هل من الرشد أن نطالب الحركات الإسلامية، وفي القلب منها جماعة
الإخوان المسلمين، بالابتعاد عن
السياسة والاكتفاء بالدعوة والأعمال الخيرية؟!
إخفاقات الإسلام السياسي في أكثر من بلد عربي، بعد الربيع العربي، لا بد أن تجعل من
الدعوة للابتعاد عن السياسة أمراً طبيعياً، ليس - فقط - لوقف التربص بهذه الحركات، ولكن - أيضاً - لوقف فتنة لا تصيبنّ هذا التيار خاصة. وقد شاهدنا أن الهزيمة التي طالت القوم دفعت الأوطان ثمنها، ومن مصر إلى اليمن، يا قلب لا تحزن.
في جلسة جمعتنا، بدا صديقنا الذي ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين في يأس دفعه لطرح هذا السؤال علينا: هل ترون أنه من الأفضل أن يبتعد الإخوان عن السياسة؟ وقد أجبته إجابة متسرعة بأن هذا هو الإجراء الصحيح. وأخذ كاتب إسلامي الميكروفون وأسس لضرورة الابتعاد، فليس معقولاً أن يكرر التاريخ نفسه، ومع كل هزيمة يبدأ التيار الإسلامي من الصفر، ليصل إلى نفس النتيجة في كل مرة!
وإذ قلّبت الأمر بعد ذلك على كافة الوجوه، فقد وجدتني لم أكن موضوعياً في هذه الإجابة، وعلى كل فبعد أيام قليلة، حدث ما جعل السائل نفسه يشعر بأن سؤاله كان وليد لحظة إحباط لا مبرر لها، فقد انتصرت حركة
طالبان في أفغانستان، وعادت للحكم معززة مكرمة، الأمر الذي يمثل بشرى عظيمة، فالغرب الذي رضخ لطالبان مع انتمائها للتيار الديني الأكثر تشدداً، لا بد أن يرضى بحكم المعتدلين منه، لكن هذا النصر لم يمنع من أن يطوي المغرب تجربة حكم حزب العدالة والتنمية، وبهزيمة قاسية، لنكتشف أننا أمام تجربتين مغايرتين، ونجاح هناك ليس مرتبطاً بأسباب الهزيمة هنا!
الأمر الذي يمثل بشرى عظيمة، فالغرب الذي رضخ لطالبان مع انتمائها للتيار الديني الأكثر تشدداً، لا بد أن يرضى بحكم المعتدلين منه، لكن هذا النصر لم يمنع من أن يطوي المغرب تجربة حكم حزب العدالة والتنمية، وبهزيمة قاسية، لنكتشف أننا أمام تجربتين مغايرتين
فرغم أن كلاً من المشروعين ينتمي للإسلام، إلا أن الفروق بينهما هائلة، فطالبان انتصرت بالعزيمة وعدم التفريط، وقد خسرت الحكم لرفضها تقديم تنازلات، وتعرضت لما هو فوق طاقة البشر، عندما حضرت الجيوش من كل العالم لسحقها، وكان المطلوب فقط هو تسليم الشيخ أسامة بن لادن، في حين أن عنوان تجربة
الإسلاميين في المغرب هو التفريط وتقديم التنازلات. وعندما ننظر إلى تجارب مهمة ومن مصر إلى السودان (في حكم الحركة الإسلامية)، نجد أن تجارب منطقتنا منبتة الصلة بالتجربة الأفغانية، ووثيقة الصلة بها في نفس الوقت!
فانتصارات طالبان في الأولى والثانية، مثلت انتصاراً للإسلام التقليدي لا الحركي. وقد شهدت أفغانستان نفسها هزيمة للأخير منذ قرابة ربع قرن، فالحركات الإسلامية، وقد نجحت في إزاحة الوجود الروسي من البلاد وإسقاط حكومة نجيب الله الموالية له، فإنها فشلت في مرحلة الحكم، وكان بأسها بينها شديداً، الأمر الذي جعل طالبان، القادمة من مجال التصوف، تدخل على الخط وتوقع هزيمة بالإسلام الحركي، وتحكم البلاد لثلاث سنوات، قبل أن تأتي قوات الغزاة الفرنجة وتطوي صفحة حكمهم إلى حين!
وإذا كان ثمة وصل بين الحالة الأفغانية والتجارب العربية، فهي في هزيمة الحركات الإسلامية على أيدي طالبان، ثم هزيمة أخرى لم تكن أقل منها وإن زادت عليها، فالإسلام الحركي في أفغانستان وإلى الاحتلال، وعاونه في حرب الإبادة ضد طالبان، وإذ مثّل هذا هزيمة هي الأكثر في البؤس، فلا بد من أن يمتد البصر بعيداً إلى العراق، عندما كان الإخوان هناك من أحزاب المولاة للاحتلال الأمريكي، وإلى الجزائر عندما كانوا من الموالين للانقلاب العسكري على إرادة الشعب الجزائري، وبرروا للعسكر جرائمهم التي استمرت لعشر سنوات، يتضاءل بجانبها ما فعله السيسي ضد إخوان مصر!
الغرب لم تكن لديه اعتراضات كبيرة بعد الثورة المصرية على تولي الإخوان الحكم، ومن هنا دخل الشيطان، دعك من محاولة ترويج الفشل على أنه تخطيط من مخابرات العالم أجمع، وبمساندة الماسونية، وربيبتها الصهيونية العالمية
عدم ممانعة:
ومما يؤسف له، أنهم في التجارب الثلاث، ومن أفغانستان إلى الجزائر مروراً بالعراق، لم يتقاضوا ثمن هذه العمالة، فلم يكونوا جزءاً من الحكم في أفغانستان، ولم يتمكنوا من المشاركة في الحكومة العراقية فقد تعرضوا للمطاردات، وعاشوا في الجزائر على الهامش، فهذه القدرة على التفريط لم يجنوا ثمارها، لنكون أمام قياس خاطئ بالحالة الطالبانية، وقبول الغرب لها مضطراً.
فالحقيقة، أن الغرب لم تكن لديه اعتراضات كبيرة بعد الثورة المصرية على تولي الإخوان الحكم، ومن هنا دخل الشيطان، دعك من محاولة ترويج الفشل على أنه تخطيط من مخابرات العالم أجمع، وبمساندة الماسونية، وربيبتها الصهيونية العالمية.
وإذ كانت الإدارة الأمريكية تلعثمت في الأيام الأخيرة للثورة، مخافة سقوط مبارك مع جاهزية حزب وحيد في الساحة هو حزب الإخوان المسلمين، فقد وصلت التطمينات بأنهم في الانتخابات البرلمانية سيكون الشعار المعتمد لديهم هو "مشاركة لا مغالبة"، ولن يتحصلوا على أكثر من الثلث، وأنهم لن ينافسوا على الانتخابات الرئاسية.
لكن حدث تعديل على الرؤية الغربية، فالوفود التي جاءت من واشنطن ومن الغرب عموماً لعقد مباحثات مع الإخوان، انتهت إلى القول: "ولمَ لا..؟". وقد يعتبر البعض هذا كميناً، لكن في العموم يمكن قراءته على أنه "عدم ممانعة"، وليس ترحيباً بحكم الإسلاميين، كان ينبغي أن يُقرأ في سياقه الطبيعي!
وإذا كان الغرب من باب المضطر قد قبل بعودة طالبان للحكم، فإن هذا القبول لا ينسحب على الحالة العربية. وبعيداً عن التفاصيل الكثيرة، فإن الموقف الغربي في التجربة المصرية كان عاملاً تابعاً، وليس مؤثراً، فموقف القوى المدنية مثّل غطاء للانقلاب العسكري، والموقف الغربي مع تباينه غطاه هذا الانقلاب، الذي لم يتخلق في دهاليز أجهزة المخابرات في العالم.
إذا كان الغرب من باب المضطر قد قبل بعودة طالبان للحكم، فإن هذا القبول لا ينسحب على الحالة العربية. وبعيداً عن التفاصيل الكثيرة، فإن الموقف الغربي في التجربة المصرية كان عاملاً تابعاً، وليس مؤثراً، فموقف القوى المدنية مثّل غطاء للانقلاب العسكري، والموقف الغربي مع تباينه غطاه هذا الانقلاب
ونجاح الانقلاب في جزء منه يرجع للحسابات الخاطئة للحكم الإخواني، الذي لم يعمل على احتواء المعارضة وتفكيكها، لثقته بأنه يملك الحسم عن طريق الانتخابات، ومعه القوة العسكرية ممثلة في انحياز السيسي للمشروع الإسلامي، وإبعاد الساسة والثوار من جانب الإخوان عن المسار، لصالح تيار التنظيم!
أما هزيمة تجربة حكم الحركة الإسلامية في المغرب، فلم يكن للغرب فيها أي حضور، فلم يثبت أن الغرب قد اعترض على الملك عندما سمح للإسلاميين بالصعود، ولم يدفع الشعب المغربي لإسقاطهم وإخراجهم من دائرة الحكم، فما جرى هو سقوط بالإرادة الشعبية الخالصة، فماذا بقي من العدالة والتنمية ليتحمس المغاربة لإعادة انتخابه؟!.. وما ظلمناهم!
ومن هنا فلا قيمة حقيقية لتمرير الغرب (إن صح التعبير) لعودة طالبان للحكم، باعتباره يمثل قبولا لحكم الإسلام السياسي في العالم العربي.
مباراة اعتزال:
ونأتي لأصل الأزمة، وهو عمل الإسلاميين بالسياسة، فهل إذا اعتبروا تجاربهم الفاشلة هي مباراة اعتزال قد ينصلح الحال، ونسقط أعداء الأنظمة التقليدية لمبدأ الشعب صاحب السيادة؟!
إن جزءاً من عدم قراءة المشهد بحالته إنما يرجع إلى الحروب المقدسة التي تستهوي البعض، فعزل القوم إنما يرجع إلى العداء للإسلام، فعبد الناصر ضد الإسلام، تماماً كما أن السيسي ضده، وتَمثّلَ هذا العداء منهما في الحملة على الإخوان. وعندما يغيب المنطق فمن الطبيعي الدخول في غيبوبة تحول دون التفكير السليم، وكل ما يقال عن السيسي الآن قيل في حق جمال عبد الناصر؛ من كونه يهودياً، أو من سلالة يهودية، وأن الموساد زرعه! وفي مناخ كهذا كيف يمكن لنا قراءة المشهد، لاستخلاص الدروس؟!
هذا يقود إلى قراءة المشهد من خلال تحد آخر، وهو العداء للديمقراطية ولحكم الناس، سواء كان الصندوق في الأولى لصالح الوفد، أو في الثانية لصالح الإخوان، وإن كان حكم الإخوان مثّل اعتراضاً في الشارع، فإن الأزمة مع الوفد لم تشايعها سوى النخبة
لقد سبق عداءَ عبد الناصر للإخوان؛ تحالفُ الإخوان وعبد الناصر في العداء لحزب الوفد والتنكيل بقياداته؟!
وتزامن عداء عبد الناصر للإخوان مع عدائه لليسار، وعندما تطالع مذكرات الكتاب الشيوعيين مثل فتحي عبد الفتاح وغيره، فإن التعذيب البشع الذي وقع عليهم لا يختلف عن التعذيب الذي جاء في كتابات الإخوان، وكان أفضل من عبّر عن التجربة هو أحمد رائف في "البوابة السوداء".
وهذا يقود إلى قراءة المشهد من خلال تحد آخر، وهو العداء للديمقراطية ولحكم الناس، سواء كان الصندوق في الأولى لصالح الوفد، أو في الثانية لصالح الإخوان، وإن كان حكم الإخوان مثّل اعتراضاً في الشارع، فإن الأزمة مع الوفد لم تشايعها سوى النخبة.
وهناك بعد مهم لا يتطرق إليه أحد، ويمثله هذا السؤال: هل التيار الإسلامي، وفي القلب منه الإخوان المسلمون، مؤهل لاعتزال السياسة طواعية؟!
إنني أدرك أن طرح الأمر للنقاش الآن هو بسبب هذه الأزمة الحادة، لكن في مناخ حر هل يمكن هذا؟!
إن من طرح علينا السؤال وكله استعداد لقبول وجهة نظرنا المخالفة، لأنه كان جاداً فعلا، تغير موقفه بعد عودة طالبان للحكم، وهذا هو بيت القصيد، وبدون فهم هذا سنظل ندور في حلقة مفرغة!
لقد بدت الجماعة الإسلامية مع المراجعات وكأنها مستعدة لأي تنازل للنظام، وليس مستبعداً إطلاقاً أنهم كانوا بداخلهم يقدمون هذه التنازلات بصفاء نفسي، لكنه كان صفاء زائفاً، وعندما قامت الثورة كانوا في قلب ميدان التحرير، بل ويقفون موقفاً عدائياً ضد قياداتهم التي أقدمت على خطوة المراجعات وكانوا من قبل يقبلون أيديهم!
هناك بعد مهم لا يتطرق إليه أحد، ويمثله هذا السؤال: هل التيار الإسلامي، وفي القلب منه الإخوان المسلمون، مؤهل لاعتزال السياسة طواعية؟!
مقولات البنا:
إن البعض الآن يستدعي مقولات للإمام البنا يندم فيها على العمل بالسياسة: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لرجعت بالجماعة إلى أيام المأثورات"، واتفاقه مع المناضل فتحي رضوان على أن يكون الإخوان هم الظهير الشعبي للحزب الوطني، على أن يتفرغ هو للدعوة!
وفي اعتقادي أنها مقولات مرتبطة بمحنة حلت بالجماعة، بدليل أن هذه المقولات لم يستدعها أحد إلا الآن، وفي أجواء أزمة وفي ظل الشعور باليأس والإحباط. وقد كانت هذه المقولات غضة عندما اندفعت الجماعة للعمل السياسي من بعده، فالمرشد العام الثاني للإخوان، وإن عمل كل ما في وسعه من أجل التخلص من النظام الخاص، إلا أنه لم يبذل جهداً في الابتعاد عن السياسة، وإذا كانت أزمة 1954 مع عبد الناصر انتهت بما يشبه التفاهمات على إنهاء التنظيم، فقد انزعج عبد الناصر عندما تابع توزيع كتاب لسيد قطب وهتف: هذا الكتاب خلفه تنظيم، لتكون بداية محنة 1965!
ومع أنها محنة قوية، كان من نتاجها أن يخرج الإخوان من السجون ليعملوا بالقرب من النظام، بالصيغة التي أرادها السادات، إلا أنهم اندفعوا في اتجاه البرلمان في بداية عهد مبارك!
وليس عندي اعتراض على ذلك، فما يعنيني هو تفهم الحالة، وأن أفكار المحنة لا تعبر عن الحقيقة، وأن تصور أن الإخوان يمكن أن يصلوا إلى قناعة بمغادرة السياسة بنفس راضية هو سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، لأن السياسة جزء من جينات التيار الإسلامي الحركي!
ثم ماذا يفعلون إذا تركوا السياسة؟ الدعوة وأعمال الخير؟ ومن قال إن الدعوة وأعمال البر والإحسان والعلاج المجاني للفقراء لم يكن يستهدف التكامل مع الرغبة في العمل السياسي، واكتساب شريحة كبيرة من المؤيدين، ليس للاستقامة الدينية (فليسوا جماعة الدعوة والتبليغ)، ولكن للتأييد الشعبي؟!
الناس في مرحلة البراءة السياسية سيتعاطفون حتماً مع الإخوان، صحيح أنه لو أجريت انتخابات حرة اليوم فلن يحصل الإخوان فيها على كثير من الأصوات لحداثة تجربة الفشل، لكن عندما يكون الناس أحراراً بالكامل فأعتقد أن هذه التجربة ستمثل رصيدا مضاعفاً لهم
وهناك تحد لا يمكن إغفاله، وهو رأي الجماهير التي قد تتأثر بالاضطهاد والظلم الذي يقع على الإخوان، وفكرة عدم حمل الجماعة على عدم الاستفادة من ذلك قد تكون غير مجدية، فقد تأثرت به في صباي وأظن أن كثيرين تأثروا بما جرى لهم في سجون عبد الناصر، وإن اختلفت الاتجاهات بسبب هذا التأثر، وإذ اقتصر في حالتي على العداء لتجربة جمال عبد الناصر، ثم الانحياز للحرية، ثم تطور الأمر للعداء لحكم العسكر، فإن هناك من دفعهم التأثر للانضمام للإخوان، وهناك من تأثروا حتى العداء للإخوان وجلاديهم معا، وقرروا ألا يكونوا كالإخوان بضعفهم في مواجهة السلطة، ومن هنا كانت جماعات العنف الديني!
والناس في مرحلة البراءة السياسية سيتعاطفون حتماً مع الإخوان، صحيح أنه لو أجريت انتخابات حرة اليوم فلن يحصل الإخوان فيها على كثير من الأصوات لحداثة تجربة الفشل، لكن عندما يكون الناس أحراراً بالكامل فأعتقد أن هذه التجربة ستمثل رصيدا مضاعفاً لهم.
دعك من الحديث عن نزاع القيادة، وهو صحيح، وعن ضعف التنظيم، وهو صحيح أيضاً، فكل هذا لا قيمة له عند الناس، ولو كان التنظيم عظماً في قفة!
إن الحديث عن إبعاد الإخوان عن السياسة هو إضاعة للوقت في ما لا يفيد، فعند أول منعطف سيكتشف الجميع أن شهيتهم مفتوحة للسياسة والحكم، وبعيداً عن مجال التفكير الحر فكل ما يقال هو حرث في الماء.
إن أي مخطط مستقبلي يقوم على الفصل بين الإخوان والسياسة هو أبتر!
twitter.com/selimazouz1