شكل الاستعمار
الاستيطاني في
فلسطين الركيزة الأولى للعقل الصهيوني، وتجسيداً لمشروع السيطرة والسطو على الأرض والتاريخ والمقدسات. منحَ المُستعمر الصهيوني الاهتمام الأكبر للعامل الجغرافي بالسيطرة، مع العامل الديمغرافي للمستعمرات، الذي دخل على رأس البرامج الحزبية منذ ما قبل إنشاء الكيان الصهيوني عن طريق عصابات الاستيطان الاستعماري؛ بتسهيل وتواطؤ من
الاحتلال البريطاني لفلسطين لإحداث النكبة الفلسطينية عام 48.
ومنذ احتلال
إسرائيل عام 1967 لبقية أرجاء فلسطين، أصبحت الخطط والبرامج والميزانيات، والمشاريع للحكومات الصهيونية المتعاقبة، تجسد هذا الاهتمام على أرض الواقع، من مصادرة مستمرة للأرض، وتضييق المساحة الجغرافية للسكان الأصليين وحصرهم في مناطق معزولة، ومحاصرتهم بكتل ومدن استيطانية ضخمة متصلة مع بعضها البعض.
تركيز الجهد الاستيطاني في مناطق الضفة الغربية وفي محيط القدس منذ العام 1991، أي منذ انطلاق ما سميت بعملية السلام ومؤتمر مدريد، ثم بعد اتفاق أوسلو الشهير عام 1993، الذي أتاح مناخه الجديد إطلاق يد المؤسسة الصهيونية للسطو على بقية الأراضي ووضع المشاريع الاستيطانية لها، كأحد الأركان الأساسية والهامة لإجهاض أي "كيان فلسطيني" ذي سيادة مستقبلية ومُعَرف بحدود وجغرافيا متصلة مع بعضها البعض، الأمر الذي يستنتج منه، بصفة عامة، موت عملية السلام، والرهان عليها وعلى أي جزء منها أصبح ضربا من الأوهام القاتلة للمشروع الوطني "التحرري" للشعب الفلسطيني، وبالذات في مرحلة ما بعد أوسلو وإلى اليوم الذي نشهد فيه الاعتداءات المتكررة للمستوطنين على الأرض والبشر، والمشاريع العدوانية المستمرة للسطو عليها.
تصاعد ملحوظ وملفت للاعتداءات الإرهابية للمستوطنين على الفلسطينيين في الضفة، بحسب موقع عرب 48 نقلا عن صحيفة هآرتس في 3 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، "فإن معطيات أعوام 2019-2021 تدل على تزايد الهجمات التي ينفذها المستوطنون. فمقابل 363 اعتداء إرهابيا ضد فلسطينيين في العام 2019، ارتفع العدد إلى 507 في العام 2020، وإلى 416 اعتداء إرهابيا في النصف الأول من العام الجاري (2021)، حسب توثيق أجهزة الأمن الإسرائيلية.
في إطار الفكر الاستراتيجي الصهيوني الاستعماري، يتجذر ويتطور العدوان عاماً بعد آخر، وبشكل منهجي، ليجعل حياة الفلسطينيين مستحيلة فوق الأرض. القاعدة الأساسية هي الإذلال المتعمد للسكان الأصليين داخل ما يسمى بالخط الأخضر عام 48، ومحاصرة أي تمدد طبيعي ونمو سكاني، وعرقلة تطور أصحاب الأرض بسن مئات القوانين والأنظمة، ومحاصرة هويتهم الوطنية العربية، ومحاولة أسرلتها.
وهذا يبقى في صلب اهتمام المؤسسة الصهيونية، لتكون الخطط الاستيطانية لبقية الأرض الفلسطينية في الضفة والقدس مُكملة لهذا التراكم الاستعماري؛ بعد تحويل البؤر الاستيطانية الاستعمارية لقوة منظمة ومسلحة بمقدورها تدمير ممتلكات الفلسطينيين، والاعتداء عليهم وعلى أراضيهم بشكل متواصل، بحيث تمؤسس عمل قطعان المستوطنين، بمليشيا مسلحة لها طرقها وأساليبها للعدوان، والاقتحامات المتكررة لباحات المسجد الأقصى ولبقية المناطق والأراضي الفلسطينية المحتلة في مدن الضفة الغربية باتت برنامجها اليومي في السنوات الأخيرة.
لا يكاد يمر يوم إلا ويفيد فيه سلوك المؤسسة الاستيطانية الاستعمارية عن حملات إرهاب منظمة للاعتداءات على الشعب الفلسطيني، إرهاب مدعوم من المؤسسة العسكرية والأمنية الصهيونية وبسلاح ومخازن الجيش الصهيوني. والصورة المرتسمة الآن، عن ردود الفعل على إرهاب المستوطنين وعدوانهم على الأرض والمقدسات والإنسان، لم يعد مجرد شجبها وتكرار الحديث عن عدم شرعيتها في الوجود فوق الأرض، ومخالفتها لكل الأعراف والقوانين الدولية، لأن ما تبلور عربياً في الأعوام القليلة الماضية، بالتحالف مع قوى استيطانية صهيونية وفق نموذج
التطبيع الوقح والسافر مع قادة المستعمرات الصهيونية، مع ما خلفته حقبة أوسلو الطويلة من آثار كارثية في تغول الاستيطان والمستوطنين، وأدى إلى إقامة دولة استيطانية داخل الأراضي المحتلة عام 67.. كل ذلك يقود إلى أننا أمام نموذج مجسد لتركيبة عدوان وحرب استيطانية قائمة بحنكة فائقة من التزييف السخيف والمكشوف، مقابل غياب حنكة فلسطينية وعربية معطوفة على إرادة حقيقية لهزيمة المشروع الصهيوني.
وانطلاقاً من فكرة التطبيع العربي مؤخراً من الإمارات والبحرين ودول عربية أخرى في السر؛ مع الاستيطان ودعمه، ومساندة مشاريعه القائمة على العدوان والتزوير، وانطلاقا من سياسة عربية وفلسطينية بالغة في الغباء لمواجهة "حنكة" صهيونية ما كان لها هذا النجاح بدون هذه الدونية من الانبطاح والتسويف، يتضح أن هناك من لا يريد أن يفهم أن هناك حرباً أخرى تجري على الأرض؛ تدور رحاها على حياة الشعب الفلسطيني في معركة الاستيطان الاستعماري، هدفها تحطيم معنويات الفلسطينيين، وإلحاق الهزيمة بمشروعهم التحرري وتقوية شوكة المستعمرات، في محاولة لبعث الروح في "الدولة اليهودية" القائمة على أساطير وأكاذيب تلمودية وتوراتية؛ تنسف كل المزاعم عن الحلول السلمية وما تفتق عنها من تفاهمات لفظية، وأصبحت محل إعجاب المتصهينين العرب بغباء رسمي لن ينقطع؛ إلا بفهم الشعب الفلسطيني المستمر على الأرض لهذا العدو، ومقاومة خططه وبرامجه ومشروعه بحنكة تُسقط كل الوهم الذي يفصل الاستيطان عن مشروع الاحتلال.
twitter.com/nizar_sahli