمة شعبوية خطيرة أخرى ثبت فشلها؛ مثل  "الفاشية الإيطالية" في عهد موسيليني.

ما يحصل حاليا، "تأسيس لمشروع سياسي شعبوي" معاد للتعددية والديمقراطية، وهو أخطر من الانقلابات التقليدية، ومطلوب من قيادات الجيش الوطني والأمن الجمهوري عدم دعمه.

مرجعيات فكرية 

س ـ لكن الأستاذ قيس سعيد كان نائبا لجمعية القانون الدستوري برئاسة الخبير الكبير عبد الفتاح عمر، الذي كان يطالب بإصلاح الأوضاع السياسية عبر إصلاح القوانين والدستور.


 ـ رحم الله الأستاذ عبد الفتاح عمر الذي كان يؤمن بعلوية الدساتير والقوانين مع العمل على إصلاحها وتطويرها، ولم يكن من أنصار "المواقف الشعبوية" والانقلاب على الدستور أو حل البرلمان المنتخب.

البلاد اليوم أمام مخاطر كبيرة جدا بسبب "مغامرة" 25 تموز (يوليو) الماضي وقرارات 22 أيلول (سبتمبر) الماضي غير الدستورية، التي أدت إلى حل البرلمان والحكومة وإحداث فراغ سياسي وإداري شامل وتعطيل العمل بالدستور.

حل البرلمان وتعطيل الدستور

س ـ لكن الرئيس قيس سعيد أكد مرارا أنه لم يقم بانقلاب، وأنه يحترم الدستور ولن يغير بعض فصوله، وخاصة البابين الأول والثاني.


 ـ الدستور كلّ، ولا يمكن الحديث عن احترام بعض فصوله وإلغاء البقية بقرار رئاسي أو "مرسوم"، وهو الذي وقعت المصادقة عليه بعد 3 أعوام كاملة من الحوارات داخل المجلس الوطني التأسيسي التعددي المنتخب وخارجه.

لا يمكن لأي كان، بما في ذلك رئيس الجمهورية المنتخب، إلغاء الدستور وحل البرلمان بـ "جرة قلم". ولكن، يمكن اقتراح مشروع تعديل يعرض على البرلمان المنتخب، أي على السلطة التشريعية التي تستعين بالخبراء.

ما يجري في تونس منذ أسابيع، من بين نذر "النظم الشمولية" الخطيرة جدا التي أطلت علينا، كما لم تطلّ علينا من قبل، ولا بد من فهم "المرجعيات الفكرية" وفهم "العقل السياسي الخطير" وراءها.

خلفية فكرية سياسية

س ـ ما هي أهم هذه المرجعيات الفكرية السياسية؟


 ـ من أراد أن يفهم "الخلفية الفكرية السياسي الخطيرة" لقرارات الرئيس قيس سعيد منذ عامين، وصولا إلى قرارات 25 يوليو الانقلابية على الدستور، عليه أن يطلع على كتابات مفكرين كبار مثل الألمانية "حنا أرندت" عن الأنظمة الشمولية.

الأفكار الشمولية والشعبوية التي عبر عنها من يسمون بـ"أنصار قيس سعيد"، درستها بعمق المفكرة والعالمة الألمانية الأمريكية "حنا أرندت" باقتدار وجرأة، لم يجارِها فيها أحد من منظّري السياسة في كتبها التي فكّكت فيها منظومات الحكم "الشمولية"، مثل التي انتهجتها مُثُل النظام النازي في ألمانيا والنظام الستاليني في روسيا "الاتحاد السوفياتي السابق".

ولعل أهم خاصية تقوم عليها هذه الأنظمة الشمولية، هي الترويع ونشر الرعب والخوف، التي أكدتها  قرارات 22 أيلول (سبتمبر) الماضي "الاستثنائية"، عبر جملة من الاعتداءات على حقوق الإنسان، مثل الحد من حرية التنقل، وفرض الإقامة الجبرية، وسجن بعض الصحفيين والإعلاميين والمدوّنين.

في الوقت نفسه، فإن بقية خصائص "النظام الشمولي" تبدو في تقاطع كلي مع "المشروع الثوري العالمي"، الذي يدعو له قيس سعيد ويبشر من خلاله بتغيير النظم السياسية في العالم على غرار ما فعل القذافي سابقا.

وهذا المعطى، يدعونا إلى أقصى درجات الانتباه والحذر، وإلى أخذ ما يقوله وما يفعله على محمل الجدّ. 

الاعتماد على "الغوغاء" 

س ـ حسب رأيك، ما نقاط الالتقاء بين "مشروع التأسيس" الذي يدعو له قيس سعيد وأنصاره، وما وصفته بـ "النظام الشمولي"؟


 ـ أولى هذه الخصائص تضخيم دور "العامة" ـ والاعتماد على"الغوغاء" ـ كمحرك للفعل السياسي.
 
و"العامّة" في مفهوم المفكرة الألمانية الأمريكية "حنا أرندت"، أولئك الذين يتميزون بعدم الالتزام بأي شكل من أشكال الانتماء السياسي أو الحزبي أو المدني أو النقابي أو البلدي، كما أنهم قلّما يمارسون حقهم الانتخابي أو يجتمعون على قاسم مشترك أو مشروع موحد.
 
في الوقت نفسه، هم لا يتقيدون غالبا بأي "أخلاقية سياسية"، لذلك فإنهم سرعان ما يسقطون في فخ من يريد التلاعب بهم.
جمهور "الغوغاء" يمكن إقناعه بشعارات شعبوية تبسيطية؛ بحكم جاهزيّتهم العالية لتصديق الأوهام والإشاعات.
 
لهذا السبب، تكون أولى الخطوات التي تسارع إليها الأنظمة "الشمولية" فسح المجال أمام العوامّ للانتشار عبر تفكيك الأجسام الوسيطة بين الدولة والمجتمع، على غرار ما قام به النظام الستاليني مثلا من تخريب لأي إمكانية لإنشاء علاقات تضامنية بين المواطنين، وذلك بنسف نظام السوفياتات، وتخريب طبقة الفلاحين، وتفكيك الإدارة وضربها.
 
وقد لاحظنا هذا التمشي في حوارات قيس سعيد قبل الانتخابات وسمعنا في خطبه بعده: دعوة إلى إلغاء الأحزاب والجمعيات والنقابات والهيئات التعديلية والرقابة القضائية، والعمل على تقسيم الناس بين "أخيار" و"أشرار" وبث التفرقة في ما بينهم. 

توظيف "غريب "للقانون 

س ـ لكن قيس سعيد أكد أنه سيحترم القانون والدستور بعد تعديله؟


 ـ القرارات القديمة والجديدة التي اتخذها قيس سعيد تؤكد تقاطع مشروعه السياسي مع "الأنظمة الشمولية"، في ضوء ما اكتشفته فيها المفكرة الكبيرة حنا أرندت من سمات، من بينها التوظيف "الغريب" للقانون وتقديم مفاهيم خاصة للقوانين.

س ـ كيف؟


 ـ مثلا عبر استحضار بعض "القواعد الجامدة" المستمدة من التاريخ أو من الطبيعة، التي لا يستوجب تطبيقها أي نقاش أو استثناء، هنا تبرز مثلا دعوات تيار من "الشموليين الشيوعيين" وتبشيرهم بـ "الحتمية التاريخية"؛ إذ بينما يضطلع "القانون التاريخي" بإلغاء كل ما يعطّل بروز المجتمع الشيوعي، يقوم "قانون الطبيعة" بتفعيل قاعدة "الانتخاب الطبيعي" الداروينية (نسبة إلى العالم البريطاني شارل داروين)، من خلال التخلص من كل الزوائد البشرية: كاليهود والمعاقين والمثليين.
 
ومن هنا، يتحقق التقاطع بين مشروع سعيد السياسي وشمولية النظامين النازي والستاليني؛ لأنه يعتبر نفسه صاحب "رسالة تاريخية مقدسة" لإنقاذ الشعب التونسي والبشرية، كما زعم من قبله كل من ستالين وهتلر.

س ـ ألا ترى أنك ذهبت بعيدا؟

 
 ـ من يطلع على أدبيات قيس سيعد، يكتشف أنه "يبشّر" بمشروع ينهض على أن القانون التاريخي ـأو قل القانون السياسي ـ يقوم عنده على حتمية نهاية الأنظمة الحزبية والديمقراطية التمثيلية، ليحل محلّها مشروعه البديل الذي يقوم على ما يسميه بـ"الديمقراطية الحقيقية" و"مجتمع القانون" أو "التأسيس الجديد".

ومن أجل تطبيق هذا "القانون"، رأيناه كيف ساهم في "تعفين الوضع السياسي" حتى يبلغ به غايته؛ فرفض ختم مشاريع القوانين، ولم يقبل أداء اليمين أمامه من بعض أعضاء الحكومة، وسارع إلى تجميد البرلمان وإلغاء الدستور.. إلخ 

الأمر يتعلق بمسار واضح كان هدفه إحداث أزمة والتعجيل بتنزيل مشروعه السياسي.

إذن، فإن التذرّع بـ"التدابير الاستثنائية" أو بـ"الخطر الداهم/ الجاثم" أو بـ "مكافحة الفساد" أو بـ "استمرارية الدولة"، لا يعدو عن أن يكون تعللات واهية للمضي قدما في تحقيق مهمته التي كلف نفسه بها. 

تحالف وقتي 

س ـ لكن كيف تفسر دعم بعض النقابيين و"الحقوقيين" و"السياسيين" والأكاديميين لقرارات 25 تموز (يوليو) و22 أيلول (سبتمبر) الماضيين؟


 ـ الاستئصاليون"وقطاع من الانتهازيين دعموا قرارات الانقلاب على الدستور والقانون، ثم سيعارضون قيس سعيد بقوة وعنف لاحقا؛ يريدون منه أن يزيح طرفا سياسيا يزعجه ويزعجهم، أي حزب النهضة، طمعا بأن يحتلوا موقعها شعبيا، وبعد ذلك سوف يحاربونه لأنهم لا يؤمنون باستبعاد الأحزاب وتهميش مؤسسات الجمعيات المجتمع المدني القريبة منهم.

فلا عجب بعد ذلك إن تمّ اللجوء إلى العنف والقوة ومزيد انتهاك الدستور والقانون؛ لتنزيل مثل هذه المشاريع الشمولية على أرض الواقع.