منذ انقلاب الثالث من تموز (يوليو) سنة 2013م، وما جرى بعده من أحداث كان الحراك قويا في الشارع ضده، إلى أن تم إخفاته، سواء بتسوية خفية بين أطراف لم تتضح حقيقتها كاملة بعد، أم إن النظام اعتمد على المراهنة على الفشل من داخل هذا المعسكر المعارض، بحكم تصلب القائمين على أمره، بغض النظر عن الأسباب، لكن بعد 2015م، أصبح النظام في مصر يتخلى عن هدوئه مع المعتقلين، إلى معاملة في غاية القسوة أكثر من قبل، وتزداد الشراسة يوما بعد آخر بعد يقينه بضعف الأطراف الأخرى، بغض النظر عن أسباب هذا الضعف، ونحن نثق يقينا بأن مصدر قوته ليست ذاتية، بل لضعف الآخرين.
هذا الضعف الذي يشهد به القريب والبعيد، والمحب والكاره، لا تخطئه العين، وبلا شك ينتقل لمن بداخل المعتقلات، وقد كانت تصل لهم كل تفاصيل الخلافات خارج مصر بالكامل، سواء كان ذلك عن عمد من النظام ليصيبهم بالإحباط بحالة إخوانهم، وما صاروا إليه، وبدل أن ينشغلوا بفك أسرهم، انشغلوا بخلافاتهم، أو تصل بطريقة أو أخرى، المهم أنها كانت تصل، وأعتقد أن أخبار الخارج تصل للكبار والصغار على حد سواء في المعتقلات.
هذه الحالة من الضعف، وغياب الرؤية، وظهور فئة لا هم لها إلا حالها، وحال من على خطها، يصيب من بداخل المعتقل بحالة من اليأس، أو الضعف، تجعله يفكر في حاله، وكيف يتخلص من هذا الوضع الذي تحمله لعلة الأجر من الله سبحانه وتعالى، ليتحقق به نصرة الحق الذي يؤمن به، لكنه رأى أن القائمين على أمر هذا الحق بهذا الحال.
ولذا لا نستغرب ما يخرج كل فترة وأخرى من رسائل من داخل السجون المصرية، لأناس يطلبون الخلاص، والخروج من السجن بأي ثمن، حتى لو أدى ذلك للاعتراف بهذا النظام الظالم المستبد، الذي يوقن المعتقل في قرارة نفسه: بأنه ظالم، ويكفيه ما يقوم به نحوه فقط، ليحكم عليه بظلمه وفساده، لكنه أهون الشرين، وأخف الضررين عليه.
وقد خرجت من قبل رسائل من السجون، ولا زالت تتوالى الرسائل، وهو أمر طبيعي في ظل هذه الحالة من الضعف، ومؤخرا خرجت رسالة من السجون المصرية لعدد من المعتقلين، وهذا نصها:
(بعد وفاة الرئيس محمد مرسي رحمه الله، وقد كانت الشرعية تتمثل في شخصه، أما وأنه رحل، فقد أصبح للبلاد رئيس شرعي، ودستور وقوام دولة كاملة، ومؤسسات مكتملة.
ونحن إن كنا نعبر عن شريحة معتبرة تمثل أغلب المعتقلين بكافة توجهاتهم السياسية، مخاطرين بأنفسنا لإيصال كلمتنا بصوت مسموع لدى أطراف إتخاذ القرار نعلن أنه وفقا لما تم التصريح به يوم ١١ أيلول (سبتمبر) بمناسبة إطلاق استراتيجية حقوق الإنسان نعلن :
أننا ندعم ما تم التصريح به، إذ نوافق علي مصالحة أو تسوية شاملة في الإطار الذي تحدده الدولة، بما يضمن عدم إعتراض مشاريعها، وما تقوم به، ونطالب كل أطراف الصراع لإنهاء معاناتنا ومعاناة أطفالنا وأسرنا ومرضانا وعجائزنا وشبابنا، الذين أصابهم مختلف أمراض السجن النفسية والجسدية، ومستقبلهم الغامض الذي يمضي أمامهم، وأمام أسرهم في حزن مكتوم، وإذ يمر قطار الأعمار سدى دون إمكانية تعويضية، فرحمة بنا أنقذونا من بين هذه الجدران، وأعيدونا للحياة).
هذا البيان الذي نشره بعض الناشطين والإعلاميين المصريين بالخارج، كالأستاذ هيثم أبو خليل، والدكتور أسامة جاويش، والأستاذ سيف الإسلام عيد، وأشاروا إلى أن البيان كتب في 23 أيلول (سبتمبر) 2021م، ومنذ نشر البيان، وقد تضاربت الآراء حوله، بين من يتهم البيان بأن جهة أمنية وراءه، وبين الجهات الأمنية في مصر والتي تهاجمه وتكذبه، وكذلك إعلام النظام يهاجم البيان، أي أن أطرافا عدة اتفقت على مهاجمته، وهناك فئة نظرت إليه نظرة أخرى، من باب الرحمة بهؤلاء، والتفكير في حالهم.
وهكذا كلما ستخرج رسالة في هذا الإطار، سنرى مثل هذا التباين في وجهات النظر، ولا بد أن يتذكر جميع المعارضين لهذا النظام، عدة نقاط مهمة، منها ما هو ديني، ومنها ما هو سياسي وحياتي، حتى لا تنحرف البوصلة فتتوجه إلى غير موضعها الصحيح.
دينيا: فإن إقدام معتقل مسجون على طلب العفو عنه، وإن لم يكن مخطئا، فهو أمر يدور بين حكمين: إما أن يأخذ المعتقل بالعزيمة ويصبر، ويتحمل، وله الأجر عند الله سبحانه وتعالى، وإما أن يأخذ بالرخصة إن رأى من نفسه عدم تحمل، وهو أمر جائز شرعا له، لا يملك أحد أن يحرمه ولا أن يجرمه، ولا ينقص ذلك من أجره عن صبره من قبل.
وفي العهد النبوي وجد الموقفان، موقف بلال رضي الله عنه، الذي تحمل وكان يردد: أحد، أحد. وموقف عمار بن ياسر رضي الله عنه الذي لم يتحمل، ونطق بكلمة الكفر، ونزل فيه قوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل: 106، ونذكر كل منهما ونقول عنه: رضي الله عنه، فالعزيمة والرخصة تعتمد على حالة الشخص، ما دامت فيما يقبل فيه العزيمة والرخصة شرعا.
أما سياسيا وحياتيا: فقد مرت الإخوان من قبل بهذه الحالة، حينما عرض نظام عبد الناصر أن من يكتب تأييدا له يخرج من المعتقل، وخرج عدد من الإخوان، وكان من بينهم الشيخ صلاح أبو إسماعيل رحمه الله، والذي رأى أن وجوده في السجن لا يفيده ولا يفيد دعوته، وأن تأييدا مكتوبا لعبد الناصر لن يقدم ولن يؤخر، وخرج بالفعل، وخرج آخرون، وعندما عادت جماعة الإخوان للعمل، لم تجد أحدا تتدثر به ليعودوا للمجتمع إلا إخوانهم الذين سبقوهم بالخروج للحياة ممن أيدوا عبد الناصر.
وكان موقف الأستاذ حسن الهضيبي مرشد الإخوان الثاني رائعا في نظرته لمثل هذا الموقف، فقال كلمة معبرة ظل يرددها في السجن، ويرددها الإخوان بعده، إذ يقول الهضيبي: تقوم الدعوة على أكتاف أصحاب العزائم، ولأهل الرُخَص في دعوتنا مكان. فلم يحكم بطرد من يضعف، ولا من أخذ بالرخصة.
علما بأن هناك فرقا كبيرا بين نظام عبد الناصر ونظام السيسي الآن، فعبد الناصر كل من كتب وأيده خرج بالفعل من السجن، وتسلم عمله، لكن السيسي ونظامه، ليس لديهم أي نية لعفو أو صلح أو تسامح، وقد حدث من قبل أن طلبوا من يريد أن يؤيد ويخرج، وكتب بعض المسجونين ما طلب منه، وفوجئوا بعدها بعدم الخروج، بل تم نقلهم إلى سجون أشد قسوة وشدة.
إن إقدام معتقل مسجون على طلب العفو عنه، وإن لم يكن مخطئا، فهو أمر يدور بين حكمين: إما أن يأخذ المعتقل بالعزيمة ويصبر، ويتحمل، وله الأجر عند الله سبحانه وتعالى، وإما أن يأخذ بالرخصة إن رأى من نفسه عدم تحمل، وهو أمر جائز شرعا له، لا يملك أحد أن يحرمه ولا أن يجرمه، ولا ينقص ذلك من أجره عن صبره من قبل.
ولهذا السبب نجد من يعارض هذا الفعل من المعارضة، لعدم الثقة بهذا النظام، ولا بوجود نية لديه لأي حلحلة لملف المعتقلين، فكلما خرج شخص بضغوط دولية، أدخل مكانه عشرات، بل يزداد التوسع في بناء السجون، هذا من حيث الواقع، الذي نراه من النظام الذي لا يقدم على هذه الخطوة، إلا مجبرا فقط.
لكن يظل الموقف من طلب أي معتقل، أن يخرج، فهذا حقه، ولو أدى ذلك لتقديمه بعض التنازلات، فكل شخص أدرى بحاله، ولا نضيق ما وسعه الله تعالى، ورحم الله الشيخ صلاح أبو إسماعيل، وقد عيَّره أحدهم بتأييده لعبد الناصر مقابل خروجه من السجن، فطلب منه أبو إسماعيل أن يقرأ الخطاب الذي كتبه، فقرأ: (من المعتقل صلاح أبو إسماعيل إلى الرئيس جمال عبد الناصر).
فقال أبو إسماعيل: كفى، لا تكمل، يكفيني ذلك، إن كلمة معتقل تجب ما بعدها، فهي تصور واقعي وحالتي، وموقف الشرع مما أنا فيه، فعندئذ بهت الذي عيره، وسكت. وهو ما ينبغي أن نظل نتذكره، إن المعارض في الخارج لو كانت لديه مشكلة في إقامته، أو أوراقه، لا ينام الليل، ولا يهدأ بالنهار، حتى يبحث عن حل لها، فما بالنا بالمعتقل، وقد ترك وراءه زوجة وأولاد، وحياته نفسه داخل المعتقل، ولكن دون حل.
على من يرفض ما يقوم به بعض المعتقلين من تنازل، أن يقدم لهم بديلا، أو يخبرهم بما قام به نحوهم، ونحو أسرهم، وكلنا يعلم تقصير كثيرين في هذا الملف، حقوقيا وماليا ونفسيا، فلا ينبغي أن نكون من المنظرين ونحن على الشاطئ، ونحن في أمان وسلام، وهم في قلب المحرقة، نعم نطمح من الجميع أن يتحلى في السجن بالصبر والثبات والقوة، ولكن هذا لا يمنع أنه سيكون بيننا من لا يتحمل، ويميل للأخذ بالرخصة، وهذا حقه.
السيسي والإخوان.. حقائق وأحلام
كيف نتجاوز الصراع بين العلماني والإسلامي؟