قضايا وآراء

ميدان رابعة: البقعة المباركة

1300x600
يتفق المسلمون على وجود ثلاثة أماكن مقدسة في العالم؛ هي المسجد الحرام بمكة المكرمة ومسجد المدينة المنورة والمسجد الأقصى بالقدس الشريف، وسبب الاتفاق على قدسية هذه المناطق الثلاث هو أنها ذُكرت وامتدحت في أهم مراجع الإسلام وهو القرآن الكريم. وتوجد أماكن أخرى متميزة ومشهورة بين الناس لكنها ليست مقدسة، مثل جبل أُحُد كما جاء في الحديث الشريف: "هذِه طَابَةُ، وَهذا أُحُدٌ، وَهو جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ"، ومثل مقابر البقيع، هذا بجانب حرمة المساجد والجوامع المنتشرة في أرجاء المعمورة وخضوعها لأوضاع مختلفة ولمعاملة خاصة، خلاف باقي الأماكن العادية والمعهودة لدى الناس.

ومنذ أيام مرّت بنا الذكرى الثامنة لوقوع مذبحة ميدان رابعة، والتي ذكّرت من عاصر تلك الفترة بما حدث فيها وما نتج عن وقائعها من نكبات.

يقع ميدان رابعة في مدينة نصر شرقيّ القاهرة، وهو في الحقيقة لا يحمل مواصفات الميدان مثل ميدان التحرير في القاهرة أو المنشية في الإسكندرية، بل هو تقاطع مروري فسيح للمركبات، والطرق المتصلة به عريضة وواسعة، وتطل على ساحته مجموعة من البنايات الكبيرة ومسجد رابعة العدوية التابع لوزارة الأوقاف المصرية.

وتُعدّ هذه المنطقة في الأساس من أحد أهم المناطق العسكرية الموجودة في مصر، حيث توجد فيها الأمانة العامة لوزارة الدفاع ومساكن ضباط القوات المسلحة وعمارة كبار القادة العسكريين أثناء حرب العاشر من رمضان، بالإضافة إلى مصنع قادر الخاص بوزارة الإنتاج الحربي. وفي عام ٢٠١٥م غيّر الكيان الانقلابي اسم ميدان "رابعة العدوية" إلى ميدان "هشام بركات"، وهو النائب العام الذي "أمر" بفض اعتصام رابعة وتمّ قتله فيما بعد في تفجير سيارته في شارع بمصر الجديدة، وهناك شكوك حول قتلته الحقيقيين لكن كيان السيسي أقدم على إعدام تسعة من شباب مصر بعد محاكمة هزلية مفضوحة، مما يشير إلى أنهم أبرياء لقوا نفس مصير المصريين الخمسة الذين اغتالتهم قوات السيسي للإيحاء بأنهم من عذّبوا وقتلوا الطالب الإيطالي جوليو ريجيني.

ويظهر أن السيسي يشعر بعقدة الذنب وبحساسية خاصة حول تغيير اسم الميدان من رابعة إلى هشام بركات، وذلك حينما امتعض وقت أن كرّر اللواء إيهاب الفار مدير الإدارة الهندسية للجيش أمامه اسم رابعة بدلا من هشام بركات، وقطعا أحرار مصر لن يقبلوا ترديد اسم مجرم قاتل ساعد خائنا عميلا على إرسال معارضيه إلى المقصلة.

وحين راودت أتباع الرئيس الراحل محمد مرسي وغيرهم من مناصري الشرعية فكرة الاعتصام للاحتجاج على التظاهرات المناوئة لحرية اختيار شعب مصر في أول انتخابات عامة حرة ونزيهة، وكان مقررا مواجهة تجمعات ٣٠ حزيران/ يونيو وما أعقبها من الانقلاب العسكري واختطاف الرئيس الشرعي محمد مرسي، فكان ميدان رابعة اختيارا موفقا وحكيما، وكان أفضل الأماكن المتاحة لسبب رئيس وهو تحاشي الاصطدام مع مؤيدي انقلاب العسكر نتيجة بُعده عن الميادين والأماكن الأخرى، بالإضافة إلى مساحته التي تستوعب الآلاف من أبناء مصر المناصرين للشرعية.

بدأ المواطنون من كل بقاع مصر في التوجّه صوب ميدان رابعة ومعهم مصريون حضروا خصيصاً من خارج القطر، ونصبت أدوات تصوير القنوات الفضائية للبث المباشر لباقي مصر بل للعالم، وأفلح المنظمون في وضع مراقبين على بوابات أقاموها لمنع تسريب الأسلحة داخل مكان الاعتصام ولمنع المشاغبين ومثيري الفتن من الاختلاط والتخفي وسط جموع المناصرين للشرعية.

وبحلول شهر رمضان ذاك العام تحوّل الميدان إلى ساحة مفعمة بالإيمان واليقين والتجرّد والصفاء، ومعطرة بالودّ والمحبة والسلام والسموّ. واستمر هذا الوضع خمسة وأربعين يوما، وكل هدف المجتمعين هو عودة شرعية الحكم الذي اختاره أهل مصر، وطبيعي أن يعرج هدفهم على محاسبة الذين خانوا قسمهم وعهودهم وأماناتهم. وسمّت منظمة "هيومان رايتس ووتش" بعضا منهم، وهم الذين قادوا قوات الجيش والشرطة في مباغتتهم للعزّل المسالمين من أبناء مصر أثناء تواجدهم داخل ميدان رابعة.

وبتوحّش غير معهود وإذن بالقتل غير محدود وبكُرهٍ وغلّ دفين وحقود، بدأ فض اعتصام رابعة في السادسة صباحا يوم الأربعاء ١٤ آب/ أغسطس 2013، وبحلول المساء كانت آلات الغدر وقوات الخيانة قد عملت في المصريين السلميين ما لم يفكروا فيه - ناهيك عن القيام به - أمام العدو الخارجي حينما فروا أمامه مرتين ليحتموا بهؤلاء المصريين البسطاء.

وتضاربت يوم رابعة أرقام الشهداء من أبناء مصر والجرحى والمفقودين، وهذا صحيح، فلم يكن وراء كل جندي أو شرطي أو قناص أو جرافة عملاقة أو حوامة في السماء مَن يَعدّ خلفه كمْ قَتل وكم أصاب وكم جرف أمامه من الأحياء والجرحى والأجساد المتفحمة، وكم قتل الجنود من الجرحى بمستشفى الميدان ومسجد رابعة وساحاتها ليسهل الانتهاء من الفض بقتل كافة المحتجين.

ورابعة هي أكبر المذابح التي اقترفها السيسي وعصاباته، وهي تمثّل عشرات المذابح - صغيرها وكبيرها - التي ارتكبت ضد فئات الشعب المصري برجاله ونسائه وأطفاله في طول البلاد وعرضها.

وهناك سُنة متبعة في الكثير من دول العالم، ألا وهي تخليد ذكرى قتلاها وشهدائها الذين سقطوا في معارك الدفاع عن الوطن، أو قُتلوا ظلما وعدوانا، أو ماتوا في حوادث ما يسمى بالكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات بأن يتم اختيار نفس مكان الحادث أو انتقاء موضع لهم يليق بذكراهم. وأبرز ما لدينا من أمثلة هو أماكن دفن قتلى الحلفاء في الحرب العالمية الثانية أينما سقطوا سواء في مصر أو غيرها، وشهداء سربرينيتسا.. ونرى أن تظل ذكرى رابعة حيّة ومستمرة تتذكرها الأجيال المتعاقبة؛ ذكرى الشهداء في المقام الأول ثم ذكرى القتلة الخونة، وعليه يمكن التقدم بهذا الاقتراح إلى المجلس الثوري المصري ليتبنى المشروع، أمّا لماذا وقع الاختيار على ميدان رابعة فللأسباب الآتية:

أولا: شارك في اعتصام رابعة الآلاف من المصريين من كافة الأعمار.

ثانيا: اعتصام حضاري سلمي شفاف دستوري كان يشاهده العالم ليل نهار.

ثالثا: هدف سامي ونبيل يقوم به قطاع من شعب مصر بغية إنقاذ حرية الشعب وديمقراطية الحكم.

رابعا: استشهد في نهايته الآلاف خلال ساعات قليلة.

خامسا: لم تتم محاسبة أي قاتل للآن، بل حوسب المعتصمون ونال بعضهم عقوبة الإعدام وهم أبرياء.

سادسا: الرغبة في التذكير دائما برابعة ضد غرض الانقلابيين طمس الاسم.

وملخص المقترح المقدم إلى المجلس الثوري المصري يشمل تأليف لجنة تشرف على المشروع وتبدأ في التنفيذ حال سقوط الكيان الانقلابي، وأوله منع أو تقييد المرور في الميدان لوقف الضوضاء فيه، وإنشاء حائط كبير يتحلى بأسماء الشهداء، وحائط آخر منبوذ يحمل أسماء القتلة الذين خططوا أو وافقوا أو أمروا أو نفذوا عملية فض الاعتصام في الميدان، وكذلك متحف لما تبقى من الممتلكات الشخصية للمعتصمين. ويتمّ دمج تفاصيل المذبحة في المقررات الدراسية حسب الأعمار، ويُدعى التلاميذ والشباب وجمهور المصريين بترتيب وتنظيم زيارات للميدان مصحوبة بمرشد يشرح لهم المأساة.

وإن كانت ذكرى رابعة تطارد السفاح الأكبر وأعوانه وحرصه على شطبها من تاريخ مصر، فإنها لن تختفي أو تموت من ذاكرة المصريين وأحرار العالم: "ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، فقدَرُ ميدان رابعة أن يحتوي الآلاف المؤلفة أسابيع متعاقبة، وقدره أن يرتوي بأنهار الدماء الزكية الطاهرة، فأصبح حتما مساحة طيبة مباركة، وبقعة نقية صالحة، وأرضاً متميزة محظوظة استشهد فوقها الآلاف من المؤمنين المخلصين لدينهم ووطنهم ومبادئهم ومستقبلهم..